عزيزي الأستاذ عثمان العمير ... ناشر "إيلاف"
كان يفترض أن تصلك هذه الرسالة على بريدك الخاص، لكني رأيت أنها لا تعني شخصك المحترم، وشخصي المتواضع فحسب، فهناك طرف ثالث، كان دائماً حاضراً بيننا منذ البداية هو تلك القارة الافتراضية الجديدة المسماة بالإنترنت، وإليها يعزى سبب تعارفنا، وهي لم تزل كلمة السر في تواصلنا اليومي، كما أنها أيضاً رهاننا المشترك، والشاهد على كل ما أحرزناه من نجاحات، وما حاق بنا من انكسارات، فلماذا نستبعدها إذن بعد كل هذا، من أن تكون شريكنا في هذه الفرصة الاستثنائية التي نتحاور فيها بمناسبة دخول المولودة الجميلة "إيلاف" عامها الجديد ؟
لماذا لا نواصل "ديموقراطية إيلاف" حتى نهاية المشوار، فلا نتوقف أمام المحاذير والاعتبارات التي طالما كنا ـ ولا نزال ـ نباهي بأننا نتميز بها عن غيرنا من التجارب الصحافية، بعدم الاكتراث لتلك السلسلة الطويلة من المناطق المحظورة والمسكوت عنها ؟
ولعلك لا تعرف حتى هذه اللحظة أن المقادير وضعتنا وجهاً لوجه في وقت "استثنائي" بالنسبة لي على الأقل، حين كنت ساعتها محبطاً منكسراً، لم تزل جراحات عدة تجارب مريرة تنزف وكنت تركت العمل للتو في مكتب صحيفة "الشرق الأوسط" بالقاهرة، وحصلت على اجازة مفتوحة من صحيفة "الأهرام"، التي أعمل بها بالأساس، وشأن مئات من حضرات الزملاء الصحافيين في مصر الذين يضطرون إلى العمل في أكثر من صحيفة، ليس بهدف الانتشار أو الشهرة، بقدر ما يتعلق الأمر بأوضاع الصحافيين المالية المتدنية، حيث تتأصل "الظاهرة الهندية"، بعد أن اتخذ المشهد المهني في مصر زاوية حادة، فلم يعد يضم سوى "مهراجات" و"فقراء"، أثرياء ثراء فاحشاً لا يصدق، وفقراء فقرا مدقعاً لا يحتمل، ففي مصر المحروسة هناك طائفة من الصحافيين يتقاضون ـ رسمياً ووفق القوانين ـ أكثر من مليون جنيه شهرياً، فضلاً عن نفوذ خرافي، إلى حد يمكن أن أزعم معه بضمير مرتاح أنه لو كانت هذه المؤسسات التي يمتطونها ملكاً خاصاً بهم، ورثوها عن آبائهم مثلاً، لما كانت سلطاتهم قد توحشت فيها إلى هذا الحد، لأنهم كانوا وقتئذ على الأقل سيخافون على مستقبل تلك المؤسسات، فلا يطلقون أياديهم في أمرها على طريقة السلاطين وحكاياتهم الأسطورية، يمارسون فيها نزوات السلطة المطلقة دون ما رقيب ولا حسيب ولا من يجرؤ على مجرد مناقشة الأمر، بل لعلك تراني مبالغاً إذ قلت إن "بارونات الصحافة الحكومية" أقوى حتى من كبار الوزراء المتنفذين، ولعل أبلغ دليل على هذا أن صحيفة مثل "الشعب" الموقوفة عن الصدور، وهي لسان حزب "العمل" الذي أصبح يسيطر عليه ساسة محسوبون على جماعة الإخوان المسلمين"، فهذه الصحيفة خاضت عشرات المعارك الشرسة ضد اثنين من أقوى وزراء مصر، الأول هو يوسف والي نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة، ورجل الحزب الوطني "الحاكم" القوي، قبل تهميشه مؤخراً، أما الثاني فهو حسن الألفي وزير الداخلية السابق وما أدراك ما سلطات وزراء الداخلية في شرقنا الأتعس، ورغم كل هذه السلطات فقد خاضت صحيفة "الشعب" معارك ضارية ضدهما، لكنها لم تكن تجرؤ مطلقاً على مجرد الاقتراب من "بارونات الصحافة الحكومية" في مصر، لا من قريب ولا من بعيد.
والآن هناك صحيفة "العربي" لسان حال الحزب الناصري المعارض، وهي تخوض معارك بالجملة ضد وزراء ومسؤولين كبار، كما تنتقد جمال مبارك علانية وصراحة، وبتعبيرات حادة أحياناً، بل وتتحدث عن الرئيس مبارك شخصياً ـ وهذه منطقة ألغام كما هو متعارف عليه في الصحافة المصرية ـ بلغة أقل ما يصفها به الرسميون أنها "غير لائقة".
لكن "العربي" بكل ما أوتت من جرأة على اقتحام هذه المناطق الخطرة وغيرها، لم ولن تجرؤ على المس بمقام "بارونات الصحافة الحكومية" صراحة، قبل الإطاحة بهم مؤخراً .
تعرف لماذا ؟، لأنها تدرك جيداً أن هؤلاء يستطيعون ببساطة غلق الصحيفة التي تتجرأ وتفعل، فتحت يد كل منهم عدة مطبوعات واسعة الانتشار، ومؤسسات ضخمة لها بني تحتية تقدر بمليارات الدولارات، وجيوش من الصحافيين وأشباههم المتأهبين دوماً للدفاع عنهم "بالروح والدم" والحيل والألاعيب وما لا عين رأيت، ولا اذن سمعت، والأهم من كل هذا فهناك رهن إشارة هؤلاء البارونات قرار الطباعة، إذ يملكون سلطة منع طباعة صحف المعارضة طويلة اللسان هذه، رغم فقرها المزمن الذي يحول دون سداد مستحقاتها المالية للمطابع، وهذا في حد ذاته كفيل بإلجام أي صحيفة عن الخوض في أمر يهدد وجودها.
وفي مقابل هذه السلطات الفاحشة لعدد من البارونات يمكن إحصاؤه على أصابع اليد الواحدة، هناك قاعدة عريضة من الصحافيين الذين يتوسلون ويتسولون ويبتلعون كل صنوف المهانة إلى حد الاعتياد وربما التطوع بها، لا لشئ إلا لتأمين راتب شهري يكفي بالكاد الحد الأدنى من الحاجات الضرورية من مسكن ومأكل وملبس وعلاج وحليب لأطفالهم، وهو الأمر الذي خلق أوضاعاً مزرية لو علم بها بعض القراء لتبرعوا لهؤلاء المحررين بجزء من أموال الزكاة، لأن بعضهم بالفعل ممن يجوز التصدق عليهم، فهل يعرف السادة القراء مثلاً أن هناك صحافيين أكفاء في مصرنا المحروسة ـ بالنظر إلى أنها التي نلم بأحوالها ـ يوقعون استقالاتهم في نفس اللحظة التي يوقعون فيها عقود عملهم، وذلك بعد أن يكونوا أمضوا سنوات طويلة من العمل الشاق دون عقود ولا تعيين ولا أي حماية قانونية من أي نوع، ولعل المثير للسخرية هنا أن الذين اخترعوا هذا الأسلوب الابتزازي الفجّ هم القائمون على صحف أحزاب المعارضة في مصر، مما يجعل الحكومة على كل سوءاتها أنبل وأكثر احتراماً من معظم ـ ولن نعمم ونقول كل ـ صحف المعارضة، وهو ما يؤكد مقولة "إن الله إذا أراد بأمة شراً، جعل معارضيها أسوأ من حكامها"، إذ يندرج هذا الوضع الشاذ تحت لافتة "نكد الدنيا" الذي يفرض على الحر عدواً له، ما من صداقته بُدّ، فتصبح نار الحكومة برداً وسلاما إذا قورنت بفردوس المعارضة المستعر، ويجعل من موظفي الحكومة، على فسادهم وانحطاط سلوكهم، ملائكة قياساً بأنبياء المعارضة الكذبة.
كالعادة ذهبنا بعيدا
لم يكن يا أبا عفان قد مر سوى أعوام قلائل، وتحديداً ثلاث سنوات وشهور حين قررت في واحدة من خياراتي الحادة في الحياة أن أركل نحو ثمانية عشر عاماً من العمل في موقع حكومي رفيع، وكما نولد ونعيش ونتزوج وننجب ونموت وفق قوانين المصادفات التاريخية التي غالباً ما تفتقد للمنطق، فلماذا لا نعمل وفقاً لنفس العبث، لاسيما وأن المهنة، أي مهنة، كالزوجة، أي زوجة، لا نعرفها إلا بعد التورط فيها، وحين ندرك حقيقتها وتلتف حول رقابنا أحبالها ويصبح الاستغناء عنها و"ركلها" ضرباً من الجنون، الذي سيُجَابه بالاستهجان الاجتماعي الحاد، ويُقَاوم بكل ما يملكه الأصدقاء والأعداء والأعدقاء من أسلحة فتّاكة، فما بالك حين يتعلق الأمر بالسلطة، وفي بلد كمصر حيث تتجذر واحدة من أقدم الدول المركزية في التاريخ، يصبح الانتماء للسلطة، أو حتى مجرد الادعاء بذلك، مدعاة للفخر ومعياراً للتمايز ومفتاحاً لأبواب المستقبل، ثم يصل الأمر إلى ذروة درامية حين يضاف إلى كل هذا عنصر آخر اسمه "الصعيد"، وما أدراك ما "الصعيد"، وقصته مع السلطة والسلاطين والتسلط والسلاطة، وكل تصريفات فعل "سلط" ذات العلاقة.
وبعد سنوات من الأزمات والعقوبات والتحقيقات بسبب قيام صاحبكم بنشر مقالات وتقارير في أسبوعيتي "صباح الخير"، و"روز اليوسف" سليطة الحروف، حريفة المذاق صعبة المراس ـ قبل تدجينهما ـ وكان بالفعل وضعاً غريباً وربما شاذاً أيضاً أن يصر رجل يشغل موقعاً وظيفياً مهماً في بلد ينتمي للعالم الثالث، على كتابة مقالات في أسبوعية تقف على يسار الحكومة، وجرب كثيرون من رموزها السجون والمعتقلات والإبعاد والطرد والفصل بل وحتى النفي، كما حدث مع العم محمود السعدني، دام ظله الوريف، حين رفض السادات وساطات من ملوك ورؤساء لعودته إلى مصر قائلاً إن "هذا الولد لن يدخل مصر مادمت على قيد الحياة"، وهو ما حدث بالفعل فلم تكتحل عينا عم محمود برؤية شارع البحر الأعظم وميدان "أم المصريين" إلا بعد أن التهم السادات "عفريت" التطرف الديني الذي أخرجه الرجل من القمقم ليحقق له أمنياته، وبعد صداقة سنوات لم يعرف بعدها كيف يعيده لقمقمه فالتهمه، على النحو المعروف للحابل والنابل و"أبو رجل مسلوخة".
نعود إلى موضوعنا
وكيف كان تغيير المسار المهني مغامرة كبرى لكنني فعلتها بحسم، وهنا يلزم القول إنه مع إقراري بداية، وتسليمي دون جدل، بأن كافة أجهزة السلطة العربية هي أدوات قمع بيد الأنظمة المستبدة في شرقنا الأتعس، وهذه قصة أخرى نأمل أن يمتد بنا العمر وتواتي الظروف يوماً لسردها بضمير مرتاح، غير أنها تبقى مع ذلك مؤسسات حقيقية لا تحتمل التهريج ولا تسودها العشوائية، على النحو الذي فجعتني به أحوال مؤسسات الصحافة الحكومية منها والمعارضة والموسومة زوراً بالمستقلة، فهناك سقف متعارف عليه في كافة الأجهزة لمساحة المجاملات التي يمكن فيها وضع شخص غير كفؤ في موقع حيوي، لأن كلفة مثل هذه المجاملات أخطر من أن يحتملها النظام، أي نظام، بينما بدا لي الأمر في أوساط الصحافة عبثياً أكثر مما ذهب إليه خيالي، رغم اقترابي منه سنوات طويلة قبل الانخراط احترافياً في المهنة، إذ يمكن القول بمنتهى البساطة إنه لا يوجد ثمة قانون أو معيار محدد في الحال الصحافي العربي كله، بل هناك سلسلة طويلة من الأعراف والحسابات والاعتبارات التي ربما تجعل من تلميذ المرء رئيساً له، كماهو الأمر مثلاً في بعض صحف الخليج، لا لشئ إلا لأنه ـ بسلامته ـ مواطن من أبناء ذلك البلد الذي تصدر فيه تلك الصحيفة، وبالتالي جرى العرف على أحقيته بالولاية الكبرى، بل ربما تأتي الريح بخلق لا صلة لهم بالصحافة ولا يقرؤون الصحف ولا حتى يحبونها، لكن ذلك في نهاية المطاف جزء من حسابات داخلية معقدة، ليست الصحيفة شأناً منفصلاً عنها، لكن في مصر تسود حسابات من نوع آخر، هي خليط من المصادفات التاريخية حيناً، ورضا النظام أحياناً كثيرة، والعبث واللامعقول و"بركة دعاء الوالدين" في أحايين أخرى.
وللوهلة الأولى التي دخلت فيها مبنى الصحيفة الحكومية العريقة، خالجني شعور بألا مستقبل لي هناك، وأنني ضللت الطريق، لكن الرصاصة كانت قد خرجت من مكمنها، وليست هناك ثمة وسيلة معروفة حتى اليوم ـ رغم تقدم الطب والهندسة ـ لإعادة رصاصة انطلقت بالفعل، لهذا لم يعد الأمر خياراً، بل أصبح قدراً محتوماً أن أنتحر لإثبات جدارة مهنية، ولسنوات ظللت أكتب وأجري ذات اليمين وذات اليسار، التقي شخصيات وأتابع وقائع وأحداثاً، وأقرأً بنهم هو بالأساس جزء من تكويني الشخصي باعتباري "فأر مكتبة" منذ تعلمت القراءة، ومع ذلك وجدتني محاصراً من كل حدب وصوب، فهناك من يضع عراقيل لا حصر لها في طريقي، وتعاطيت مع الأمر ببساطة باعتباره جزءاً طبيعياً من لعبة الصراع التي تدور وجوداً وعدماً مع البشر والحياة في شتى مناحيها، وهكذا جرت في النهر مياه كثيرة، وكما يقول الرواة الشعبيون في مصر "بلاد تشيل وبلاد تحط"، رحت أسعى في مناكبها، وأتتبع ما يفعله الزملاء المخضرمون فأتعلم وأجتهد في تطوير الأدوات، حتى وجدتني ذات يوم مهدداً بإحالتي على التحقيق لأنني أتعاون مع مكتب صحيفة عربية شهيرة بالقاهرة، وهو للعلم أمر شائع لدرجة أن الفاشلين أو الغارقين في الفساد لآذانهم، هم فقط الذين لا يفعلون ذلك في الصحافة المصرية وربما معظم الدول العربية، فهناك دائماً "سبوبة" إلى جانب العمل الأساسي، سواء في الصحيفة الحكومية أو الحزبية أو المسماة بالمستقلة، بل إن هناك مسؤولين كبار في الصحف يعملون كمسؤولين بمكاتب صحف عربية في القاهرة، إذن فلماذا يسعى القوم إلى استهدافي أنا تحديداً، رغم أنني أجتهد في العمل، واحتمل سماجات وحماقات وجهالات كل من هب ودب مادام من صنف "السادة المتنفذين"، ولا اكترث لعدم وضعي على خارطة النفوذ، ولا بين "كشوف البركة" التي تشمل مكافآت خاصة وسفرات حول الأرض على حساب الصحيفة، كما أنني لم أتحرش يوماً بمتدربة، ولا سعيت إلى إلحاق ابن خالة أو بنت خال للعمل لدى هذا أو ذاك، بل سأذهب لما هو أبعد من ذلك واعترف أنني لم أكن أمانع في نفاقهم أحياناً، ليس طمعاً في شئ، بقدر ما هو درء لمصائب بظهر الغيب، قد يلقون بها على كاهلي المتعب، ومع ذلك فقد فعلوها وقذفوني بالمصيبة تلو الأخرى، وفجأة وجدتني ماثلاً أمام ما يشبه "المجلس العسكري"، حين جلس ليستجوبني شخص عمل زهاء ثلاثة عقود من عمره في صحيفة خليجية، ومع ذلك ظل "تعيساً"، لم أضبطه مرة واحدة متلبساً بالقناعة والرضا، بل إنه لا يكف عن الشكوى والتذمر، حتى تحول إلى شيطان لا يباريه مخلوق في فن "الوسوسة"، لهذا دعنا نخلع عليه رتبة "إبليس" شخصياً، الذي راح يحاكمني بتهمة "النشر في صحيفة "الشرق الأوسط"، وهذا لو تعلمون غاية السخف ومنتهاه، أن يجلس على منصة القاضي قاتل محترف، بينما يجلس في قفص الاتهام سائق سيارة دهس دجاجة رغما عنه.
الحقيقة يا سيدي أنني لم أقل شيئاً، ولم أدافع عن نفسي مطلقاً، والتزمت الصمت التام، الذي لا يعد علامة رضا دائماً، بل ربما يكون أحياناً تعبيراً صادقاً عن يأس وصل إلى النخاع الشوكي، ولم استعن بصديق كما يحدث في برامج المسابقات الفضائية، ولم استنجد بأصدقاء قدامي كان بوسعهم حسم الأمر بمحادثة هاتفية، لم أفعل شيئاً على الإطلاق جلست كمحكوم بالإعدام يترقب بين اللحظة والأخرى أن يتقدم منه السياف لينفذ به أمراً كان مفعولاً، ولعل هذا ما أربك الهيئة الموقرة، التي ربما كانت تتوقع سيلاً من الاتصالات والمناشدات، فضلاً عن مرافعات من جانبي لتبرير الأمر أو حتى الاعتذار، لكن هذا الصمت الذي اخترت التزامه كان في ما يبدو خارج توقعاتهم، وراح "إبليس" المقيم حتى يومنا الأغبر هذا في زمن "الاتحاد الاشتراكي" الجميل، راح يتلو ما يشبه عريضة الاتهامات لشخصي المتواضع، وكيف أنني تجرأت على القوانين واللوائح، وتعاونت مع "العدوين" أي المطبوعة الأخرى، وهي وإن لم تكن منافسة لكن القانون هو القانون، والأصول المرعية لا تعرف هذه التبريرات التي ساقها هو وليس أنا، بينما يتدخل بين الحين والآخر شخص من معيته في "الهيئة المبجلة"، لينبه المحقق "الإبليس"، الذي أعادته إلى المؤسسة العريقة بعد أفول زمن الطفرة في دول الخليج، وساطة شهيرة وشبه علنية، من قبل وزير هام تربى معه في دهاليز سئ الذكر "الاتحاد الاشتراكي"، وسيئة السمعة "منظمة الشباب"، ينبهه إلى مصيبة أخرى وثالثة ورابعة وكلها تصب في اتجاه إدانتي بشدة، لدرجة لم أعد خائفاً معها من الطرد فقط من الصحيفة، بل حدثتني نفسي الأمارة بالخوف أنه ربما يصل الأمر إلى الإعدام، خاصة حين عرج القاضي "الإبليس" فجأة إلى الحديث عن حب مصر، وكيف ينبغي على المرء أن يذوب فيه، ويمنح بلاده ووطنه كل كيانه وروحه، ربما كما فعل هو حين عمل في "الخليج" زهاء ثلاثين عاماً ظل خلالها يتعذب بحب مصر، ويغني لها المواويل في معية "طوال العمر"، ولهذا حين عاد بعد أن بلغ به العمر عتيّاً احتضنته مصر فوفرت له درجة الدكتوراة، وبعدها عدة مناصب حتى يفاضل أو يجمع بينها، وفتحت له كل الأبواب والنوافذ، وصار نجم الصحافة والسينما والمحطات الأرضية والفضائية وحركة "كفاية"، ومعبود الجماهير، ومحطم قلوب العذارى، وكل هذا بفضل حبه لمصر، بينما أنا الذي حملت روحي على كفي وحملت سلاحي وخضت مواجهات لا حصر لها مع عصابات الإرهاب واللصوص والفاسدين، في وقت كان "أبليس" يسبح في خور ما بالخليج، فارسياً كان أو عربياً، وبعد أن انتهى الإرهاب بعد سداد فاتورة ثقيلة من الدم والعرق، دفعت ضريبتي كاملة منها، يأتي "سي إبليس" ليحاكمني ويتهمني بالتقصير في "حب مصر"، لا لشئ إلا لأني بحثت عن فرصة لنشر مقال بعد أن ضاقت بي صحيفة يفترض أنني أحد محرريها، أو حتى من أجل كسرة خبز وكوب حليب لطفلتي، ولم أكُ ذات يوم لصاً ولا محتالاً ولا قواداً ولا متاجراً بعرضي .. كم يبدو هذا الأمر مأساوياً شأن كل الحكايات الحزينة، وكم كانت أمي صادقة حين ظلت تناديني طيلة سنوات طفولتي بلقب "المتعوس".
آه يا أبا عفان
لا شك أن كل شئ حدث بعفوية، فلا أنت ولا أنا كان يدبر لهذا اللقاء، حين كنت أنا كفارس مثخن بالجراح، فقد نصف أطرافه فضلاً عن فرسه ودرعه وسيفه، ولا أعلم كيف كنت أنت ساعتها، لكن ما أذكره جيداً أنك كنت لطيفاً واسع الصدر، واحتملت حدتي التي ربما يبررها أو يفسرها هذا المناخ الخانق الذي رويت مشهداً عابراً من قصته الحزينة، وكلفت حينئذ وسيطاً للتفاهم معي بشأن العمل في "إيلاف" التي كانت تحبو في أيامها الأولى التي لم تصل إلى عمر الشهر بعد، ورغم أنني طالما اعتبرت نفسي "Net Citizen"، لكني بصراحة لم أكن متأكداً من أن الذائقة أو الذهنية العربية، يمكن أن تحتمل أو تستوعب وجود "صحيفة إليكترونية"، لا تطبع في عشر عواصم وتوزع في نصف الكرة الأرضية، بل رحت تحدثني حينئذ عن مدى كراهيتك للورق، وكيف أن نسائم الحرية هبت عبر هذا الفضاء الافتراضي الرائع، وأنا صدقتك، تعرف لماذا؟، لأني كنت في حالة سيولة نفسية، كنت أبحث عما أو عمن يضمد جراحي، كنت أبحث عن وهم خاص، عن أسطورة جديدة أؤمن بها وأدافع عنها، دائما نحن في حاجة إلى أساطير، ولو لم نجدها لاخترعناها، فما بال الأسطورة حين تقتنصك هي، بينما أنت تتسكع عبر دروب هذا الفضاء المثير في تلك القارة الجديدة، التي تدعى "إنترنت"، وكان أن "توكلنا على الله".
في تلك الأيام كان الزملاء في "إيلاف" يمكن عدهم على أصابع اليد الواحدة، وسقط بعضهم في غبار المعركة، بينما استمر معظمهم، لكن كنا جميعاً بذور التجربة ونواتها، وبعيداً عن التواضع الزائف، يمكنني الزعم بأنني كنت واحداً من "فرقة انتحارية" بالمعنى الحرفي، كان علينا أن نعمل على مدار الساعة تقريبا، كتبنا ونشرناً أطناناً من الأخبار والمقالات والتقارير، وأجرينا مئات التغطيات والمقابلات، وحتى أنت كنت حينها تتابع معنا لحظة بلحظة، نجدك "أون لاين" آناء الليل وأطراف النهار، لا تتصفح وتتجول فحسب، بل تقترح وتناقش وتعترض وتوافق وتتفاعل معنا في حالة نادرة الحدوث بين ناشر ومحررين، يجلس كل منهم في طرف من أطراف الكون، ولم يحدث فجأة أن غدت "إيلاف" ملء الدنيا وشاغلة الناس كما هو حاصل الآن، بل ما حدث أنها تسللت بنعومة حتى أصبحت جزءاً من البرنامج اليومي لملايين البشر في كل حدب وصوب، من يحب ومن يبغض على السواء .
كانت "إيلاف" تقتحم وتفور وتشرق وتتوقع وتقاتل وتندلع وتنهمر وتتدفق وتحطم وتبهر وتتحدى وتتعثر وتنهض، وبدا الأمر أحياناً كما لو كان سباقاً انتحارياً بين محرريها، لكن كنت أستطيع رؤية ابتسامات القراء لهذا الوليد الجميل المثير للجدل، وكنت أقرأ الانبهار في عيون الزملاء الصحافيين رغم المسافات التي حطمتها هذه الشبكة الساحرة واعتلت سرجها "إيلاف"، وهنا أذكر بكل الخير زملاء سهرنا واقتسمنا الليالي معاً، واتفقنا واختلفنا وتشاجرنا وتصافينا ومنهم من لم يزل على العهد بعد، وآخرون حسموا أمرهم وفارقونا إلى مواقع أخرى، لكن تبقى لكل منهم لمسته وإضافته التي لا ينكرها أحد، ومن هؤلاء "سام" صموئيل شمعون، وسهى زين الدين، وبالطبع الفقيد والأستاذ المغفور له محمود عطالله، ومنهم من لم يزل يكابد الأشواق والسهر الجميل، مثل نسرين وسمر وعبد القادر الجنابي وفداء عيتاني ورانيا وريما زهار وبلقيس، ولا أنسى بالطبع سرجون أمير "إيلاف"، وأكثر من صادفته في حياتي تهذيباً، والذي وجد نفسه فجأة، ودون ترتيب سابق، محرراً رياضياً معروفاً.
الآن .. هناك تحولات واضحة لا تخفى على عين القارئ وفطنته، ولعل هذا هو قانون التطور الطبيعي أن تتحول التجارب والكيانات البسيطة حين تنضج إلى مؤسسات، يقوم على شؤونها فريق يكبر و"يتمأسس" بمضي الوقت، لهذا تبدو "إيلاف" الآن أكثر احترافية وزخماً وتنوعاً وشمولاً، لكن ما ساظل أمنح نفسي الحق فيه هو التشديد والدعوة إلى التشبث ببقاء "إيلاف .. الفكرة والمؤسسة والتجربة"، قابضة على زخمها وحيويتها، ومناخها الحر وشمسها العفيّة، وانحيازها للبسطاء والمهمشين والمطردوين من فردوس الحكومات، فلا تنتصر للركود، ولا تقف في صف الكهنة، ولا تقع أسيرة المرتعدين والمترددين والمتاجرين.
تبقى في الختام
كلمة لقارئ "إيلاف" الذي ربما يتوقع مني أنني سأتحدث عنه باعتباره "كان ولم يزل رهاننا الأول، وشريكنا في كل تقدم"، وأحسب أن هذا الأمر رغم صحته، لكنه ليس ما أعتزم الخوض فيه، فالعشاق المبتذلون وحدهم هم الذين يتبادلون عبارات الغرام الممجوجة ليل نهار، أما العشاق الحقيقيون فيقتحمون "صلب الموضوع" مباشرة، وهو ما ينبغي أن أقوله بنفس الصراحة والشفافية للقارئ، إننا دفعنا ثمناً باهظاً حين اخترنا الانحياز إلى صفك، حين قررنا ألا نكون أبواقاً للحكومات، وهنا أتحدث عن نفسي، فأنا شخصياً راض كل الرضا بهذا الغرم، انطلاقاً من قناعة بالغة البساطة وبلا تقعر، مؤداها أن ما تبقى في العمر أقل مما مضى، ولم يعد يحتمل مزيداً من الألاعيب السخيفة، ولا الرهانات الخاطئة، فاعلم عزيزي القارئ ـ أعزك الله ـ أن صاحبكم بمجنون، فلا هو الثريّ حتى يقرر الاستغناء عن الأنظمة وعطاياها، ولا يحمل جنسية "ماما أميركا" أو حتى "العمة أوروبا" العجوز، ليحتمي في ظلها الوارف، بل يحمل جواز سفر مصري "أخضر العتبات"، وبطاقة رقم قومي تفتح له كل أبواب "مزرعة طرة"، وما أدراك ما طرة ومزرعتها، لهذا يضطر إلى الجلوس ساعات أمام هذه الشاشة اللعينة حتى تورم وتقوس عموده الفقري، ثم يرضخ لكافة اشتراطات محبة "إيلاف"، ويرحب بهؤلاء القادمين من المعلوم أو المجهول، والهابطين بالبراشوت بين الحين والآخر من شتى الكواكب والأصقاع، وهي بالتالي كأي معشوقة ما أن تتأكد من صدق محبة عاشقها حتى تتدلل وتمعن في تعذيبه وإهمالهً، باعتبار أن العصمة في يديها.
إذن فبأي أسلحة، واتكاء على أي قدرات، واستناداً إلى أية حسابات، يقرر صاحبكم خوض هذه المعارك الضارية والمتجددة يومياً؟، ولعله لا يكذب ولا يبالغ، ولا يستعين بعبارات الإنشاء المدرسية، حين يؤكد لك سيدي القارئ أنه لا يمتلك أية أسلحة، سوى ما يعتمل في صدره من رؤى وأفكار وأمنيات وأحلام واتساق مع النفس، لم يعد لدى صاحبكم الآن سوى هذه القارب منجاة له وربما لكم، في مواجهة طوفان من القبح والتخلف والتطرف والفساد والظلم والادعاء والزيف والاستبداد والخراب، ولعل ذلك يرجع إلى قناعة مؤداها أن كل الحكايات الجميلة كانت في البدء مجرد كلمة، وأن كل الصروح الشامخة، كانت دائماً تقف خلفها أحلام بالغة البساطة .. وأفكار شديدة الصدق .. فلا تخذله.
والحديث موصول،
التعليقات