حكم الإعدام يعبر عن تقاليد أخذ الثأر التي مارستها البشرية منذ ليل التاريخ. أخذ ثأر ذوي القتيل من القاتل أو ذويه مارسته العائلة فالعشيرة، فالقبيلة وأخيراً الدولة مع تطور متفاوت من منطقة جغرافية إلى الأخرى. في الأردن مثلاً مازال من اختصاص العشيرة. هدف القصاص البدائي كان شفاء صدور قوم القتيل. اعتقد أعراب شبه الجزيرة أن روح القتيل تتجسد في صدى [بوم] يخرج من رأس المقتول إذا بلي ولم يأخذ قومه بثأره فينعق على قبره يستصرخهم للثأر له. ولن يختفي إلا إذا ثأروا له فقتلوا قاتله أو أحد أقربائه. نعرف من الدراسات الأنثروبولوجية أن تقاليد الثأر شائعة بين القبائل البدائية. بعض القبائل لا ترضى عنها آلهتها إلا إذا ثأرت لقتلاها. شيئاً فشيئاً، كما يقتضى قانون التطور، بدأت البشرية تعي فظاعة هذا العقاب الثأري فراحت تدّخل عليه بعض الضوابط مثل اعتقال القاتل ثم محاكمته تجنباً لقتله الفوري وتحديداً لدرجة مسؤوليته وظروف ارتكاب جنايته... لكن الهدف ظل في معظم الحالات الثأر.

قننت مدونة الملك البابلي حامورابي (القرن 18 قبل الميلاد)، أول شريعة عرفتها البشرية، القصاص الثأري . ترجم أحبار اليهود، خلال الأسر البابلي، بعض موادها ونسبوها إلى موسى:quot;النفس بالنفس، والعين بالعين، والسن بالسن، واليد باليد، والرجل بالرجل، والحرق بالحرق والجرح بالجرح والشج بالشجquot; (سفر الخروج:الإصحاح 21 الآيتان 24و25).

quot;فلسفةquot; القصاص في التوراة كما في قوانين حامورابي تقوم إذن على التنكيل بالجاني والانتقام منه أملاً في أن يرتدع الجناة خوفاً من القصاص. وهكذا ينضاف عنصر جديد: المحافظة على النظام العام. مع الإسلام حصل تقدم مشهود. تخيير ولي القتيل بين قتل القاتل أو قبول الدية، أو العفو. يروي الطبري عن ابن عباس في تفسير الآية 33 من الإسراء: quot;ومن ُقتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتلquot;: quot;أي أن لولي القتيل القتل إن شاء، وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء العفوquot;. العفو، يتضمن بالقوة إمكانية إلغاء عقوبة الإعدام التي لا تعود خاضعة لإنفعالات ولي القتيل الثأرية. كما يحق لولي الأمر، رئيس الدولة، أن يدفع دية القتيل من بيت المال ويعفو عن القاتل كما فعل عثمان عندما رفض قتل سالم بن الخطاب في قتل أسرة أبي لؤلؤة المجوسي، قاتل أبيه. نجد أيضاً لدى القبائل البدائية هذا الميل إلى إلغاء عقوبة الإعدام بقتل حيوان كفارة بدلاً من قتل القاتل. وهكذا نلاحظ خطاً متصاعداً للانتقال من الثأر الخالص إلى الدية، فالكفارة ثم العفو الذي جاء به الإسلام. لكن القطيعة النوعية مع الثأر لم تظهر إلا في العصور الحديثة. لم تعد فلسفة العقاب هي الانتقام الشخصي أو العشائري أو الإلهي من الجاني بل أصبحت إصلاحه على أمل إعادة دمجه في المجتمع. إعدام الجاني يتنافي مع إصلاحه. وهكذا دخل الإعدام في تناقض مع الفلسفة التي تؤسس للعقاب الحديث. من جهة أخرى أثبتت الدراسات الإحصائية أن عقوبة الإعدام لا تشكل رادعاً عن ارتكاب الجرائم. المعدل الوسطي للجريمة لم ينخفض في البلدان التي تطبق حد الإعدام ولم ترتفع في البلدان التي ألغته.

لا جدوى هذه العقوبة ولا إنسانيتها حدت بالإتحاد الأوربي وبعض الولايات الأمريكية إلى إلغائها. كما ألغتها تركيا الإسلامية سنة 2005 بطلب من الاتحاد الأوربي، كأحد الشروط الشارطة لقبولها في ناديه بعد أن تبرهن قولاً وفعلاً على مشاطرتها قيمه المشتركة. وهذا دليل لمن مازال في حاجة إلى دليل على ضرورة الشراكة الأوربية الاقتصادية، السياسية والقيمية لتأهيل المجتمعات الإسلامية ، نصف الهمجية التي مازالت تحتقر الحق في الحياة وتمارس العقوبات البدنية من الجلد إلى الإعدام مروراً برجم الزانية ودق عنق المرتد، للدخول إلى نادي المتحضرين.

هل ستكون الجزائر أول بلدان الجامعة العربية، (هذه الجامعة التي يبيح ميثاقها quot;حقوق الإنسان العربيquot; إعدام الأطفال)التي ستقوم بالغاءعقوبة الإعدام الهمجية؟ احتمال راجح، بعد كشف مصطفي فاروق قسنطيني، رئيس اللجنة الاستشارية الجزائرية لحماية حقوق الإنسان في 15/3/2006، عن وجود مشروع قانون حكومي لإلغاء قانون الإعدام. هذه البادرة تذكر فتشكر للرئيس عبد العزيز بوتفليقه، الذي ألغى في يونيو- حزيران 2005 تدريس الشريعة في الإبتدائي والثانوي كما اقترحت ذلك عليه في رسالتي المفتوحة في إيلاف بتاريخ 11/12/2004. وها هو يتأهب لإلغاء عقوبة الإعدام لتكون الجزائر أول دولة عربية تدخل نادي الدول التي قطعت مع الثأر العائلي، العشائري والإلهي من الجاني.

من بين جميع دول العالم، انفردت دول الجامعة العربية سنة 2002 بالإعتراض في الأمم المتحدة على مشروع قرار إلغاء عقوبة الإعدام الذي قدمه الإتحاد الأوربي. وهي بادرة كئيبة جعلت بعض المثقفين القلائل، أنا أحدهم، يشعرون بالعار من الانتماء لعالم إسلامي ndash; عربي غبي ودموي. المشروع الجزائري بإلغاء الإعدام، إذا تحقق، سيكون أفضل كفارة عن تلك الخطيئة. أما إذا تأّسّت به تونس، ولبنان، والعراق، والمغرب، ومصر... فسيكون ذلك مؤشراً على إقلاع العالم العربي من قانون الغاب إلى القانون الإنساني.

تحية إلى جلال الطالباني
بهذه المناسبة لابد من تحية حارة للرئيس العراقي ، جلال الطالباني، الذي وقع منذ 15 عاماً وثيقة تطالب بإلغاء عقوبة الإعدام. ولو لم يكن لحرب إسقاط صدام حسين من حسنات إلا حسنة جلوس هذا الكردي الرائع على عرش هارون الرشيد بما يمثله ذلك ويرمز إليه من بداية واعدة بتحرير الأقليات، التي تجلد في اليوم بألف سوط وتداس في اليوم بألف قدم في أرض الإسلام، لكفاها ذلك مبرراً.