(الجزء الثاني)
بالعودة الى مقال الدكتور منير الغضبان (( يا مسيحيي سوريا لا تخافوا من الديمقراطية))، الذي كتبه رداً على مقال لي بعنوان: (( مسيحيو سوريا والخوف على المصير))،
الجزء الأول |
- في استقراء عام للخطاب الديني لـ (الإسلام السياسي)، بكل تياراته واتجاهاته، نجده يطرح ويمارس الدين بشكل إيديولوجي ويوظفه لأغراض سياسية نفعية بحتة، ويؤسس خطابه السياسي على يقينيات دينية مطلقة، مما يجعل التلاقي بينه وبين بقية القوى الوطنية والأحزاب السياسية غير ممكن على خط (الديمقراطية) وفصل الدين عن السياسية، أو أنه سيكون آنياً، لا مستقبل له. فالإسلام السياسي وكما يقول الدكتور نصر حامد أبو زيد: ((إنه يخلط عن عمد وبوعي ماكر وخبيث بين فصل السلطة السياسية عن الدين وبين فصل الدين عن المجتمع والحياة في محاربته للعلمانية وليكرس اتهامه لها بالإلحاد)). قد يحصل التلاقي على توصيف وتشخيص النظام في سوريا على أنه نظام (لا ديمقراطي) وينتهك حقوق الإنسان السوري وحرياته، لكن هناك شكوك ومخاوف، وربما قناعة راسخة، لدى معظم القوى الوطنية بأن قدوم الإسلاميين الى السلطة يفقد مجرد الأمل بحلول الديمقراطية والحريات في سوريا ويطيح بالحقوق المدنية، لأن من طبيعة (الاستبداد الديني) يرتكز الى العقيدة الدينية والشريعة المنزلة والمطلقات المقدسة الغير قابلة للنقض والنقاش. ومن هنا أرى عدم واقعية ما كتبه الدكتور منير الغضبان عن مشروع الإخوان المسلمين لسوريا: (( إن الجماعة تدعو الى إقامة دولة حديثة، تكون الحاكمية فيها لله والسيادة للقانون والسلطان للأمة.. )). أتساءل ما هذه الدولة الحديثة والديمقراطية العادلة التي ستقيمها جماعة الأخوان المسلمين تكون الحاكمية(المرجعية) فيها لله، والسلطان للأمة، بالطبع (أمة الإسلام) والحاكمية هي كما جاءت في القرآن، الذي تعود أحكامه الى أكثر من أربعة عشرة قرناً خلت، خاصة بوجود خلاف لاهوتي عميق حول طبيعة الله ووظيفته وأحكامه ليس بين الإسلام والديانات الأخرى فحسب، وإنما بين الفرق والمذاهب الإسلامية ذاتها من جهة، ووجود شعوب وأقوام غير اسلامية تشارك المسلمين في سوريا من جهة أخرى. ألا يرى معي الدكتور استحالة قيام دولة حديثة تواكب العصر وتستجيب لمتطلبات الحداثة، تكون الحاكمية فيها لله (مرجعيتها في السماء) وسكانها على الأرض، وهو باحث إسلامي يعلم ويدرك بأن الإسلام حدد موقفه من اتباع الديانات الأخرى بشكل قطعي ونهائي، بالآية القرآنية: (( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا بيوم الآخرة ولا يحرمون ما حرمه الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)) (سورة التوبة، الآية 29). فالحقوق التي أعطاها الإسلام لأهل الكتاب جاءت بمقتضى ذمة الله وذمة محمد والمسلمين، فهم أهل ذمة لا حقوق مدنية لهم إذا ما تعارضت مع الشريعة الإسلامية وأحكام القرآن.
- لا شك، أنني أختلف مع التوجهات السياسية والمنطلقات الفكرية لأخوان سوريا، لكن قطعاً أرفض بقاء القانون 49 الذي يقضي بإعدام كل من ينتمي الى جماعة الإخوان المسلمين في سوريا. فإذا كان ثمة مبرر للنظام في اصدار هذا القانون إبان حوادث العنف والعنف المضاد التي شهدتها بعض المدن السورية في الثمانينات من القرن الماضي، لكن الزمن السوري تجاوز موجبات بقاء مثل هذا القانون وغيره من القوانين والمحاكم الاستثنائية التي تشكلت بموجب قوانين الطوارئ التي كبلت البلاد منذ انقلاب البعث على السلطة 1963. فسوريا أحوج ما تكون اليه في هذه المرحلة الصعبة من تاريخها هو (المصالحة الوطنية) وإطلاق الحرية للقوى الحية و الفاعلة في المجتمع المدني. فقد ثبت إن الاستئثار بالسلطة والقرار، من قبل أي طرف او حزب، يشل حركة المجتمع ويعطل تطور الدولة ويقوض حرية المواطن والوطن معاً. بالطبع، لا أجد مخرجاً لسوريا من أزماتها إلا عبر الخيار الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة وإقامة دولة القانون والعدل والمساواة ووضع دستور جديد للبلاد يعيد للمجتمع توازنه ويضمن الشراكة الحقيقة في الوطن.
- بماذا يختلف الدكتور منير الغضبان عن (النظام السوري) عندما يتهم، كل من يعترض على توجهات وبرامج (الأخوان المسلمين) أو حتى يرفض أو يتخوف منهم في حال حكموا البلاد، بالعمالة للنظام وخدمة سياساته، تماماً مثلما يتهم النظام معارضيه بالعمالة لأمريكا والغرب وخدمة إسرائيل. قد يكون هناك تقاطع وتلاقي بين التيارات السياسية( العلمانية والليبرالية والديمقراطية) في المعارضة السورية مع النظام السوري القائم، فيما يخص الموقف من (إخوان سوريا)، لكن هذا التقاطع لا يضعهما ولا يجوز وضعهما، في خندق سياسي واحد، فكل منهما يتخوف من الأخوان ويعترض على وصولها للسلطة من خندقه الخاص. فهل مجرد التقاطع بين مطالب المعارضة الوطنية في سوريا مع الدعوات الأمريكية لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط وحثها النظام السوري على ضرورة القيام بإصلاحات ديمقراطية وسياسية حقيقة- بغض النظر عن جدية ومصداقية أمريكا في دعوتها هذه- يضع المعارضة السورية في دائرة الشك بوطنيتها والخيانة والعمالة لأمريكا كما يذهب النظام السوري؟.
- أننا نعيش في دول محكومة بالاستبداد أخفقت في تطوير مفاهيم ومضامين المواطنة، وبالتالي هي دول لديها قابلية للانفجار والتجزئة واندلاع الفتنة الداخلية والحرب الأهلية، بسبب تركيبتها الاجتماعية والإثنية والدينية وضعف الاندماج الوطني وتنامي الولاءات القبلية والبدائية(ما قبل الدولة) في ظل الاستبداد الذي غيب ثقافة الحوار والديمقراطية وحقوق الإنسان، وعمم بدلاً عنها ثقافة الإقصاء و إلغاء الآخر. والدرس العراقي، بكل مضاعفاته وتداعياته( الأمنية والسياسية والاجتماعية) هو بالغ الأهمية يجب الاتعاظ منه، فما حصل في العراق قد يحصل في سوريا وفي معظم دول المنطقة، حتى من غير تدخل أجنبي ومن غير احتلالات. حيال هذه الأوضاع المقلقة، إذا ما خُيرتُ اليوم بين المشهد السوري الذي عنوانه(الاستبداد والفساد والفقر والأمن) وبين المشهد العراقي الذي عنوانه( الاحتلال والديمقراطية والفوضى والقتل على الهوية)، بكل تأكيد لن أتردد باختيار (المشهد السوري) بالرغم من قتامته. قطعاً ليس تمسكاً بالنظام ولا حباً بالفساد ولا ولعاً بالفقر وإنما رغبة بالأمن و خوفاً على سوريا والشعب السوري من المجهول، الى حين تنضج الظروف المحلية للتغير الديمقراطي الآمن والهادئ وليكون تغيراً بأقل الخسائر والأثمان. ان فظاعة المشهد العراقي فرملت حتى الدعوات الأمريكية والغربية فيما يخص نشر الديمقراطية في المنطقة وحال دون أن تصعد هذه الدول من ضغطها على النظام السوري خوفاً من وصول الإسلاميين الى السلطة بغياب البديل الديمقراطي المدني والمؤهل من جهة، ومن أن يؤدي اضعاف النظام الى انتقال المشهد العراقي الى الداخل السوري من جهة أخرى. فبعد نحو أربع سنوات من دخول أمريكا الى العراق أخفقت في تثبيت الأمن، مما اضطرها الى اعادة النظر بمجمل خططها العسكرية والسياسية في العراق ووضع استراتيجية جديدة على ضوء نتائج تقرير لجنة (بيكر-هاميلتون)، و بدأت( الإدارة الأمريكية) تفضل ما يعرف بالاسترخاء الديمقراطي مقابل التشديد على ملف الأمن والاستقرار في العراق. لا شك هناك أخطاء عديدة وقعت فيها الإدارة الأمريكية في تعاطيها مع المشكلة العراقية، لكن باعتقادي أن الأسباب الأساسية لتدهور الوضع العراقي تعود الى طبيعة وتركيبة المجتمع العراقي وعدم تقبله الديمقراطية والتحولات السياسية التي حصلت في الواقع العراقي الجديد بعد سقوط الدكتاتورية، فكلمة الفصل اليوم في العراق هي للمشايخ وعلماء الدين ووجهاء القبائل ولزعماء الميليشيات المسلحة وليست لرجال العلم والسياسية والقانون ورجال الفكر، وهنا مكن الخطر على وحدة العراق ومصيره، فالفشل هو فشل عراقي قبل أن يكون فشلاً أمريكياً.
- يتهمني بالانحياز والتألم للضحايا المسيحيين وتجاهل آلاف الضحايا من المسلمين في العراق، بالطبع القضية ليست كما يتصورها الدكتور منير، فأنا أتألم لجميع ضحايا العراق، خاصة الأبرياء والمدنيين العزل منهم وأدين بشدة قتل هؤلاء أياً يكن دينهم وانتماءهم. لكن معظم القتلى من المسلمين هم ضحايا احتراب طائفي بين السنة والشيعة يتحاربون على من يحكم العراق، في حين يقتل المسيحيون من غير أن يكونوا طرفاً في هذا الصراع. وأكاد أجزم بأن مسيحياً عراقياً لم يقتل مسلم عراقي بسبب دينه أو قوميته، في حين أن المسيحيين يقتلون على ايدي متشددين مسلمين لا لذنب ارتكبوه، وإنما فقط لأنهم مسيحيون، ولهذا نميز بين قتل(المسيحيين والمندائيين والصابئين)، والتمييز هنا ليس بدوافع دينية، وإن تبدو كذلك، وإنما تبعاً لخلفيات القتل وأهداف القتلة، فهذه أقليات عراقية هي مهددة اليوم بوجودها بسبب سياسية التطهير الديني والعرقي التي تمارس بحقها. ثم ألا يرى معي الدكتور أن ظاهرة استهداف المسيحيين من قبل مجموعات إسلامية إرهابية في معظم دول المنطقة الإسلامية باتت ظاهرة خطيرة ومقلقة، ومن غير أن نسمع إدانات صريحة ورفض حاسم من قبل المرجعيات الإسلامية وحكومات المنطقة لهذه الأعمال الإجرامية.
- قطعاً، لم أفتخر بالدور البارز للمسيحيين السوريين في تأسيس أبرز أحزاب سوريا وبلاد الشام ( البعث والسوري القومي والشيوعي) كما وصفني السيد منير الغضبان في رده، فلم أنضم يوماً الى أحد هذه الأحزاب الثلاث التي ترتكز الى عقيدة شمولية أضرت كثيراً بالعملية السياسية والديمقراطية في سوريا والمنطقة، وإنما أردت من الإشارة الى هذه الحقيقة التأكيد على انخراط المسيحيون في الحياة السياسية السورية دون أن يميزوا أنفسهم عن الأغلبية المسلمة، والذي ميزهم وقلص هامش حرياتهم السياسية و أعاق اندماجهم الوطني هي (الأغلبية المسلمة) بانتهاجها نهجاً طائفياً ووضعها دستوراً طائفياً للبلاد. لا شك، في أن قضية المسيحيين السوريين لا تختزل بحرمانهم من حق تولي رئاسة البلاد بموجب المادة الثالثة من الدستور، وهم لا يتباكون على هذا المنصب، وإن هو من حق كل مواطن سوري بغض النظر عن انتمائه الديني او المذهبي أو القومي او السياسي، فالمسيحيين يدركون جيداً استحالة وصولهم الى رئاسة الجمهورية حتى لو سمح لهم الدستور بحق الترشح، طالما بقي الانتماء الديني والمذهبي والعرقي يشكل والى درجة كبيرة وحاسمة الاستقطاب السياسي في سوريا ويحدد اتجاهات التصويت للمواطن في جميع الانتخابات، لكن وجود نصوص ومواد في دستور البلاد تميز وتفضل بين المواطنين السوريين، تشكل مانعاً قانونياً وسداً منيعاً في إقامة الديمقراطية وتحقيق العدالة والمساواة في المجتمع ومثل هذه القوانين العنصرية تقوض اسس ومقومات العيش المشترك بين أبناء الوطن الواحد.
كاتب المقال سوري آشوري مهتم بحقوق الأقليات
shosin@scs-net. org
التعليقات