في النهاية، ما الذي يريده النظام في سوريا؟ هل يريد الحرب؟ هل يريد السلام؟ هل يريد أستعادة أراضيه المحتلّة؟ هل يريد العودة الى لبنان؟ هل يعتقد أن مستقبله مرتبط بدوره الأقليمي ؟ الأمر الوحيد الأكيد، أن النظام لا يستطيع حلّ مشكلته بألأستمرار في عملية الهروب الى أمام. أنها عملية لا يمكن أن تخدم سوريا والشعب السوري في أي شكل من الأشكال. على العكس من ذلك، ستزيد هذه العملية من عمق الأزمة التي يعاني منها النظام والتي كان أفضل تعبير عنها جريمة أغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري بهدف واضح وحيد هو الأمساك بالورقة اللبنانية وكأن هذه الورقة تمثّل خشبة الخلاص للنظام.
ليس مسموحاً بقاء النظام السوري أسير دور لا وجود له سوى في مخيّلة النظام. دور كان موجوداً في الماضي ، لكنه لم يعد له وجود الآن لأعتبارات كثيرة مرتبطة بأن الذين سمحوا لسوريا بأرسال قواتها الى لبنان، طلبوا منها الخروج منه. وقد نفّذت الطلب تحت الضغط ليس ألاّ معطية بذلك صورة سيئة للعالم عن كيفية التعاطي معها. ما يعنيه ذلك بكلّ بساطة أنه آن الأوان كي يسمع النظام في سوريا كلاماً من نوع آخر. خلاصة هذا الكلام أن ما يحمي النظام وما يحمي سوريا والسوريين تفكير مختلف يقوم على القيام بعملية نقد للذات في العمق بدل الأستمرار في عملية الهروب الى أمام. وبداية عملية النقد تكون بالأعتراف بأن المنطقة تغيّرت وأن موازين القوى فيها تغيّرت وأن ليس في أمكان سوريا لعب الأدوار التي كانت تلعبها في الماضي. ومن أجل فهم هذه الفكرة يمكن التوقف عند محطات معيّنة بغية الوصول الى نتيجة فحواها أن الأساءة الى لبنان وضرب الأستقرار فيه لا يخدم سوريا بمقدار ما أنه يضرّ بها وأن الأمساك بالورقة اللبنانية لا يقدّم في شيء. على العكس من ذلك أن الورقة اللبنانية ورقة مضرة من نواح مختلفة لمن لا يريد أجراء حسابات دقيقة والتفكير في المستقبل بدل البقاء في أسر الماضي وعقده.
كان النظام السوري في مرحلة ما ضرورة عربية، خصوصاً عندما كان صدّام حسين في السلطة وقبل أن يرتكب الرئيس العراقي المخلوع حماقة العصر ويجتاح الكويت الدولة العربية الآمنة التي رفضت بأستمرار أيذاء أحد أو الأعتداء على حقوق أحد خلافاً لما كان يعتقده صدّام. نعم، في المرحلة الممتدة من أواخر الستينات الى العام 1990 ، كان النظام السوري ضرورة عربية بغية أيجاد توازن معيّن مع نظام عراقي متهوّر لا علاقة له بالمعادلات الأقليمية والدولية، نظام يعتقد أن السياسة أقرب الى المقامرة من أي شيء آخر وأن العالم ليس قادراً على مواجهته أو ضبطه مادام قادراً على أستخدام أوراقه التي بينها الأرهاب من أجل أبتزاز الآخرين. أمتلك الرئيس الراحل حافظ الأسد ما يكفي من الذكاء والدهاء لأستغلال نظام صدّام الى أبعد حدود. أستغله عربيا وأستغلّه اقليمياً عندما وضع الأسس لتحالف مع أيران- الخميني وأستغلّه دولياً عندما عرف كيف يُقدِّم نفسه للغرب، بما في ذلك أميركا، كرجل الدولة المعتدل الذي يلتزم الأتفاقات التي يوقّعها وكلّ كلمة تصدر عنه. كذلك أستغلّ حافظ الأسد غباء صدّام في العلاقة مع ما كان يعرف بالقوة العظمى الأخرى في العالم، أي الأتحاد السوفياتي الذي لم تكن لديه ثقة كبيرة بالرئيس العراقي المخلوع. كان صدّام بمثابة الرجل القوي في العراق منذ العام 1968، لكنّه كان ينقل بلاده من مغامرة الى أخرى من دون أستشارة موسكو التي أرتبطت بمعاهدة صداقة وتعاون مع بغداد منذ العام 1972 . ومن هذا المنطلق، لم يكن هناك أرتياح كامل لتصرفاته في الكرملين. وبدا ذلك واضحا عندما أتخذ الأتحاد السوفياتي موقفاً متحفظاً من الحرب التي شنّها صدّام على أيران ndash;الخميني. ألم يصل الأمر بالسوفيات الى حدّ وقف عقود تسليحية مع العراق بعيد نشوب الحرب؟
كلّ شيء تغيّر في المنطقة. انهار نظام صدّام وصار الجيش الأميركي في العراق، لم يعد هناك وجود للأتحاد السوفياتي الذي عرف حافظ الأسد كيف يتعاطى معه مع أبقاء العلاقة قويّة مع أميركا. لم تعد هناك حاجة أميركية لسوريا في لبنان كما كانت الحال في منتصف السبعينات عندما وجد الدكتور هنري كيسينجر وزير الخارجية الأميركي، وقتذاك، أن الجيش السوري هو القوّة الوحيدة القادرة على ضبط المسلحّين الفلسطينيين في لبنان، بما في ذلك أنفلات ياسر عرفات وأنفلاشه العسكري على الأراضي اللبنانية. والأهمّ من ذلك كلّه أن العلاقة بين النظامين في سوريا وأيران صارت مختلفة. لم تعد سوريا وسيطاً بين العرب وأيران بمقدار ما صارت أداة أيرانية لا أكثر ولا أقلّ، تماماً كما حال quot;حزب اللهquot;.
يفترض في من يقرا هذه التحولات في دمشق، أن يعي أن مشكلة النظام السوري ليست مع لبنان، بل هي مع نفسه. أنه برفضه ترسيم الحدود في مزارع شبعا وأستخدامه السلاح الفلسطيني في لبنان وأقامة سواتر ترابية داخل الأراضي اللبنانية في الشمال والبقاع وأعتماده على أشخاص يخجل المرء من ذكر أسمائهم لأظهار أن لديه أزلامه في لبنان، يخدع نفسه أوّلاً. أنه يمارس سياسات عفا عنها الزمن في ظروف عربية ودولية وأقليمية ودولية، أقلّ ما يمكن أن توصف به أنها مختلفة جذرياً. هل هناك أفلاس سياسي أكبر من الأفلاس الذي يجعل النظام السوري يراهن على شخص مثل أميل لحّود في لبنان؟ ما الذي يستطيع أميل لحّود عمله غير الحقد على كل ما هو ناجح في لبنان؟ هل يمكن أن يكون الحقد على النجاح، أي على أشخاص مثل رفيق الحريري سياسة؟ يمكن القول منذ الآن ، أن في أستطاعة النظام السوري الأستمرار في تخريب لبنان، ألاّ ان ذلك لن يعود على سوريا والسوريين بأي فائدة. على العكس من ذلك أن مثل هذه السياسة تمثّل الطريق الأقرب الى محاولة تقليد صدّام، الرجل الذي لم يدرك يوماً معنى القرارات الصادرة عن مجلس الأمن. اعتاش النظام السوري في الماضي من قدرته على الأستفادة من نظام صدّام عبر الوقوف في وجهه والتصدي له. ما يفعله الآن أنه يسعى الى تقليده لا أكثر ولا أقلّ. يا لها من مفارقة ستجرّ الخراب على سوريا ولبنان والسوريين واللبنانيين! يا لها من مفارقة في أساسها عدم القدرة على قراءة خريطة المتغيّرات الأقليمية والتوازنات الجديدة في المنطقة والعالم. أنها متغيّرات تصب في أتجاه واحد هو أن على النظام في سوريا أدراك أن لا مجال لأدوار أقليمية وأن سوريا بلد عادي من العالم الثالث عليه الأهتمام برفاه شعبه وأن هذه المعطيات تفرض تصرفات وسياسات طبيعية بعيداً عن كل أنواع الأستفزاز، خصوصاً مع الجيران المباشرين. هذا الكلام ليس أنتقاصاً من قيمة سوريا، بل دعوة صادقة للمحافظة عليها لا أكثر ولا أقلّ. ما الذي يمنع النظام في سوريا من التصرف بطريقة طبيعية مع لبنان أو الأردن في حين يفعل ذلك مع تركيا؟