يندرج أعلان الولايات المتحدة شطب ليبيا عن قائمة الأرهاب الأميركية ورفع التمثيل الديبلوماسي بين البلدين الى مستوى سفارة في السياق الطبيعي لتطور العلاقات بين البلدين وأزالة سوء الفهم القائم بينهما خصوصاً من الجانب الليبي في البداية ثم من الجانب الأميركي في مراحل لاحقة. أنه سوء فهم قام في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي على فكرة خاطئة فحواها أن في أستطاعة ليبيا لعب أدوار أكبر من حجمها على الصعيدين الأقليمي والدولي. وتبين مع مرور الوقت أن ذلك ليس ممكناً وأن على كلّ دولة أن تأخذ في نهاية المطاف حجمها الحقيقي وأن تتعاطى مع المعطيات الأقليمية والدولية أنطلاقاً من هذا الحجم.
من حسن حظ ليبيا أنها أمتلكت قائداً أسمه معمّر القذافي يستطيع العودة عن الخطأ من دون أي نوع من العقد، ذلك أن لا عقد لدى العقيد. نعم لقد عملت بلاده على لعب أدوار أكبر من حجمها مستفيدة في مرحلة ما من المعطيات الدولية بما في ذلك وجود قطبين دوليين هما الأتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. وأتاح التنافس بين القوتين العالميتين لدولة صغيرة ولكن غنيّة مثل ليبيا أيجاد وضع خاص بها على الصعيد الأقليمي. ومن هذا المنطلق، كانت ليبيا لاعباً في لبنان في مرحلة ما ولاعباً في فلسطين في الوقت ذاته ولاعباً في الحرب العراقية- الأيرانية بين العامين 1980 و1988 ، ولاعباً في كل الأزمات التي شهدتها دول شمال أفريقيا في السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. ألم يكن الموقف الليبي من جبهة quot;بوليساريوquot; في 1984 حاسماً في أفقاد الجبهة، التي هي صناعة جزائرية والتي تطالب بأستقلال الصحراء الغربية عن المغرب، قدرتها على متابعة عملياتها العسكرية ضد المغرب في منتصف الثمانينات؟ من يتذكر أن ليبيا- معمر القذافي لعبت دوراً في أحداث قفصة التونسية في العام 1978 بعدما أستطاعت أختراق الجزائر والتدخل مباشرة في الجنوب التونسي؟ ومن يتذكر أن ليبيا لعبت دوراً في الأعداد للثورة الأيرانية التي أطاحت شاه أيران؟ ومن يتذكر أن ليبيا لعبت في مرحلة لاحقة دوراً في غاية الأهمية في دعم الثورة الأيرانية، خصوصاً خلال الحرب بين العراق وأيران؟
لا بدّ من تذكر أشياء كثيرة عن الأدوار التي لعبتها ليبيا بما في ذلك الوصول الى أن يكون لها دور مع مسلمي الفيليبين والى دعم الجيش الجمهوري الأيرلندي في سعيه الى أستقلال أيرلندا الشمالية عن المملكة المتحدة، أي عن بريطانيا، لكنّ الأهمّ من ذلك كلّه، أن ليبيا تورطت في مرحلة ما في تشاد ودخلت في عسكرية مباشرة مع فرنسا بسبب هذا التورط الذي القى بأعبائه على النظام الليبي. وعلى الرغم من أن هذه ألأعباء كانت كبيرة وثقيلة على النظام، أستطاعت ليبيا بقيادة القذّافي التعلّم من التجارب. واستطاعت خصوصاً التكيف مع المعطيات الدولية... وتحمّل المسؤوليات المترتبة على مغامرات معيّنة.
لا شكّ أن صعوبات كبيرة رافقت عملية التكيّف التي بدأت عملياً فيما كانت الحرب الباردة لا تزال قائمة، أي حيّة ترزق. حدث ذلك في العام 1986، حين شنت الطائرات الأميركية هجوماً على مواقع محدّدة في ليبيا، بما في ذلك على منزل العقيد معمّر القذّافي في طرابلس حيث قتلت أبنته بالتبني. وحده التاريخ سيثبت ما أذا كان هناك ما يبرر هذا الهجوم الذي أمر به الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان وما أذا كانت ليبيا مسؤولة حقيقة عن العمل الأرهابي الذي أستهدف ملهى ليلياً في برلين الغربية أسمه quot;لا بيلّquot; مما أدى الى سقوط ضحايا بين الجنود الأميركيين الذين يرتادون الملهى أضافة الى فتاة تركية. قد تكون ليبيا مسؤولة عن هذا العمل الأرهابي، الذي أتّخذ ذريعة للهجوم الأميركي، كما قد لا تكون مسؤولة عنه، لكنّه كان أشارة واضحة الى حدود ما يستطيع الأتحاد السوفياتي عمله على صعيد دعم حلفائه. تبين في الواقع العملي أنّه لايستطيع شيئاً وأن ما كتب قد كتب وأن معمّر القذافي كان مستهدفاً بشكل شخصي نظراً الى أنّ القنابل الأميركية أصابت غرفة نومه. كانت أعجوبة وراء نجاته من الغارة الأميركية على المكان الذي ينام فيه عادة!
قبل أنهيار الأتحاد السوفياتي كلّياً في العام 1991 ، تولّدت قناعة لدى القيادة الليبية بأن شيئاً ما تغيّر في العالم، ولذلك، لم يكن منطقياً أن تقدم ليبيا في أكتوبر- تشرين الأوّل من العام 1988على جريمة لوكربي. وعلى الرغم من ذلك، عوقبت ليبيا على تلك الجريمة التي قد يثبت يوماً أن لا علاقة لها بها أو قد يثبت أنها مجرد شريك هامشي فيها، شريك كان على علم بأن شيئاً ما كان يدبّر ضدّ الولايات المتحدة، لكنّه لم يبلّغ عن الأمر. ولعلّ أهم ما يمكن قوله عن التحرك الأميركي الذي أستهدف ليبيا في بداية التسعينات أن الهدف منه كان فرض عقوبات على نظام العقيد القذّافي بغضّ النظر عما أذا كان متورّطاّ في قضية لوكربي أم لا. وفي هذا المجال، قال مسؤول أميركي كبير في البيت الأبيض في العام 1995 في لقاء خاص: ما يهمّنا وضع النظام الليبي في قفص، بغض النظر عمّا أذا كانت له علاقة بلوكربي أم لا، وقد نجحنا في ذلك عندما فرض مجلس الأمن عقوبات دولية عليه.
ذلك كان تقويم مسؤول أميركي كبير لما حدث مع ليبيا التي أستطاعت في مرحلة لاحقة تقديم تنازلات كبيرة بغية أستدراك الأمور وفهم ما لم يفهمه صدّام حسين، وما لا يفهمه آخرون هذه الأيام. الخيار بدا واضحاً. أنّه بين فهم التوازنات الدولية والأقليمية وأستيعابها وبين عدم فهم ذلك. كان فهم هذه المعادلة وراء التخلّي الليبي عن أسلحة الدمار الشامل التي لا فائدة منها أصلاً، كما كان العامل الذي مكّن ليبيا من العودة الى الأسرة الدولية بفضل جهودها أوّلاً. وشملت هذه الجهود دفع مبالغ كبيرة، عن وجه حق أو عن غير وجه حق، الى أن تبيّن هذه الأمول ليست شيئاً مقارنة مع ما تحقق لاحقاً. ما تحقق جعل ليبيا تستغني أخيراً عن المناورات والألاعيب العربية التي لم تستهدف سوى أبتزازها وأبقائها في القفص الأميركي.
ربما كان السؤال الكبير الذي سيفرض نفسه في مرحلة لاحقة هو الآتي: ماذا بعد؟ هل تؤدي عملية أعادة الأعتبار الأميركية بشكل كامل لليبيا الى أعادة نظر في قضية لوكربي؟ ربما ذهب الأميركيون الى أبعد من ذلك. وهذا سيعني أنّهم سيطرحون تساؤلات في شأن الجرائم الأخرى ذات الطابع العربي والعالمي التي ألصقت بليبيا في حين أن آخرين أرتكبوها. ربما كان ذلك ملحق لأعادة العلاقات الأميركية ndash; الليبية الى مستوى السفراء وشطب الجماهيرية عن قائمة الأرهاب الأميركية. انه ملحق لا بدّ منه كي تعود الأمور الى نصابها وكي ننتهي من كذبات كبيرة الصقت بليبيا عن غير حقّ. أما الأكيد فهو أن العلاقات الأميركية- الليبية مقبلة على تطورات كبيرة مرتبطة الى حدّ كبير بتعاون ذي طابع أستراتيجي بين البلدين.