نكبة الشعب الفلسطيني الحقيقية ليست إنشاء الدولة اليهودية سنة 1947 بل افتقاده القيادة السياسية الشجاعة التي تعرف كيف تقرأ ميزان القوة للتقيد بمتطلباته من أجل التكيف مع المستجدات السياسية. ماذا تعني الشجاعة السياسية في الحالة الفلسطينية؟ أن تتحرر القيادة من الأساطير ما قبل السياسية وما تحت السياسية: من أسطورة الجهاد كطريق لإحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة، ومن أسطورة عبادة الكفاح المسلح القائلة بأن quot;الحكم في فوهة البندقيةquot;. باسم أحكام الفقه الإسلامي الجهادي رفضت قيادة الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين، سنة 1939، تقسيم فلسطين الذي اقترحته لجنة Peel الذي أعطى 80% من فلسطين للفلسطينيين و20% لليهود؛ كما رفضت سنة 1947، باسم هذا الفقه الكارثي، قرار الشرعية الدولية الذي أعطى للفلسطينيين دولة على 45% من أرض فلسطين!. سنة 2000 رفض عرفات، مدفوعاً بالجبن السياسي وعبادة الكفاح المسلح، مقترحات كلينتون التي أعطت الفلسطينيين أكثر من 90% من الأراضي المحتلة في حرب 1967. وفي 2006 ما زالت حماس ترفض الاعتراف بالشرعية الدولية مدفوعة بيقينها الجهادي الهاذي الذي يُحرِّم ويُجرِّم التنازل عن شبر واحد من quot;أرض فلسطين التي هي وقف إسلامي على جميع المسلمين في العالمquot; لا يحق لأية قيادة فلسطينية أن تساوم عليها! وهكذا فضل قادة حماس وهْم الفوز بالجنة على إمكانية فوز الشعب الفلسطيني بوطن ودولة! إنه الهذيان الجماعي الذي غرق فيه جل الإسلاميين من المحيط إلى الخليج وأغرقوا فيه، بالعدوى، جمهورهم الساذج لقيادته إلى احتمال انتحار جماعي تلوح تباشيره المشؤومة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية المصرة على تدشين عودة الإمام الغائب خلال سنتين بامتلاك واستخدام السلاح النووي كما صرح رئيسها مراراً!

بإمكان قيادة الرئيس محمود عباس، إذا تخلت عن الأساطير الهاذية وتحلَّت بالشجاعة السياسية حتى النهاية، أن تقطع الطريق على هذه النهاية المأساوية التي تقود حماس الشعب الفلسطيني إليها، كيف؟ إذا سارع، في حالة إخفاق مفاوضات فتح - حماس المحتمل، إلى تنفيذ وعده بتنظيم استفتاء على وثيقة الأسرى الفلسطينيين، وجلهم من حماس، التي قبلت بكل ما رفضته حتى الآن حماس: قبول جميع قرارات الشرعية الدولية التي أقرت مبدأ الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية (م. ت. ف.) كممثل (ومفاوض) وحيد للشعب الفلسطيني، ووضع حد للعمليات الانتحارية داخل إسرائيل. وهو ما طالب به، دون جدوى، كاتب هذه السطور حماس منذ 1993. وأتمنى أن يعي الأسرى عبثية الكفاح المسلح حتى في المناطق المحتلة ويطالبوا قياداتهم بوقفه لأنه لن يقودهم إلى أي مكان.

الذهاب إلى الاستفتاء الآن ملائم: حماس خسرت 8 نقاط في آخر استطلاع كسبتها فتح بقيادة أبو مازن، 80% من الفلسطينيين مع خيار الاعتراف بإسرائيل والتفاوض معها على الدولة الفلسطينية. الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة تحذر حكومة إسرائيل من المبادرة إلى الانكفاء الأحادي من الضفة الغربية، وحزب العمل ينادي علناً بضرورة التفاوض مع رئيس السلطة و(م. ت. ف.) محمود عباس. إذا صوت الناخبون الفلسطينيون على وثيقة الأسرى في انتخابات شفافة وتحت الرقابة الدولية، عندئذ يحلُّ الرئيس عباس المجلس التشريعي ويدعو إلى انتخابات شفافة مبكرة لا تقل شفافية عن الانتخابات الفلسطينية السابقة، ودائماً تحت رقابة دولية لإعطاء نتائجها شرعية لا جدال فيها. إذا عاقب الناخب الفلسطيني حماس على هذيانها الديني-السياسي، وهو احتمال راجح، وكافأ فتح على واقعيتها. يغدو عندئذ لزاماً على القيادة الفلسطينية أن تتحلى بالشجاعة السياسية، التي تحلى بها كل من ديفيد بن غوريون والحبيب بورقيبة في وقتهما، فتعلن بوضوح قبولها غير المشروط لمقترحات كلينتون التي قبلتها حكومة باراك ورفضها عرفات ثم عاد وقبلها بعد 22 شهراً من خروج كلينتون من البيت الأبيض!

لماذا القبول غير المشروط بمقترحات كلينتون الآن؟ لأنها أولاً تستجيب للأساسي من حاجة الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، بإعطائها إسرائيل الأمن، الذي هو حاجة متأصلة في الشخصية النفسية اليهودية الخائفة منذ ألفي عام، وبإعطائها الفلسطينيين ما افتقدوه طوال تاريخهم، الذي لم يحكموا فيه أنفسهم بأنفسهم قط، دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة؛ ولأنها ثانياً تضع نهاية للهذيان بحق العودة المستحيل إلى إسرائيل والممكن للدولة الفلسطينية، وبتحرير الأراضي المحتلة عام 1967 quot;حتى آخر ذرة ترابquot;، والقدس الشرقية حتى آخر حجر... وغيره من الشعارات الشعائرية الهاذية التي مثلت حتى الآن عائقاً موضوعياً، و/أو ذريعة إسرائيلية لعدم الدخول في مفاوضات جدية للخروج من كابوس النـزاع الفلسطيني الإسرائيلي الذي يتغذّى منه الإرهاب الإسلامي في الشرق الأوسط والعالم!