لم يدر في خلد الفاتيكان، أثناء إعداد برنامج السنة، أن زيارة البابا بندكتس السادس عشر إلى تركيا في نهاية تشرين ثاني الحالي ستأتي بعد زيارته إلى ألمانيا بهذا الشكل، فزيارة ألمانيا وما رافقها بعد محاضرة البابا الشهيرة في جامعة ريغينسبورغ ، وحدث ما حدث من سوء فهم ومن أعمال عنف ذهب ضحيّتها راهبة تعمل في الصومال وأحد الكهنة الأرثوذكس في الموصل، وهذا بعد أشهر من مقتل كاهن إيطالي كان يعمل في تركيا احتجاجاً من أحد الشباب quot; المتحمّسينquot; على رسومات الدانمارك. إنَّه عالم يغلي ويتأجج لعنف وصراع quot;الجهالاتquot; حتى لا نقول الحضارات والديانات.
البابا ذاهب إلى تركيا، في أول زيارة له إلى بلد مسلم، منذ بدء حبريّته في نيسان 2005، وقد جعلتها زيارته إلى ألمانيا أكثر صعوبة، نظرا للتوترات التي حصلت. ولا مجال لإلغاء الرحلة أو تأجيلها، وفي هذا الوقت صرّح بيان رسمي صادر عن الحكومة التركيّة أنّ رئيس الحكومة لن يكون على رأس مستقبلي بابا روما، وربّما كانت رغبة تركيّة مبطّنة لإلغاء الزيارة التي تحتاج إلى إجراءات أمنية غير عادية. الفاتيكان بدوره قلل من أهمية اعتذار أردوغان عن استقبال البابا وقال بأنّه كان على علم مسبق بارتباطه في اجتماع حلف الناتو في ليتوانيا ، فهل سيكون الناتو من جديد مخرجاً دبلوماسياً لبقاً لاعتذار رئيس وزراء الدولة العلمانية التي تسيطر عليها الأحزاب السياسية الإسلامية؟ انّه بالفعل مهرب حقيقي لأردوغان الذي لا يريد السلام على حبر أعظم تكلم في سبتمبر الماضي عن الإسلام بطريقة لم تعجب المسلمين رغم غزارة المبادرات التي قام بها الفاتيكان لتوضيح موقف quot; رئيسهquot; . وسيلتقي البابا في اليوم الأول مع المفتي الأعلى لتركيا علي بارداك اوغلو الذي كان من اشدّ المحتجين على المحاضرة . لكنّ تركيا غاضبة قبل ذلك من الفاتيكان الذي كان على غير موافقة لانضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي، وهذا بالنسبة لحكومة أنقرة مسألة حياة أو موت لمستقبل تركيا. وهنالك تحليلات تجعل من عدم اجتماع أردوغان مع البابا أكثر خطورة، عندما تتحدّث عن رغبة أردوغان تجنّب اللقاء لأسباب محلية انتخابية، وذلك حتى لا يثير غضب قواعده الإسلامية مع دخول البلاد العد العكسي للانتخابات النيابية المقبلة.
الفاتيكان، ورغبة في اتقاء أي سوء فهم جديد مع العالم الإسلامي، قال على لسان مسؤوليه في داخله أن زيارة البابا لا تهدف إلى التركيز على العلاقات مع المسلمين بل مع الأرثوذكس، وهنا إشكال آخر. فالقسطنطينية تقول أنها quot;أمّ الكنائسquot; الأرثوذكسية أو الكنيسة المسكونية التي تمثل كنائس العالم الأرثوذكسي كافة وهي كنائس مستقلة لا وصاية إدارية للواحدة على الأخرى ( 9 كنائس أو بطريركيات وهي بطريركية القسطنطينية و بطريركية الاسكندرية و بطريركية انطاكيا و بطريركية أورشليم في فلسطين و بطريركية روسيا و بطريركية صربيا و بطريركية رومانيا و بطريركية بلغاريا و بطريركية جيورجيا). فبطريرك روسيا أو موسكو صرّح بأن القسطنطينية لا تمثله وبالتالي لن يكون هنالك تأثير على كنيسة موسكو في حال توصّل البابا والبطريرك برتلماوس الأول إلى اتفاق معين، مثل توحيد الأديان شرقاً وغرباً وهي إحدى القضايا العالقة منذ قرون. وقد صرّح البطريرك، في زيارته لليونان قبل أيام بأنّ زيارة البابا quot;ستشكل فرصة سانحة لتعزيز العلاقات بين مختلف الكنائس المسيحيةquot;. وبالفعل، تتضمّن الزيارة إضافة إلى زيارة البطريرك الأرثوذكسي زيارة إلى كاتدرائية الكنيسة الأرمنية الرسولية وسيلتقي البابا بالبطريرك مسروب الثاني. كما سيلتقي قداسته ميتروبوليت السريان الأورثوذكس.
وهكذا، بإمكان الزيارة القريبة لخليفة القديس بطرس أن تكون سيرا في حقول من الألغام، أو في حقول من الانسجام. وإنّنا ندعو الله، أوّلا ، أن تسهم هذه الزيارة المرتقبة والساخنة في تنمية العلاقات بين المسيحيين والمسلمين وليس في إعطاء إشارات قد تجعل الأمر متوتراً كما يريده البعض أن يكون، فالحوار الإسلامي المسيحي هو ضرورة حتميّة ولم يعد ترفاً فكرياً تدور ملفاته في قاعات مغلقة، فإمّا أن ننقذ العالم من استخدام الدين استخداماً عنيفاً وإمّا أن نفتح أبواب جهنم على مصاريعها للخوض في صراعات دينية قديمة ومستجدة لن تكون قصيرة أو لطيفة أو قليلة الدماء.
ثانياً يهمّنا من الزيارة أن تسهم في تطوير العلاقات المسيحية - المسيحية أيضاً، وبخاصّة بين الكنيسة الكاثوليكية التي يمثلها القديس بطرس والكنيسة الأرثوذكسية في القسطنطينية التي يمثلها القديس اندراوس شقيق بطرس، فالكنيستان شقيقتان، والحكم الإداري ليس هو الأساس، وقد دعا البابا يوحنا بولس الثاني في زيارته لليونان إلى إعادة النظر بعلاقة بابا روما مع البطريركيات الأرثوذكسية. يهّمنا أن نرى المسيحيين واحداً كما أرادهم المسيح أن يكونوا. وما نشهده اليوم هو تفاقم الانقسام والحيلولة دون أن يكون قلب المسيحي على قلب أخيه بالمحبة والتضامن والتكافل والصفاء.
أجل، مؤلم أن نرى الكنيسة في القرن الحادي والعشرين ما زال أبناؤها المسيحيون من كل الطوائف والجماعات متباعدين وبخاصّة بين الرؤساء الروحيين الذين هم أولى الناس بإعطاء المثل والقدوة والصورة الصحيحة للمسيحيّة وقد أرادها المسيح واحداً، حيث صلى قبل موته على الصليب من أجل quot;أن يكون أتباعه واحداًquot;، وكأنها وصيّته الأعزّ والأغلى على قلبه. فالوحدة المسيحية، أو بالأحرى الانقسامات المسيحية، ما زالت جرحاً غائراً في جسم الكنيسة وباتت الحاجة ملحة للصلاة والعمل الجدي البعيد عن المجاملات وعبارات quot; الزمالةquot; أو الصداقة العابرة. فهل تسهم الزيارة المرتقبة للبابا إلى تركيا في وضع لبنة جديدة في بنيان الوحدة الذي ينشده المسيحيون شرقاً وغرباً؟ نتمنّى ذلك، ونحن متفائلون، سيّما أنّ البطريرك برتلماوس الأوّل قد تعلم في إحدى الجامعات الكاثوليكية التي يشرف عليها الفاتيكان في مدينة روما، وهذا سيساعد بدون شك على مزيد من التقارب بين الكنيستين الشرقية والغربية.
بعيداً عن تقارير مجلس أوروبا حول عدم التطوّر الملموس أو المطلوب لتركيا كشروط أساسية لدخولها في الإتحاد الأوروبي وبخاصة في مجالات الحرية الدينية وحقوق الأقليّات الدينيّة والاثنيّة فيها، وبعيداً عن موقف الفاتيكان المؤيّد أو الرافض لهذا الدخول، ينبغي أن نتمنّى نجاح الزيارة وإسهامها الكبير في دفع عجلة العقلانية في السياسة والعقلانية في الدين في عالم بات يشدّ نحو التصادم المبني على أسس دينية مغلوطة وجزئيّة ومشوّهة.

الأردن
[email protected]
www.abouna.org