وجهة نظر من الداخل

بعد أكثر من ثلاث سنوات على سقوط النظام السابق، لا تزال الأوضاع الأمنية السيئة وأعمال العنف والإرهاب الأعمى تلقي بظلالها الثقيلة على مجمل النشاط الثقافي والأدبي والفني في العراق، بالاضافة الى إصابة عموم الحياة الاجتماعية والاقتصادية بالشلل الجزئي او الكلي أحياناً. ونتيجة لذلك، فان الفعاليات والمهرجانات الأدبية والثقافية الكبرى ترحل الى مدن الشمال والجنوب الأكثر أمناً واستقراراً من بغداد العاصمة، لكن ذلك يؤدي الى خلق تعقيدات ومشكلات جديدة لم تكن في الحسبان.

في الأسبوعين الأخيرين من شهر نيسان/أبريل الماضي شهدنا إقامة مهرجان المربد الشعري في مدينة البصرة، وأسبوع مؤسسة المدى الثقافي في مدينة أربيل. وإن كان مهرجان المربد يقام في السابق مشاركة بين مدينتي بغداد والبصرة، فانه قد ارتحل تماماً الى البصرة منذ عام 2004، وربما ليبقَ هناك الى الأبد، بسبب مطالبة وتشبّث البصريين به. لكن أسبوع المدى الثقافي انتقل الى مدينة أربيل هذا العام مضطراً، إذ تعذّرت إقامته في العامين الماضيين بسبب الظروف الأمنية والسياسية السائدة طوال الوقت بعد سقوط النظام السابق. ويبدو أنه كانت هناك نية صادقة وعزيمة راسخة لإقامة هذا المهرجان الثقافي الكبير والمنوّع على الرغم من جميع المعوّقات والتحديات، فتمّت دعوة الضيوف الكبار من الأدباء والكتّاب والمثقفين والفنانين من أنحاء العالم العربي ودول المهجر الأوروبية وغيرها، للمشاركة في الفعاليات والندوات والحلقات الدراسية والعروض المختلفة.
لكن المشكلة الكبرى في مثل هذه المهرجانات الكبيرة المنوّعة تتمثّل في رغبة جميع المثقفين والأدباء والفنانين المقيمين في العراق في حضورها والمشاركة في أنشطتها وفعالياتها، وعجز الجهات المنظّمة او المسؤولة عن توجيه الدعوات عن تحقيق مثل هذه الرغبة العارمة لأسباب عديدة، موضوعية وذاتية أحياناً، لكنها تفسّر في النهاية بطريقة سلبية من قبل الذين لم تتم دعوتهم الى هذه الأحداث الثقافية والأدبية الكبرى.
في الماضي، كان المثقفون والأدباء والفنانون المؤيدون والمرتبطون بالنظام السابق ndash; عراقيون وعرب ndash; يتصدّرون الدعوات والمشاركات في جميع المهرجانات والتجمعات الكبرى، وبالمقابل كان هناك عزوف كبير من قبل الأدباء والمثقفين والفنانين العراقيين quot;المخاصمين والمعارضينquot; للنظام عن المشاركة في مثل تلك المهرجانات والتجمعات، وبالتالي فان تلك الدعوات كانت في الغالب تشكّل عبئاً وثقلاً على كاهل المدعوين اليها ... بسبب دورها التعبوي والدعائي لخدمة النظام ومؤسساته وسياساته وتوجهاته الداخلية والخارجية.
اليوم، نحن في مرحلة جديدة، محمّلة ndash; نظرياً، على الأقل ndash; بالنوايا الطيبة والأفكار التحررية والانسانية ... بالرغم من كل العنف والإرهاب والانفلات الأمني والاستقطاب السياسي والطائفي. اليوم، تضخّمت quot;الطبقةquot; الثقافية وانتفخت وامتلأت بالخائفين والمترددين من دخولها في السابق، من العاملين في الصحف ووسائل الاعلام الجديدة والتجمعات والمنظمات غير الحكومية، بالاضافة الى الكتاب والأدباء والمثقفين والفنانين الأساسيين.
ومن دون أية مبالغة، ربما يحتل العراق quot;الجديدquot; موقعاً ثانياً من بعد مصر quot;العريقةquot;، في عدد الصحف والمنشورات الدورية ومحطات الاذاعة والتلفزيون الأرضية والفضائية ... ربما بسبب مناخ quot;الحريةquot; الفوضوي المرتبط بضعف الدولة ومؤسساتها او غيابها الكلي أحياناً، وكذلك بسبب رغبة كل القوى السياسية والقومية والطائفية والاثنية، وحتى الاقتصادية، في التعبير عن نفسها من غير ضوابط او رقابة في هذه الظروف بالذات. ويعبر عن ذلك أحد الكتاب العراقيين quot;المخاصمينquot; لعموم المشروع الثقافي quot;العراقيquot; الجديد قائلاً :quot; يعاني العراق من فوضى ثقافية نادرة على صعيد مؤسسات الدولة والمنظمات الثقافية. فوضى تضرب أطنابها في كل مكان، محوّلةً الثقافة العراقية الى اقطاعيات وجزر منفصلة عن الواقع الاجتماعي ... quot;.

تجربة شخصية أم عامة؟
وبسبب ابتعادي عن الاتحادات والمنظات والتجمعات الأدبية والثقافية والفنية الناشئة والتقليدية، فاني لم أعلم بشكل مبكر بموعد إقامة أسبوع المدى الثقافي. وعندما طلبت المشاركة، اعتذر المسؤولون عن توجيه الدعوات بحجة ان كل الترتيبات قد انتهت منذ وقت مضى، وان هناك عددا كبيرا من المدعوين وأنهم لا يستطيعون تلبية جميع الطلبات والرغبات ... علماً انني كنت مدعواً في دورة عام 2004 ndash; الملغاة ndash; بشكل آلي، ربما لأن المسؤول عن الدعوات كان صديقا لي وتجمعنا الآراء والأفكار والرؤى الى حد ما، وربما كان أكثر موضوعية وانفتاحاً في توجيه الدعوات. لقد تأثرت كثيراً جراء هذا الموقف السلبي، وخصوصاً عندما علمت ان هناك محوراً سينمائياً مهماً في فعاليات أسبوع المدى الثقافي، وذلك لكوني من القلائل الذين يكتبون في السينما في العراق، وكتاباتي معروفة في المجلات والصحف العراقية والعربية والمواقع الالكترونية المختلفة. لقد كان الأمر بمثابة نوع من الإقصاء او الاستبعاد المسبق والمتعمّد من قبل القائمين على توجيه الدعوات.
وبالرغم من ان الموضوع أكبر من ان يكون شخصياً او فردياً، لكن لن يشعر به عادة إلا من يلسعه التهميش او التجاهل فجأةً ... وهذا ما اكتشفته بسهولة بعد زيارة اعتيادية الى المقر quot;غير الرسميquot; للأدباء والمثقفين العراقيين؛ وأقصد شارع المتنبي ومقهى الشاهبندر القريب. كان العديد من الشعراء والأدباء يشعرون بالإقصاء بسبب عدم مشاركتهم في مهرجان المربد في البصرة، وانضم اليهم العديد من المثقفين والفنانين الآخرين الذين أحسَوا بالغبن والحزن بسبب حرمانهم من المشاركة في فعاليات أسبوع المدى الثقافي المنوّعة في أربيل، بالرغم من أنهم معروفون بشكل جيد ولهم تاريخهم ndash; حسب اعتقادهم ndash; وقد طلبوا بالفعل المشاركة منذ وقت مبكر.
ما حدث معي في شارع المتنبي، تكرّر عند زيارتي الى المقر الرسمي للأدباء والكتّاب والمثقفين العراقيين؛ وأقصد اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق. وللحق، فان اتحاد الأدباء يضمّ أعدادا كبيرة من quot;الطبقة الثقافيةquot; المتضخمة بإطراد، ولا يمكن بجميع الأحوال إرضاؤهم جميعاً. لكن اتحاد الأدباء يعتبر نفسه الجهة الأكثر قرباً من الثقافة والأدب والإبداع والمشتغلين في هذه المجالات، وبالتالي فهو الجهة الأقدر والأحق في ترشيح المشاركين في مثل هذه الفعاليات والمهرجانات، سواء كانت حكومية او غير حكومية.
ولكل هذه الأسباب، فان الموضوع وصل في نهاية الأمر الى الصفحات الثقافية في العديد من الصحف، وكذلك الى الملاحق الثقافية والمواقع الالكترونية المتخصصة، ذات العلاقة بالهموم العراقية. لا بل ان هذه المشكلة او quot;الإشكاليةquot; نالت تغطية اعلامية أكبر من المهرجانات والفعاليات نفسها وأثارت الجدالات، بسبب الدراما والتناقضات والانقسامات الآنية او الظرفية التي تنطوي عليها، وكذلك بسبب التصريحات والاتهامات المتبادلة بين الأطراف المختلفة. لقد ساهم في توجيه النقد الى هذه المهرجانات والفعاليات حتى بعض المثقفين الذين شاركوا فيها فعلياً، بسبب السلبيات والفوضى التنظيمية والادارية التي سادتها، وكذلك بسبب الخلافات والانقسامات الحادة بين المشاركين فيها، لأسباب ايديولوجية او سياسية او طائفية او حتى شخصية أحياناً.


quot;الحلقة الداخليةquot; ... أولاً وأخيراً
لكن، ماذا يقول هؤلاء الذين لم توجّه اليهم الدعوات للمشاركة في مثل هذه المهرجانات الأدبية والثقافية المنوعة؟
مبدئياً، يتفق الجميع وخصوصاً منظموا هذه المهرجانات والتظاهرات الثقافية المنوّعة : quot; ... على ضرورة اعتماد الأسس والمعايير الموضوعية في توجيه الدعوات للمشاركة في مثل هذه الفعاليات الضخمة، وتجاوز آليات وتقاليد الإقصاء والتهميش quot;السابقةquot; وضرورة ترسيخ تقاليد جديدة تمنح بموجبها فرصاً متساوية لجميع المثقفين والكتّاب والأدباء والفنانين في جميع المجالات .... الخquot; وغير ذلك من السخافات الجميلة. لكن تجربة الأعوام الثلاث الماضية كانت أبعد ما تكون عن هذه المقدمة quot;الانشائيةquot;. فقد شابها الكثير من الشوائب والملاحظات السلبية وسوء التنظيم والادارة والفوضى والمحاباة، وهذا ما عبرّ عنه معظم الذين شاركوا في مهرجانات المربد السابقة وغيرها من الفعاليات الكبرى، سواء كانت من تنظيم جهات رسمية او غير رسمية.
أهم ظاهرة تسود في عملية توجيه الدعوات حسبما يقول البعض هي الوقوع في دائرة الاخوانيات والعلاقات والمجالس الخاصة و/أو الانتماء الى تجمعّات او منظمات معينة ... الى حدّ اعتبار الانتماء الى هذه الجماعات و/أو الشلل هو المعيار الوحيد للإبداع، وهو كذلك الفيصل حتى في تقييم النتاج الأدبي والثقافي للشخص.
كما ان المسؤولين في المؤسسات الثقافية الحكومية وغير الحكومية، سواء الذين جاءوا عن طريق التعيين او الانتخاب، هم أنفسهم واقعون في أسر هذه العلاقات الحاكمة، مما يؤدي في النهاية الى تكرار نفس الأسماء التي تتم دعوتها الى كل مهرجان او تظاهرة داخل وخارج العراق، لا بل يقول البعض ان النشر في الصفحات الثقافية للمؤسسات الصحفية المختلفة يخضع الى نفس هذه الآليات والعلاقات الشخصية والشللية.
أحد المسؤولين في اتحاد الأدباء يعترف بأن الاتحاد هو جزء من هذا الخراب الواسع، جزء من هذه الأزمة العريضة، وذلك بسبب غياب الأسس والمعايير والمرجعيات. واحدى المشاكل الرئيسية هي تعدد الجهات التي توجه الدعوات كما يحصل في المربد. هناك وزارة الثقافة، اتحاد الادباء في بغداد، وأخيراً اتحاد الأدباء في البصرة، وبالطبع هناك التنافس والتنافر بين الجهات الثلاث والذي ينعكس على أداء المهرجان في نهاية الأمر.
عضو آخر في الاتحاد يعتقد ان مثل هذه المسائل ملتصقة بعهود الممارسة الثقافية العربية، والعراقيةخاصة، التي تتبع الأساليب والنظم التقليدية الراسخة في التراث العربي، التي أدت الى نشوء الاستبداد السياسي والفوقية في العمل الثقاقي والمعرفي، بدلاً من خلق نظام قيمي جديد او معايير تقوم على احتضان ورعاية الإبداع والتجديد. كل هذا أدى في النهاية الى تبعية المثقف والفنان الى السياسي او الحاكم المستبد او المرجع الديني.
البعض الآخر يقرّ بصعوبة الخلاص من التقاليد السلبية quot;السابقةquot;، وان الوسط الثقافي العراقي لم يشهد تغييراً جذرياً في معظم المجالات، اذ لا يزال الذين كانوا مقرّبين من النظام السابق ومستفيدين من عطاياه يتصدّرون الدعوات للمشاركة في المهرجانات والايفادات كأن شيئاً لم يتغيّر ... وهناك آخرون لا يزالون في خانة الإقصاء والتهميش الى حد الآن مثلما كانوا في أيام النظام السابق. ويساعد على استمرار مثل هذه الأوضاع أجواء المحاصصة الطائفية والقومية والسياسية السائدة في العراق بعد سقوط النظام السابق.
والى جانب هذه التبريرات التي تبدو موضوعية ومنطقية، هناك التصريحات والاتهامات quot;الخبيثةquot; التي تنهال مباشرة بعد كل تبرير منطقي، وهي ليست للنشر بالطبع على حد قائليها. إذ يجمع العديد من العارفين والخبراء بالوسط الثقافي والأدبي : ان هناك نواة او quot; حلقة داخلية Inner Circle quot; في كل مهرجان او مؤتمر او تجمع كبير ndash; هذا اذا استبعدنا العبارات quot;القاسيةquot; العشوائية مثل (عصابة) او (مافيا) التي يستخدمها المثقفون العراقيون بسهولة وبساطة ndash; .... وهذه الحلقة هي التي تتحكّم في دعوة الأشخاص بناء على اعتبارات ذاتية او ايديولوجية، بعيداً عن الموضوعية والدور الابداعي للشخص. ومثل هذه quot;الحلقة الداخليةquot; تخضع للمزاجية والعلاقات والمصالح الضيقة ومختلف أنواع الانتماءات المشتركة، وتمتاز بانغلاقها واستعصائها على الآخرين.
عدد آخر من المهتمين يقولون ان جذر المشكلة يتلخّص في كون هذه الفعاليات تقام خارج العاصمة بسبب الظروف الأمنية السائدة حالياً، والحل يتمثل في عودة هذه المهرجانات الى بغداد لإتاحة فرصة أكبر للمشاركة أمام الجميع، وعلى الأخص النساء. اذ بسبب الأوضاع quot;المعقدةquot; السائدة في مدينة البصرة، تعذّرت مشاركة الشاعرات والأديبات والمثقفات في دورة المربد الحالية، واستحق المهرجان والقائمين عليه تقريعاً ولوماً كبيرين بسبب غياب المرأة شبه الكلي في القراءات والحضور.
مجموعة أخرى ترى في توجيه الدعوات الى أسماء محددة، كنوع من المكافأة لهؤلاء الأشخاص. لأن هذه المهرجانات تتضمن سفراً واقامة وحفلات وولائم ونفقات، وبالتالي من غير الممكن توجيه هذه الدعوات إلا الى الأحباب ... او quot;الحبايبquot; حسب التعبير البغدادي. وهذا شيء متوارث ومعمول به منذ أيام النظام السابق.
واذا كان مهرجان المربد الشعري قد تعاونت ثلاث جهات في توجيه الدعوات اليه، فان أسبوع المدى الثقافي المتنوّع الفعاليات والمواضيع انفردت جهة واحدة في الدعوة اليه، وبالتالي هي التي تتحمل المسؤولية المباشرة عن الشكاوى في هذا المجال. والخطورة تكمن في ان مؤسسة المدى الثقاتفية والاعلامية، وهي مؤسسة غير حكومية، فاحشة الثراء، مدعومة من قوى سياسية رئيسية في العراق، وبامكانها ان تلعب دورا حقيقيا وبالغ الأهمية في الثقافة العراقية الراهنة، لا يفترض بها ان تروّج لقيم وآليات الإقصاء والمحاباة والانقسام والتجاهل في الوسط الثقافي quot;القلقquot; .... بتأثير بعض العاملين فيها او بعض منتسبيها. إذ يكفي للدلالة على الدور الذي يمكن ان تلعبه مؤسسة المدى، وهو دور يوازي او ينافس دور وزارة الثقافة نفسها في مثل هذه الأمور، ان أحد المسؤولين في وزارة الثقافة اقترح ndash; على سبيل المزاح، بالطبع ndash; ضرورة دمج الوزارةquot;الفقيرةquot; بمؤسسة المدىquot;الغنيةquot; .... لتقوم الوزارة بأعمالها على أتم وجه لخدمة الثقافة والمثقفين في العراق الجديد.
وهكذا فاتت علينا فرصة ndash; ربما لن تتكرر ndash; في لقاء الكتّاب والمثقفين العرب والعراقيين القادمين من دول المهجر. فاتني اللقاء بالمخرج الكبير الأستاذ علي بدرخان والنجم السينمائي المثقف محمود حميدة والشاعر الذي أحبه كثيراً، عباس بيضون. أردت مشاهدة فلم صديقي المخرج عدي رشيد المعنون quot;غير صالح للعرضquot; بسبب عدم تمكني من مشاهدته في بغداد quot;الآمنةquot;، وكذلك فرصة اللقاء بسينمائيين ونقاد عراقيين قدموا من دول المهجر. وأخيراً، فاتني الاطلاع على نتاجات السينما الكردية الناشئة التي يتحدث عنها المثقفين الأكراد بزهو وفخر، وخصوصا اني أعرف بعض نتاجاتها المصنوعة في ايران، وهي بالفعل رائعة.
لكن ... ما كل ما يتمناه المرء يدركه!

ناقد عراقي يقيم في بغداد