علمتنا ثلاث سنوات من الخراب والتخريب بأن الإناء لا ينضح الا بما فيه، وأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولأن سحابة الوهم قد انجلت ورأينا ورأى العالم ما نحن وما نضمر لبعضنا البعض، ورأى الجميع حقيقة ثوب quot;التسامح والتعايش وشعب الحضاراتquot; المتهرئ الذي خدعنا به أنفسنا قبل أن نخدع الآخرين، فإنه لا بد من الاعتراف بأنه لم يكن بالإمكان أحسن مما كان.
كذب توني بلير إذ تحدث بالأمس عن عراق لا وجود له إلا في خياله، فأية ديمقراطية، وأية حرية شعائر دينية وأية حرية تعبير تلك التي يتحدث عنها بينما يمضي التطهير والفرز العرقي والطائفي قادم على قدم وساق، وتحت انظار الجميع ومباركة بعضهم، ومنهم قواته ذاتها التي سكتت عن تحويل البصرة الى طالبان إيرانية ابتلعت الجميع، وما معنى وجودهم وما فائدته، وأي أمن ذلك الذي يحفظونه بينما يقتل كل من يشاء، ويجري تهريب النفط يوميا، ويطرد كل من تؤشره ميليشيات الظلام إلى خارج المحافظة.. هل يصدق نفسه عندما يختلي بها وهو يتحدث عن الاستثمار والأعمار والمستقبل، وهل يصدق بأن مثل هذه التيارات تستطيع أن تقيم مستقبلا..
لقد بات الحديث عن عراق مستقر (ناهيك عن الأحلام الكبرى المؤودة مثل الديمقراطية والحرية والرفاهية) قميئا ورديئا ومنفرا،، كما كان في عهد صدام وما قبله، بل وضربا من الخيال، بل أن بقاء العراق ذاته، كما عرفناه وحلمنا به وتربينا على حبه، قد بات موضع شك هو الآخر..
عندما يعيش المجتمع في ظل دولة الاستبداد البوليسية على طريقة دولة البعث السابقة في العراق وما يماثلها في الجوهر - وإن اختلف في المظهر- في أنحاء العالم العربي الأخرى، والتي تقتل كل حراك اقتصادي أو اجتماعي أوثقافي، تتوارث الأجيال أوهامها أبا عن جد، وتجتر أفكارا مكررة لا تنتمي الى الزمان والمكان، فيتجمد الحراك الاقتصادي والاجتماعي، وتعجز المجتمعات عن إنتاج النخب التي تقود التغيير، وعن بلورة طبقات اجتماعية تنتج هذه النخب، وتموت الفردية وتندثر في ظل ثقافة اجتماعية قمعية. وعندما تتجمد الثقافة السياسية عند عقلية الراعي والرعية السائدة منذ عصر الحضارات، مرورا بعصور الانهيار، ثم الفتح الإسلامي، والحكم التركي، وانتهاء بعصر الاستعمار والاستقلال المزعوم، وصولا إلى عصر الوهم الحالي الذي بدأ بشعارات كبرى لا تساوي ثمن أحبارها وانتهى بتسليم مجتمعاتنا المقهورة إلى حركات الدين السياسي التي ربما كانت المسمار الأخير في نعوشنا قبل أن تأخذ دورة التطور الطبيعي مجراها، فإن ما يحدث في العراق اليوم يبدونتيجة طبيعية ومثالا لا بد وأن يتعلم منه الجميع..
في مثل هذه المجتمعات، تصبح الخرافة عقيدة، والوهم واقعا معاشا، وتتكرس قيم العنف والبربرية، وهي جزء من البناء الطبيعي للإنسان ابن الطبيعة ذاتها التي أنتجت الذئب والأرنب، والتي هذبها التمدن في المجتمعات الأخرى بعد أن وضعها في إطار القانون واحترامه وسيادة قيم العدالة والحقوق. أما إذا أطلق العنان لقيم العنف والبربرية هذه، في ظل تغييب متعمد لمنجزات الإنسان الحقوقية والفكرية عبر العصور ، واستبدالها بقيم السيف والذبح وإلغاء الآخرين جميعا، والنظر إلى الحاضر والمستقبل عبر مرآة الماضي، فلا نستغرب ما نرى في العراق، ونوشك أن نرى في لبنان، وربما في أغلب أنحاء منطقتنا قريبا، بعد إن اكتشف الدين السياسي الاختراع الغربي المسمى بالانتخابات، فقام بتوظيف الأرضية الاجتماعية المكتسبة له عبر مئات السنين والمتكونة من ملايين المؤمنين البسطاء الذين يصدقون الجبة والعمامة، خصوصا بعد التجربة المرة للزعماء التاريخيين الذين اثبتوا بأنهم في أحسن أحوالهم نمور من ورق، تلك الملايين التي تتبرك برؤية السيد ذي الوجه النوراني أو الشيخ ذي اللحية الجليلة حتى لو قادوهم إلى حتوفهم، فركبوا ظهور تلك الملايين إلى كراسي السلطة لتنفيذ مشروعهم السياسي الذي يدير عقرب الساعة فيبدأ التاريخ فيه من القرن السابع وينتهي في الثامن.
عندما تم اطلاق العنان لهذه القيم، في ظل الهراء الإعلامي عن قيم التسامح في الدين الحنيف، وبعد أن سحقوا الآخرين جميعا، انقض هوتو وتوتسي العراق على بعضهم البعض، ودمر كل منهم مقدسات الآخر، وقتلوا حتى الأبرياء ومن لا ناقة له ولا جمل حتى توقف العداد عن حساب الضحايا، وأصبحت الضحية العراقية رقما في الأخبار لا يلتفت اليه أحد، فاليوم خمسون وغدا عشرون وبعد غد ألف وهكذا، حتى أصًبحنا نخاف الاتصال بالأهل والأصدقاء فنصدم برحيل فلان أوعلان بغزوة مفخخة ظافرة أو غارة ليلية مجهولة المصدر.. وعندما يزداد نواح الشعب المسكين، يأتي الإعلام الجديد فيمّن عليهم بإسقاط صدام ونظامه، وكأنما هم الذين أسقطوه، ويتهم كل من الطرفين الآخر بأنه هو الذي ينتج الإرهاب، ويدعي بأنه هو حامل لواء الديمقراطية الجديدة التي لم يشوهها وضع في العالم كما فعل الوضع في العراق، فباتت الديمقراطية مرادفة للقتل العشوائي وأكوام الضحايا وسيطرة قطاع الطرق على الشوارع، وهذه هي التربية السياسية الجديدة لمجتمعنا، وقد أضاف رسام الدنمارك الشهير إلى قصيدة هذا النوع من الأنظمة بيتا جديدا، فصار الجميع ابتداء من عمرو موسى حتى أصغر شرطي في النظام العربي والإسلامي يصيح بفساد حرية التعبير وضرورة تقييدها، وكأنها في أحسن أحوالها في بلداننا، بل بات هذا الجزء من العالم يطالب بتشريع دولي يجرم الإساءة إلى المقدسات والعقائد، من منطلق أن عقيدتنا هي الوحيدة الصحيحة على وجه الأرض، متناسين بأن الدعوة اليومية في أغلب مساجد هذه البقعة المنكوبة لقتل القردة والخنازير يعتبر أيضا إساءة إلى عقائد الآخرين، ومتناسين بأن العقائد ليست أديانا فقط، فالإلحاد ذاته عقيدة، ومن يعتقد بأن quot;العالم عبارة عن جمع هائل من المؤمنين تتخلله قلة شاذة من الملحدين إنما يرتكب خطأ كبيراquot; كما يقول المرحوم برنارد شو، ولا أرى أكثر منا تضررا في حال ظهور مثل هذا التشريع، فلا يسيء أحد إلى عقائد الآخرين كما نفعل نحن وعلى مدار الساعة..
على هذه الخلفية الثقافية تم تسليم العراق من سلطات الاحتلال إلى سلطات غابت عنها البوصلة العراقية، وباتت منذ اليوم الأول تعيش حالة احتراب أهلي متدرج، وانكفأ الناس إلى بيوتهم بعد أن أدركوا بأنه ليس هنالك من يستمع إليهم، ليجعلوا من السلطات موضع تندر يومي خلف الجدران كما كانوا في العهد السابق، ولم تعد الأغلبية الصامتة في العراق تحترم أحدا بعد أن عاث الجميع في البلاد فسادا رغم ما يطغى على السطح من صراخ. فالسلطة والمقاومة والسياسيين ورجال الدين وحتى المراجع صاروا نكتا في رسائل الموبايل والبريد الالكتروني. لقد شعرت الملايين بوعي أوبدون وعي بالخذلان من الجميع.. وبدون استثناء.
فكيف لهم أن يثقوا بدولة لم تعبد شارعا واحدا، ولم تبذل جهدا يذكر لإعادة الخدمات الأساسية حتى إلى عشر حجمها السابق، وصارت الرشوة والفساد في ظلها ثقافة اجتماعية بحيث يدفع المواطن رشوة ليصبح شرطيا، وبحكومة تخبرهم بكل صلف بأن ليست هنالك ميليشيات وإن الوضع تحت السيطرة بينما تجوب مئات مسلحة من جميع الطوائف شوارع العراق تقتل من تشاء حينما تشاء في حين يصف وزير الداخلية ضحايا شعبه بالخراف، وكيف يمكن لهم أن يثقوا بديمقراطية يريد الجميع فيها أن يكون في السلطة، ولا يرغب أحد بالانتقال إلى المعارضة، وبساسة يقولون مثلا بأن ليس هنالك تدخل من الجوار في شؤون العراق، ثم يدعون ذلك الجوار للحوار مع سلطات الاحتلال حول وضع العراق، وكيف لهم أن يصدقوا بأن الأميركيين جاءوا لبناء العراق بنما ساهم خبراؤهم وضباطهم في تشجيع النهب المنظم وغير المنظم لهذا البلد، وبل وسرقوا دافع الضرائب الأميركي ذاته في أكبر عملية نهب لمخصصات إعمار العراق وفي زمن قياسي، وسكوتهم على عشرات الميليشيات من جميع الألوان التي تعيث في العراق قتلا، وكيف لهم أن يصدقوا مقاومة فتحت الأبواب للنطيحة والمتردية من حثالات الأرض ليقتلوا العراقيين بالجملة تحت مختلف المسميات، وعوضا عن الاستقلال أوالتحرير لغرض التحديث وإدارة عجلة التطور وتصحيح ما سبق، يروجون لعودة البعث أوأقامة جمهورية طالبان جديدة في العراق وكأن العراقيين لا يستحقون أفضل من هاتين الآفتين، وكيف للشعب أن يثق برجال دين يدعون للتآخي على الشاشات ولمزيد من القتل في جلساتهم الخاصة وخطب مساجدهم، ويدعون في أحسن أحوالهم إلى ميثاق يحرم دماء المسلمين ( وليس العراقيين)، أي إلى هدنة مؤقتة بين ميليشياتهم وحسب، وليذهب الآخرون إلى الجحيم!
عقدتان وثلاثة رجال يحكمون هذا الوطن المثخن بالخوف وغياب الأمل، أولهما عقدة المظلومية التاريخية، وثانيتهما عقدة فقدان السلطة، وبين هذه وتلك، تبقى خيوط العراق بين أيدي ثلاثة من الرجال، أحدهم لا يزال يحكم من خلف قضبان زنزانته بعد أن نجح في إقامة أكبر مصنع للخوف في التاريخ، والآخر من معتكفه في النجف يدير دمى و واجهات متعددة يرخيها ويشدها كلما تطلب الأمر، وثالثهما في مكتبه بالسفارة الأميركية يدير الجميع، ويقبل الجميع أياديه طلبا للرضى.. ومع شعب يحلم بمخلص يأتي من غياهب الماضي، أو بمعجزة إلهية أخرى لخلاصه، يبقى العراق رهن هذه الإرادات الثلاث، التي تعتنق العقيدة الأزلية لحكم أي شعب في العالم تحت أية واجهة، بوضعه تحت الثلاثية المقدسة quot;الجهل، والفقر، والخوفquot;..
لن ينهض العراق في الجيل الحالي ولا التالي، ففي ظل دستور يستنكف حتى الإشارة إلى إعلانات ومواثيق حقوق الإنسان، ويضرب المرأة بالحذاء، ويبدو أشبه بخطبة في مسجد أو منبر سياسي منه بدستور دائم لدولة تعيش في عصر الجينوم، وفي ظل نظام أًصبح فيه الحديث عن نهب الملايين جزءا من الحكايات اليومية في المقاهي والمجالس والتي لم تعد تثير أحدا كونها أصبحت جزءا طبيعيا من الحياة، وفي ظل عقائد تقتلك انتقاما لأشخاص قضوا قبل ألف عام لا يعنيك منهم القاتل والمقتول، ومادام علمانيونا ومثقفونا غير قادرين على مواجهة الموجة كما كانوا دوما، فلا أمل هنالك بخلاص قريب، فحقبة الإسلام السياسي كأس جديد من الإذلال والمهانة لا بد وأن نتجرعه كما تجرعنا كأس الحقبة القومية وقادتها الملهمين الذين جربوا فينا كل أنواع الحروب والمعتقلات والتعذيب، وقدموا بقايانا وليمة لخلفائهم فرسان السيف والرمح والجبة والعمامة ليأتوا على ما تبقى منا..
لقد اندفعنا جميعا خلف الوهم، مدفوعين بكراهيتنا للبعث ونظامه القاتل، وتجاهلنا الأرقام والواقع الاجتماعي والاقتصادي والتاريخي لمجتمعنا حتى بتنا اليوم، وبعد ثلاث سنوات، نحلم بلحظة أمان، أو ساعة كهرباء، أو ماء نظيف، بعد أن تبخرت أحلام الديمقراطية والرفاهية والازدهار والتقدم..
لن تزول الغمة قبل أن يظهر جيل جديد متحرر من كل هذه الأدران، يأتي إلينا أولأحفادنا رافعا شعار لا للفقر، لا للجهل، لا للخوف، بعد أن يتعلم من مآسيه وتجاربه كما تعلمت أغلب شعوب العالم.. وحتى ذلك الحين، يكذب من يقول إن بالإمكان أحسن مما كان..
التعليقات