أمر طبيعي متوقع أن تكون نظم وفكر الكنيسة المصرية الأرثوذكسية ممثلاً لما يسود في مصر حالياً من ثقافة ونظم، حتى وإن كان في هذا صدمة لما يسود داخل الكنيسة من تصور، أنها سماء أرضية أو أرض سماوية، فليس صحيحاً أن الكنيسة مكونة من ملائكة يقودهم ملائكة، بل هي مكونة من بشر هم مصريون حتى النخاع، تتمثل فيهم كل ملامح الشخصية المصرية بسلبياتها وإيجابياتها، ربما تكون المؤسسات الدينية هي الكيانات الأقرب للأخلاقيات والمثل العليا بحكم طبيعتها وهويتها، لكن هذه الهوية لا يمكن أن تتجاوز حقيقة أن القائمين عليها بشر من لحم ودم، وأن أفكارهم وممارساتهم تتحكم فيها الظروف الواقعية الأرضية، وليس فقط العقائد والتعاليم المقدسة، وأي ادعاء يمنح القداسة للبشر، بدعوى أنهم ممثلين لرسالة سامية هو ادعاء زائف، وتوظيف للقداسة والدين لخداع النفس، ولخدمة أغراض شخوص قادة تلك المؤسسات الدينية، وليس أبداً كما يدعي هؤلاء من قبيل الذود عن حياض الدين والعقيدة، وأظن أن هذا ينطبق على جميع مثل تلك المؤسسات، أياً كانت هويتها الدينية.
نستطيع عبر حالة الحراك الفكري الدائر بمصر حالياً أن نلمح العديد من العناصر والملامح المشتركة، التي تجمع بين سائر المؤسسات المصرية، ومنها كنيسة مصر القبطية الأرثوذكسية، هو ذات المنطق يتحدث ويفكر به الجميع، بل وذات العبارات والأكلاشيهات تتردد هنا وهناك، قد تحتاج أحياناً لتبديل بسيط لبعض المصطلحات أو لا تحتاج، لتكتشف أن ذات المقولة مستخدمة في مختلف الدوائر، وربما هذه الملحوظة بالتحديد هي الإيجابية الأولى أو الوحيدة لهذه الحوارات الأشبه بحوار الطرشان، فهذا الافتضاح للجميع يسحب البساط من تحت أقدامهم، ويهدم السواتر التي يتمترسون خلفها، سواء بدواعي الوطنية أو القداسة.
الساتر الأول هو ادعاء أن توجيه النقد لفكر وممارسات القيادة هو عداء لما تمثله المؤسسة أو الكيان، فنقد القيادة السياسية يصور كما لو كان عداء للوطن وخيانة للوطنية، ونقد فكر وممارسات قادة الكنيسة يصور على أنه عداء للكنيسة، وهرطقة عن عقيدتها الأرثوذكسية، ولابد والحالة هذه أن يعتبر من يتجرأ على النقد من الساعين لهدم الكنيسة، ولابد وأن يذكر له البعض أن quot; كل آلة وجهت ضدها لا تنجح، وأن أبواب الجحيم لا تقوى عليها quot; كما يقول الكتاب المقدس، هو إذن التوحيد بين شخص القائد والكيان المعنوي ذاته، فعندما يقول أحدهم quot;أنا الدولةquot; أو quot;أنا الكنيسةquot; فإن هذا يعني خللاً في النظام وفي الفكر والثقافة السائدة.
الساتر الثاني هو افتقاد الشفافية، أي التعتيم والتكتم حفاظاً على سمعة الكيان الحبيب الذي نعتز به، فالذين يتحدثون أو يكتبون عن الشمولية وممارسات النظام السياسي القمعية وعن الفساد المستشري في أجهزة الدولة يصورون على أنهم يسيئون لسمعة مصر بنشر quot;الغسيل القذرquot; على العالم، وهنا الملهاة المأساوية، أن يتحول المتهم وصاحب quot;الغسيل القذرquot; إلى قاض ومدع عام، ليحاكم الضحية أو المتشكي من quot;قذارة الغسيلquot;، هكذا أيضاً الأقباط المحبون لكنيستهم، يزعجهم كثيراً أي حديث عن أخطاء داخل الكنيسة، ونحن لا نستنكر انزعاجهم هذا، لكننا نفترض أنهم بعد استهلاك بعض الوقت في الانزعاج أن يستديروا ليتبنوا حقيقة ما انزعجوا له من ادعاءات، تمهيداً لتلافي ما يثبت صحته منها، من المفترض القيام بهذا حباً واحتراماً لأنفسهم ولكنيستهم العريقة، لكن أن يتوقف الأمر عند الانزعاج ورجم الناقدين وتكميم أفواههم ولا شيء أكثر، فهذا هو ما نتهم به النعامة بأنها تدفن رأسها في الرمال لكي يختفي الخطر لمجرد أنها لم تعد تراه، هل حرص الأقباط على أن يظهروا أمام إخوانهم المسلمين على أنهم ملائكة بلا أخطاء ndash; تخوفاً من الشماتة ndash; أهم لديهم من حقيقة واقع مؤسستهم الدينية التي ينتمون إليها، وتنتمي بدورها للوطن الذي نسعى لتطوير جميع مكوناته؟!!
أحادية الفكر والجمود سمة مشتركة لكل مكونات الوطن، فجميع أفكارنا صحيحة صحة مطلقة ومقدسة، وأي نقد أو مراجعة ليس ركناً أساسياً وآلية ضرورية لحيوية وتطور حياتنا وسط عالم دائب التغير، لكنه مروق وعدائية من قلة، قد ننعتها بالجهل أو الخيانة والكفر أو بالارتزاق، تتعدد الاتهامات والمنهج واحد، منهج الجمود والتخلف عن مسايرة تيار الزمن، والعجز عن التعديل والتحسين المستمر، والذي يحول دون تراكم الأخطاء حتى نقطة الانفجار أو الانهيار، وهو المنهج الذي أودى بالمعسكر الاشتراكي بكامله.
وإذا كانت المؤسسات المكونة للوطن المصري تتعدد بتعدد مجالات الحياة، سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية، فأنه من الملاحظ أن المؤسسات السياسية قد تطورت إلى حد ما في العقود الأخيرة، من حيث نظرتها للمعارضة ولو رسمياً ومظهرياً فصارت تعتبرها جزءاً من النظام، وتتشاور معها في العديد من الأمور، في حين مازالت المؤسسات الدينية ومنها الكنيسة الأرثوذكسية(في غير المسائل العقائدية واللاهوتية الثابتة بطبيعتها) مصرة على أحادية الخطاب وجموده،، ومصرة على إشهار سلاح الهرطقة (الزندقة)، في وجه كل من يتجرأ على التفوه برأي مخالف ndash;ولو بعض الشيء- للسائد!!
طغيان دور الفرد القائد على سائر الأدوار المفترض أن تضطلع بها -ضمن النظام- لجان متخصصة، هو ملمح مصري آخر متجذر في أداء الكنيسة، سواء عند القمة، أو عند القاعدة في مختلف الكنائس في ربوع البلاد، فهذه بكل منها لجنة رئيسية من العلمانيين لإدارة شئون الكنيسة، والعديد من اللجان الفرعية لمختلف الأنشطة الكنسية، والتي تمددت في العقود الأخيرة، لتشمل التعليم والرعاية الاجتماعية والصحية والسياحة والرياضة وغيرها، وجميعها عدا مجال العلاج الصحي تقدم للأقباط فقط، بما يهدد بشق خطير للوطن والشعب الواحد.
يرجع طغيان دور الفرد على دور المجموع هذا إلى عدة عوامل:
middot; الثقافة الشمولية الأبوية السائدة بالمجتمع، والتي تركز على دور الأب القائد والملهم، الذي ينصاع الجميع لأوامره، ويستشعرون الأمان بالارتكان إليه، وحتى حين ينقمون يوجهون نقمتهم إليه، فما نسميه بثورة يوليو 1952 قد اختزلت كلها في شخص جمال عبد الناصر، يهتف المؤيدون باسمه، ويصب المعارضون عليه اللعنات، ونفس هذا نجده في الكنيسة القبطية، فعندما يعقد لقاء لتقديم quot;رؤية علمانية للإشكاليات الكنسيةquot; يؤخذ الأمر على أنه طعن في شخص البابا شنوده، ويكون الرد المعتاد على مقولات وتوصيات اللقاء هو تعداد إنجازات البابا والتأكيد على محبته والدعاء له، أي غياب تام لدور المجموع في ذهن القائمين على الأمور والجماهير.
middot; طبيعة فكر الكنيسة وخطابها العقيدي الذي يعمل في ظله وبالتشبع به العلمانيون من نشطاء الكنيسة وأعضاء لجانها ومجالسها الملية، وهو الفكر الذي يعطي للكهنة ورؤسائهم قداسة لا تقتصر فقط على جانب العبادة والعقائد الإيمانية، وإنما تمتد إلى كل ما يتعلق بالحياة بصفة عامة وشاملة، وليس فقط أمور الكنيسة وأنشطتها، فالمؤمنون الأقباط صاروا في هذه الأيام يستفتون الكهنة في أدق أمور حياتهم الشخصية، ومن غير المتوقع والحالة هذه أن يقوم العلمانيون بدورهم الأساسي في إدارة الكنيسة، إذا كانت أمور حياتهم الشخصية يقوم فيها الكاهن بدور المرجعية المقدسة.
middot; غياب اللوائح والنظم الرسمية والمحكمة التي تحكم العمل في أنشطة الكنائس، سواء من الناحية المالية أو الإدارية، ويعتمد تسيير الأمور على الكفاءة والأمانة الشخصية للمسيطرين على النشاط، سواء كانوا كهنة أو من العاملين في معيتهم، ومن الواضح أن هذا الوضع إن كان يصلح بدرجة ما في إدارة أعمال محدودة الحجم والنوعية، فإن هذا الوضع حالياً في ضوء التوسع الهائل في أنشطة الكنائس وتضخم حجم الأموال التي تنهال عليها، يعتبر فوضى شاملة.
middot; عدم تعود أو تدرب المصريين على التفكير الجماعي في حل المشكلات وإدارة الأعمال، فاجتماعات اللجان في الأغلب تتحول سريعاً إلى مساجلات وشجارات، ليكون الخلاص في الالتجاء إلى القيادة العليا المقدسة ممثلة في شخص الكاهن أو الأسقف، الذي يقبل الجميع بالانحناء أمامه وتقبيل يده والنزول على إرادته، دون أن يجدوا في ذلك غضاضة أو انتقاصاً من كرامتهم، ويكون مصير من يخرج على هذا السياق ويتمسك بموقفه، سواء لدواع شخصية أو لموقف مبدئي للصالح العام، أن يجد نفسه وحيداً ومنبوذاً، وربما مطروداً من رحمة الكنيسة!!
ملمح مصري آخر للكنيسة القبطية الأرثوذكسية دور الريادة والسبق فيه على مستوى مصر كلها، وهو غياب العقلانية وسيادة الفكر الغيبي الخرافي، ونزعم أن الأقباط في مصر يؤسسون للخرافة، فيسارع أخوة الوطن من المسلمين إلى تقليدهم من قبيل التأثر والمنافسة، فينتشر الدجل والشعوذة والعلاج بالرقى والتعاويذ، وإخراج الجان والأرواح الشريرة من الأجساد المتلبسة بها، فالأقباط المستضعفون في مصر بأغلب المقاييس وجدوا في الكنيسة السلوى عن بؤس حالهم، وأساء البعض قراءة معجزات السيد المسيح، وفشل في تفهم معناها الروحي وموقعها الصحيح من بشارة العهد الجديد، حيث لم يقم السيد المسيح بالمعجزات لإقناع الناس بتعاليمه، وإنما كانت أعمال خير ترجع لتحننه على المرضى والمساكين، وكان يرفض دائماً الإتيان بالمعجزات حسب طلب اليهود للبرهنة على قدرته، وهذا ما تنص عليه الأناجيل صراحة، والمعنى أن المسيحية لا تقر المعجزات كوسيلة مستدامة لمعالجة أمور الحياة ومشاكلها، بل كانت استثناء وفي حالات تاريخية خاصة، لكن الوضع الحالي في فكر الأقباط صار يتخذ من المعجزات مهرباً من المواجهة العملية العلمية للإشكاليات، ومنها تفاقم تكلفة العلاج الطبي، وفي حين لم تؤد المستشفيات الملحقة بالكنائس إلى خفض حقيقي وجاد في تكلفة العلاج، خاصة للفقراء والطبقة الوسطى، رغم أن مبانيها ومعداتها من أموال التبرعات، نجد بالكنيسة الترويج لحكايات المعجزات، بدءاً من العمليات الجراحية التي يجريها القديسون للمرضى أثناء نومهم، إلى التداوي بشرب مزيج من الماء وتراب مأخوذ من قبر أحد القديسين، مروراً بالزيت الذي تنضح به الأيقونات والظهورات وغيرها، إن غياب العقلانية وتجاهل العلم والجهل به، والولوغ في غياهب الغيبيات والتفكير الخرافي، بات أشبه بسرطان يفتك بالجسد المصري، والتصدي له عملية بالغة الصعوبة، لكنها مهمة مقدسة، ومسئولية كل صاحب عقل في هذا الوطن!!
عديدة هي الآفات والإشكاليات في الوطن المصري وكنيسته القبطية الأرثوذكسية، وجميعها مما لا يتأتى علاجه بين عشية وضحاها، لكن يلزمنا في المقام الأول الوعي والإقرار بهذه الإشكاليات وأسبابها الجذرية، ثم الإخلاص في البحث عن حلول لها.

[email protected]