المحمول التاريخي للفظ quot;علمانية quot; ينحو للتعبير عن المقابل للفكر والنظرة الدينية أو الميتافيزيقية للحياة والعلاقات الإنسانية، هي انتزاع للإنسان من التبعية لمرجعيات نصية دينية، ومن الاستسلام لسلطة قدرية متسامية ومهيمنة، ليصنع هو مصيره بيديه، مستعيناً بقدرة عقله على التفكير والإبداع، وبذخيرة خبراته المتراكمة على مدى مسيرة تحضره، ولقد أتاحت تلك النقلة للإنسان أمرين أساسيين، أولهما التحرر من الارتباط بمرجعية ثابتة، كانت بمثابة أحجار ثقيلة يجرجرها الإنسان خلفه في مسيرة التطور، فيما يعني التطور المحاولة الدائمة للإفلات من أنساق الأمس، لحساب الجديد الذي يولد من رحم الغد، خاصة مع ازدياد وطأة ثبات النصوص على إمكانيات التطور، كلما بعدت الفترة الزمنية المعاشة عن زمن نشأة تلك المرجعيات، وهو الأمر الذي يتفاقم مع توالي السنين والقرون، في مسيرة إنسانية ممتدة إلى مالانهاية، والأمر الثاني الذي تحقق بالنقلة العلمانية هو تسلح الإنسان بآلية العلم في تعامله مع حقائق الحياة، بعد تخلصه من أوهام وتصورات ساذجة، موروثة من مراحل طفولة وظلام العقل الإنساني، وبالأمرين معاً كان من المفترض أو المأمول أن تتقدم البشرية بخطوات سريعة وفي خط مستقيم للأمام، فهل حدث هذا فعلاً، وهل أفضت النقلة العلمانية بمفهومها السابق بالإنسان إلى الانتقال إلى عالم الحرية والإبداع؟
لا أظننا نحتاج لبذل الجهد للتدليل على أن هذا الأمل وبتلك الصورة المثلى لم يتحقق كاملاً وبذات القدر من الاتساق لدى جميع الشعوب، فخلفنا مباشرة القرن العشرين، الذي أنفقته البشرية على ثلاثة حروب كونية بين جبهات علمانية، اثنتان منهما ساخنتين والثالثة باردة، أهدرت فيها ملايين الأرواح، وما لا يقدر من مجهودات سخرت للتدمير بدلاً من تشييد ودفع قاطرة الحضارة، فكيف حدث هذا؟
من التسرع نسبة ذلك الإحباط إلى فشل الإنسان، أو فشل الحرية الإنسانية في تحقيق الفردوس المنشود، لأن الإنسان في الحقيقة يوم تحرر من الميتافيزيقا ونصوصها الثابتة المقدسة لم ينتقل إلى عالم الحرية، فالعقل الذي تم تمجيده في عصر الأنوار وما تلاه، تربع على عرش الجبروت، وتصرف كطاغية يتصور لنفسه من القوة والقدرة على الهيمنة، ما أدى به لأن يماثل أو يفوق أنساق الطغيان السابقة، لقد شغف العقل الإنساني بالرؤى الشمولية لكل مظاهر ومقومات الحياة، وأغرم بالنظريات القادرة على تفسير جميع الظواهر، لينطلق منها إلى التنبؤ بالمستقبل، فكان أن اقترف اختراع الأيديولوجيا، لتسقط الشعوب - الخارجة تواً من أسر النصوص المقدسة ndash; في حبائلها، لتلعب نفس الدور القديم في تكبيل الشعوب، ويعتلي العقل الإنساني سدة الهيمنة.
كان على الإنسان في العهد الجديد مثلاً أن يخضع للضرورة المادية المدعاة، وأن يصدق أو يؤمن (سيان) بالصحة المطلقة للتفسير الاقتصادي للتاريخ الذي تفتق عنه ذهن أحد العباقرة، ليس كمجرد رؤية تحتمل إلى جانبها رؤى أخرى، قد تفوقها في جوانب، وقد تكون دونها في جوانب أخرى، لكن كحق مطلق لا يأتيه الباطل، المستقبل أيضاً قدمه لنا نفس العبقري النبي ككتاب مفتوح، على غلافه عبارة: quot;حتمية الحل الاشتراكيquot;، وكانت النتيجة أن نجا الإنسان من اتهامات بالهرطقة والإلحاد، ليواجه باتهامات مماثلة بالرجعية والعداء للشعب وما شابه.
لا نعني بكلماتنا هذه توجيه النقد أو الطعن في الماركسية بذاتها، فهذا يخرج عن مجال تلك المقالة، إنما نقصد مفهوم الأيديولوجية باعتبارها محاولة لوضع رؤية شمولية لحقائق الحياة، والتي نعدد بعضاً من مثالبها:
middot; مثل هذه المحاولات تقحم على العالم اتساقاً مصطنعاً ليس له وجود على أرض الواقع، فهذا الاتساق والشمولية مجرد وهم وهوس إنساني، يرجع إلى حيرة الإنسان واضطرابه في مواجهة التنوع والزخم الوجودي الهائل، كما لو كان إنسان يسبح في محيط واسع بلا نهايات ولا شطوط، تتعدد فيه التيارات وتتضارب الأمواج، فيحلم بأن يتحول ذلك المحيط إلى نهر منتظم يسير في خط مستقيم، فبدأ الفلاسفة ومنذ القدم يصيغون الأفكار والنظريات، ليحولوا فوضى العالم إلى نظام، وتنوعه إلى أحادية نمطية تكرارية، مثل هذا الموقف لا يختلف عن الأوهام الميتافيزيقية، ويثمر حال اعتناقه فشلاً وفوضى، عوضاً عن الانتظام المنشود، فالعالم ما هو إلا عدد هائل من الشذرات، قد ينجح العقل الإنساني نجاحاً جزئياً في إيجاد تصور يضفي على بعضها نوعاً من الانتظام، في مجالات محدودة ولأغراض محددة، سرعان ما تتلاشى صلاحية ذلك الانتظام إذا ما تجاوزنا تلك العناصر عداً وحصراً، وإذا ما خرجنا ولو قليلاً عن الأغراض التي أثبت التصور الموضوع صلاحيته العملية لها.
middot; تطرح الأيديولوجيات على الإنسان يقيناً مماثلاً لليقين الإيماني الذي تم تجاوزه، لكن هذه المرة يرتدي اليقين مسوح العلم والعقلانية، ولعلنا لا نجادل الآن بعد أن تعرفنا على نظرية اللاتحديد أو عدم اليقين عبر تركيب الذرة، التي لا نستطيع تحديد سرعة وموقع الإلكترون فيها في ذات الوقت، أنه لا يقين في العلم، وأن اليقين العلمي وغير العلمي وهم من أوهام الماضي، فمهما قال المدافعون عن المادية الجدلية بأنها ليست بالأساس دوجما، وأنها منهج ديالكتيكي لصراع المتناقضات، فإن هذا صحيح كوصف لبناء النظرية، لكن تبقى الدوجما وصمة عندما تفرض علينا النظرية قراءة واحدة للماضي الإنساني، وتتنبأ لنا بمستقبل محدد للمسيرة الإنسانية بمقولة حتمية الحل الاشتراكي.
middot; هنا أيضاً في ظل الأيديولوجية يتخلى العقل الإنساني عن حريته، حين يقتصر المدى أو النشاط الذي يذهب إليه، على مجرد تطبيق النظرية، وفي أحسن الأحوال إعادة تفسيرها أو تأويلها، وهو نفس الوضع الذي ظن الإنسان أنه قد تخلص منه حين انتقل من أسر الميتافيزيقا إلى رحابة العلمانية، ونحن هنا لن نتعرض للتجاوزات بل الجرائم في حق الإنسان، والتي ارتكبتها النظم الشمولية التي اعتنقت تلك الأيديولوجيات، لأنها في نظر البعض تدخل في نطاق مساوئ التطبيق، وإن كنا نعدها نتاج طبيعي لشمولية النظريات.
علمانية الألفية الثالثة إذن غير علمانية القرن السابع عشر والثامن عشر، فهي تحرير للإنسان من جميع الرؤى التوحيدية الشمولية، سواء كانت ميتافيزيقية أو عقلانية، هي تحرير للعقل من ذاته، فهو الذي ابتكر هذه وتلك، هي علمانية تطلق العقل من إسار تكاسله واعتماديته على قوى غيبية، وتطلقه في نفس الوقت من إسار أوهامه الخاصة، ومن تصوراته الخرافية بقدرته على فرض نماذجه المتخيلة على الواقع المادي بمعزل عن ذلك الواقع، هو سقوط لليوتوبيات بكل أنواعها.
العلمانية بهذا تضع العقل الإنساني أمام إمكانياته الحقيقية، غير منقوصة ولا مزيدة، فهو قادر فقط على إدراك وتحليل واكتشاف العلاقات بين عناصر الواقع، وقادر على تكوين أعداد لانهائية من العلاقات الجديدة عبر تشكيل منظومات تشمل أعداداً مختلفة من العناصر، فتجاور العناصر يزيد من عدد العلاقات، وتجاور العلاقات وتأثيراتها المتبادلة يخلق علاقات جديدة، ليحصل الإنسان دائماً على ثروات لا تنضب من العلاقات المادية/ الإنسانية الممكنة، يوظفها باتجاه التطور والتحديث المستمر، للحصول على غد لابد أن يكون أفضل من الأمس.
ليخرج الإنسان العلماني الجديد إلى فضاء العالم، كاشفاً عن صدر تملؤه الثقة بالنفس، متسلحاً بعقله الحر القادر على التحليق، في كل المسافة بين مركز الأرض وأبعد نجم في آخر مجرة عند طرف الكون، ليتحد بهذا الوجود الوفير الرائع، يتناغم معه، لا يتحداه ولا يرهبه، لا يستكين لجبروته، ولا يحاول أيضاً أن يقمعه أو يجمعه بين كفيه، ليتقدم دائماً للأمام، واضعاً نصب عينيه الإفلات قدر ما يستطيع من ربقة الأمس.
[email protected]