ما فتئت أحزاب المعارضة العربية تملأ الدنيا ضجيجا وصخبا، وتقدم نفسها للشعوب العربية التعسة، على أنها أنموذجا وقدوة تُحتذى في مجال السياسة والفكر والأخلاق! وأنها الفئة الأكثر تحضرا ووعيا، والأكثر رفضا للعنف، ورغبة في الممارسات الديمقراطية، وتداول السلطة بشكل سلمي، والأكثر دفاعا عن حقوق الإنسان. وما انفكت هذه الأحزاب تعتبر نفسها الصورة المشرقة للمجتمع العربي الكئيب، وأنها البديل الصالح للسلطة الطالحة، وأنها الفئة الوحيدة القادرة على انتشال العرب من مستنقعهم الآسن، وإيصالهم إلى بر الأمان. ولا زالت تقسم ليل نهار أن لا مصلحة لها سوى مصلحة الوطن، ولا هم لها سوى هم المواطن. لكننا للأسف نسمع جعجعة ولا نرى طحينا، بل أكثر من ذلك، لا نرى إلا خواء في الفكر، ولهثا وراء المصالح الشخصية، وبداوة في المفاهيم والعلاقات، وهمجية في الممارسات، وتخلف في السياسات. وانقسامات وانشقاقات وتخوين واتهامات.
يعتبر حزب الوفد المصري من أعرق الأحزاب العربية قاطبة، وكان في يوم من الأيام أوسعها انتشارا وأكثرها استقطابا للجماهير. قاد في فترة من الفترات العصيبة نضال الشعب المصري ضد الاحتلال الإنكليزي، وضد الملكية المصرية المتخلفة. وبدلا من أن يزداد بمرور الزمن الطويل قوة ونفوذا، ويغتني فكرا وخبرة، ويتسع جماهيريا، نرى أعضاءه وقياداته يتهمون بعضهم بعضا باستئجار البلطجية، ويشتبكون بالأيدي والشتائم، ويطلقون النار على بعضهم البعض، لا حبا بالوطن، وخدمة للمواطن، وإنما تصفية لحسابات شخصية، وطمعا بمناصب شكلية، أو مقر لقتل أوقاتهم الطويلة المملة. ولا أناقش هنا شعارات هذا الحزب، أو غيره من الأحزاب. وإن كانت التصرفات والممارسات الأخيرة لأعضائه وقياداته تعطي صورة شديدة الوضوح عن فكر وأخلاق هؤلاء الرجال، وتطلعاتهم، وأساليبهم في العمل والتعامل.
لم يستطع حزب الوفد ولا الأحزاب المصرية الأخرى المعارضة- باستثناء الأحزاب الدينية التي تحسن تجهيل الناس وخداعهم وإيهامهم- أن تحقق أي نجاح في الانتخابات النيابية الأخيرة، وكأن هذه الأحزاب لا صلة لها بالناس، أو كأنها في وادٍ والناس في واد آخر. أو كأن الناس لا تثق بهم، ولا تأخذهم على محمل الجد. فإذا كان هذا حال أعرق الأحزاب العربية قاطبة، في أم الدنيا، فكيف هو حال بقية الأحزاب والحركات؟
إن الأمراض التي تعاني منها السلطة هي الأمراض نفسها التي تعاني منها الشعوب العربية، وأحزاب المعارضة. وكما يقول المثل (هذه الطينة من هذه العجينة). فالاتهامات التي توجهها المعارضة إلى السلطة، هي الاتهامات نفسها التي توجه إلى أحزاب المعارضة. فكما يحيك رجال السلطة المؤامرات ضد بعضهم بعضا، ويقدمون هذا ويؤخرون ذاك، كذلك يفعل رجال المعارضة داخل أحزابهم. وكما تسعى السلطة في أزماتها لكسب ود، ودعم المعارضة، كذلك يستقوي رجال المعارضة في أزماتهم وخلافاتهم الحزبية الداخلية بالسلطة. وانعدام الديمقراطية والشللية متفشية في الطرفين. والتخلف السياسي والفكري الذي يحكم عقلية وتصرفات هؤلاء، يحكم عقلية وتصرفات أولئك. وكذلك اللهث وراء المصالح الشخصية وتأمين مستقبل الأولاد مرض يكتسح رجال السلطة المعارضة على حد سواء. وبالمسافة نفسها يبتعد الطرفان عن هموم الناس ومشاكلهم اليومية، وتطلعاتهم المستقبلية. فكلاهما تخرج من المدرسة نفسها، ويحمل العقلية ذاتها.
فأين يكمن الخلل، هل هو في الفكر، أم في الثوابت، أم في التاريخ، أم في التربية، أم في القطيع، أم في الأشخاص الذين يتصدون أو يسعون للقيادة، أم في كل هذا معا؟
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات