كانت القضية الفلسطينية حاضرة أكثر من غيرها من القضايا في المنتدى الأقتصادي العالمي الذي أنعقد في شرم الشيخ بين العشرين من أيار- مايو الجلري والثاني والعشرين منه. وكان مخيفاً ذلك الكلام الذي صدر عن الفلسطينيين الذين شاركوا في المنتدى الذي تنظمه كلّ سنة الهيئة التي تنظّم مؤتمر دافوس. أنعقد المنتدى هذه السنة للمرة الأولى في منتجع شرم الشيخ المصري بعد ثلاث ندوات أستضافتها الضفة الأردنية للبحر الميت وقاطعها لبنان الرسمي بحجة أن من يذهب الى مثل هذه الندوات quot;خائنquot; يطبّع مع أسرائيل. ولذلك، بدا مستغرباً لبنانياً وعربياً هذه المرة أن يكون رئيس الجمهورية الممدد له قسراً رئيس الدولة الوحيد الذي حضر أفتتاح المؤتمر...
ساهم الموقع الجديد، أي شرم الشيخ، في أفقاد المنتدى بعض روحه، وربّما ساهمت في ذلك الطريقة المختلفة المعتمدة للتنظيم وهي طريقة ساهمت في أبعاد المشاركين عن بعضهم بعضاً، الأمر الذي جعلهم لا يلتقون سوى لحضور ندوات كانت في معظمها تكراراً لندوات سابقة. والحقيقة أن الهاجس الأمني لدى المسؤولين المصريين لعب دوراً في جعل المنتدى يدور بطريقة مختلفة عن الماضي. واذا كان من كلمة حقّ تقال، فهي أن السلطات المصرية لم تستطع تجاوز الهاجس الأمني الذي أعطته الأولوية على كلّ ما عداه. ربّما كانت على حقّ في ذلك، خصوصاً أنها الطرف الوحيد القادر على أجراء تقييم واقعي للوضع السائد.
في ايّ حال، سيتبين السنة المقبلة ، عندما سيعود المنتدى الى البحر الميّت، أي الى المكان الذي ولد فيه، ما اذا كانquot;دافوس الشرق الأوسطquot; فقد زخمه، أم ان المكان والتنظيم وراء تحوّل ندوة شرم الشيخ الى ندوة باهتة عموماً مع بعض الأستثناءات. كان بالطبع بين هذه الأستثناءات ظهور السيّد جمال مبارك، نجل الرئيس المصري، في أحدى الندوات وحديثه عن الأصلاحات بلغة أنكليزية متقنة بما يؤكد أن لديه مؤهلات كثيرة من بينها معرفته بما يدور في العالم من جهة وأدراكه لما تعانيه مصر من جهة أخرى. لكنّ الأهمّ من ذلك أن جمال مبارك بدا متصالحاً مع نفسه وواثقاً مما يفعله. كذلك كان هناك ألأداء الأستثنائي للرئيس فؤاد السنيورة الذي كان بين القلائل الذين صفق لهم الحضور من القلب، أضافة بالطبع الى ألخطاب السياسي -الأقتصادي للدكتور باسم عوض الله مدير مكتب الملك عبدالله الثاني الذي فرض نفسه على الحضور بجرأته التي بلغت حد الحديث الصريح عن الفجوات والنواقص التي يعاني منها بلده بما في ذلك غياب الثقة بين الحكومة والشعب أحياناً. ولم يتردد عوض الله في الأشارة الى أن ثمة حاجة الى معالجة هذه المشكلة بكلّ شفافية وصراحة بدل الهرب منها. ومثل هذا الكلام الواضح والمختلف عن الكلام النمطي المملّ هو الذي ميّز ندوات المنتدى الأقتصادي العالمي في الماضي. أنه كلام مرتبط الى حدّ كبير بما يدور في العالم بدل التلطّي بالشعارات الفارغة بغية الهرب من المشاكل الحقيقية.
كان ذلك الأطار العام الذي أحاط بندوة شرم الشيخ التي أتاحت فرصة للتعرف عن كثب على ما يدور في فلسطين هذه الأيام حيث يبدو واضحاً أنّه لا يمكن في أي شكل التقليل من مخاطر حرب أهلية فلسطينية- فلسطينية بدأت تطلّ برأسها مع أصرار quot;حماسquot; على أن تكون لديها ميليشيا خاصة بها تقيم توازناً مع الأجهزة الأمنية التابعة للرئاسة الفلسطينية. ولم يتردد عدد من المسؤولين الفلسطينيين امحسوبين على رئاسة السلطة الوطنية في القول أن الميليشيا التي أنشأتها quot;حماسquot; في غزّة دليل على رغبتها في الأحتفاظ بالسلطة بغض النظر عمّا يمكن أن تسفر عنه أي أنتخابات تجري قريباً.
أضافة الى ذلك، لم يخف المحيطون بالسيّد محمود عبّاس (أبو مازن) رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية خوفهم من تطورات الوضع في قطاع غزة، وهم يعترفون أوّلاّ بأن quot;حماسquot; قادرة على السيطرة على القطاع عسكرياً لأسباب عدّة في مقدّمها أنها تمتلك كمّيات هائلة من السلاح والذخيرة والرجال، أضافة الى أن تنظيمها في غزة أفضل بكثير من تنظيم quot;فتحquot; التي لا ينقصها الرجال بمقدار ما ينقصها الأنضباط من جهّة والذخائر من جهة أخرى. وفي ضوء هذه المعطيات، لا يستبعد قياديون فلسطينيون من القريبين من quot;أبو مازنquot; ومن الذين لديهم أعتراضات على عدم مواجهته quot;حماسquot; منذ البداية، أن تقدم quot;حماسquot; قريباً على خطوة تؤدي الى وضع يدها على قطاع غزة، آخذة في الأعتبار أن الوضع في الضفة الغربية مختلف تماماً عن الوضع في غزة وأن معظم قياديي quot;حماسquot; في الضفة يعرفون طبيعة مجتمعها وصعوبة سيطرة حركة دينية عليه.
لا يبدوهمّ الفلسطينيين، الذين كانوا في شرم الشيخ، محصوراً في مخاطر الحرب الأهلية. بل أنّهم يشدّدون على أن الوضع الفلسطيني بات مهدداً من أساسه، ذلك أن وصول quot;حماسquot; الى تشكيل حكومة من النوع الذي شكّلته في الوقت الذي رفضت فيه أسرائيل ولا تزال ترفض التعاطي بشكل جدّي مع quot;أبومازنquot;، بل تضع كل العراقيل في وجهه خدمة لquot;حماسquot;، يطرح سؤالاً في غاية الخطورة. هل أنتهى مشروع الدولتين على أرض فلسطين؟ هل أنتهى المشروع الوطني الفلسطيني الذي يدعو الى أقامة دولة مستقلّة في الضفة والقطاع عاصمتها القدس الشرقية مع رحيل ياسر عرفات؟
هناك فلسطينيون يطرحون مثل هذا السؤال بكلّ صراحة، خصوصاً أن ليس ما يدلّ على أن هناك في quot;حماسquot;، quot;حماسquot; غزة وquot;حماسquot; الضفة الغربية وquot;حماسquot; الخارج المرتبطة مباشرة بالمشروع الأيراني، من يريد مواجهة الواقع والأعتراف بأنّ quot;الجدار الأمنيquot; الذي تبنيه الحكومة الأسرائيلية يمكن أن يصبح حقيقة في غضون أربعة أو خمسة أشهر.
وحده quot;أبومازنquot; ما زال يحاول رؤية بعض التحوّلات الأيجابية في ظلّ هذه الصورة القاتمة.أنه يقول مثلاً تعليقاً على مصادرة أموال باليورو لفّها حول خصره ناطق بأسم quot;حماسquot; وكان يحاول أدخالها الى غزة من دون الأعلان عنها: quot;أن أحزمة اليورو تظل أحسن من الأحزمة الناسفةquot;!
الأكيد أن رئيس السلطة الوطنية، يعي حقيقة الوضع ويعي خصوصاً مخاطره، لكنّ ليس في مقدوره الأستسلام للمشروع الأسرائيلي... بل يقاومه من منطلق أن العالم سيدرك عاجلاً أم آجلاً أن هذا المشروع لن يجلب الأستقرار لأحد بما في ذلك الى أسرائيل. هل رهانه في محلّه؟ وحدها الأيام المقبلة ستجيب عن مثل هذا السؤال وستجيب خصوصاً عن السؤال الأهمّ وهو لماذا توقفت quot;حماسquot; عن العمليات الأنتحارية؟ هل الوصول الى السلطة أهم من مقاومة الأحتلال الأسرائيلي الذي كانت تدّعي في السابق أنّه لا يجدي معه سوى مثل هذا النوع من العمليات؟