رحل جرجيس فتح الله بعد أن ترك أثراً مهما وشاخصاً في الثقافة العراقية والتأريخ العراقي الحديث، وجرجيس فتح الله من مواليد 1922 والمتخرج من كلية الحقوق العام 1939، وعاش جرجيس فتح الله اربع وثمانون عاماً زاخرة بالأحداث، وعاصر العهدين الملكي والجمهوري،وأكتسب ثقافة تعليمية من خلال التعليم في مدارس الكنيسة الكاثوليكية الكلدانية في مدينة الموصل، حيث نهل علمه على أيادي اساتذة وقساوسة ورهبان، مع ما أستطاع أن ينهله من الثقافة الأسلامية والعربية والكوردية بشكل عام، جعلت له قاعدة فكرية ومعلومات ثرية وسلاحاً يتمكن من خلاله الولوج الى عالم الصحافة والثقافة والتأريخ، وخاض غمار العمل السياسي والثقافي مبكراً في أول سنوات شبابه، وكتب العديد من الكتب التي أغنت المكتبة العربية والكوردية، ووثق العديد من الأحداث والشخصيات المهمة في التأريخ العراقي الحديث، ومن خلال حياته المهنية عاصر العديد من الأحداث التي كتب عنها بأمانة المؤرخ ونظافة الكاتب الملتزم ، وترك خلفه ثروة من الكم المعرفي والثقافي وأسماً يشار له في العديد من الكتب والمؤلفات والدراسات.
عاش فترة طويلة منذ ولادته ونشأته الأولى وتعليمه في مدينة الموصل، كما مارس فيها المحاماة بالأضافة الى نشاطه السياسي فيها، وبدأ باكورة حياته السياسية بالأنتماء الى حزب الشعب وكان أحد المؤسسين العشرة لهذا الحزب، والذي يرأسه آنذاك المرحوم عزيز شريف، ثم قدم أستقالته وأنتمى الى الحزب الديمقراطي الكوردستاني بعد سنتين من تلك الأستقالة.
أصدر في مدينة الموصل جريدة ( الحقيقة ndash; راستي )، ورأس تحرير جريدة (( الروافد ))، وشكلت الذاكرة الحية والمتابعة الدقيقة والصائبة لما يجري من أحداث في العراق، تحليلات وأستنتاجات تدل على عمق الرؤية في عقل الصحفي الحقوقي والمؤرخ العراقي جرجيس فتح الله.
كما أن فتح ساهم مساهمة فعالة في صحافة الحزب الديمقراطي الكوردستاني ( خه بات ) السرية منها أو العلنية، وتعرض جرجيس فتح بحكم التصاقه ووقوفه الى جانب قضية الشعب الكوردستاني بشكل عام وقضية الكورد في العراق بشكل خاص، الى العديد من المواقف السلبية والمضايقات والملاحقة من قبل سلطات العهود البائدة، كما كان لمناصرته بالقلم وألتحاقه بصفوف الثورة الكوردية المسلحة التي التحق بها في العام 1968 في أيلول، أثراً كبيراً في التزامه وأصراره على الوقوف الى جانب الحق والحقوق، وكان له لقاءات مستمره مع القائد الخالد مصطفى البارزاني، أو بالمناضلين السيد جلال الطالباني أو السيد مسعود البارزاني، وهذا التعرض يتمثل في العديد من المضايقات وحجز الحرية والتوقيف والاحالة على المجالس العسكرية العرفية ومحاكم أمن الدولة، بالأضافة الى حجز أمواله المنقولة وغير المنقولة.
ساهم من خلال كتابه ( زيارة للماضي القريب ) في توثيق أحداث مهمة في تاريخ الحركة الكوردية المعاصرة بقيادة الزعيم الخالد مصطفى البارزاني، كما وثق في هذا الكتاب الأحداث التي شارك بها أو شاهدها أو كان طرفاً فيها ، كما كان لكتابه ( مهد البشرية ndash; الحياة في شرق كوردستان ) الاثر الكبير في توضيح الحقائق المستمدة من صفحات التاريخ والثابتة، ومن ثم ساهمت كتبه ( كرد وترك وعرب ) و ( جمهورية مهاباد ) و ( طريق في كوردستان ) ن مساهمة ناجحة في توضيح الحقائق التي كانت الشوفينية تغطيها أو تحاول التستر عليها، كما أن كتابه ( رجال ووقائع في الميزان ) الصادر عن دار ئاراس في كوردستان يعد من بين أهم كتاباته الموضوعية ، وان كان الكتاب عبارة عن لقاءات اجراها كل من الشاعر والكاتب مؤيد طيب والأستاذ سعيد يحيى مع المؤلف، الا إن الكتاب يزخر بالعديد من الوقائع والأحداث والتفاصيل الحية، وسرداً لذاكرة فتح الله الحية والمتداخلة ضمن الأوساط العراقية وأحداثها، فجاء الكتاب ليس سفراً في التاريخ العراقي الحديث، بل توثيقاً لقضايا وأسماء نجد إن الحاجة ملحة لها لكشف ما لايمكن التوصل اليه في الكتب التي تصدر بموافقة السلطات.
وكان اخر كتبه ( نظرات في القومية العربية مدا وجزرا حتى العام 1970 تاريخا و تحليلا ) ، و اضواء على القضية الاشورية (مذابح اب 1933 نموذجا) في خمسة اجزاء موسعة مساهمة فعالة في توثيق التاريخ العراقي بشكل عام ..
رحل جرجيس فتح الله بصمت عصر يوم الاحد 23/7/2006 في مدينة اربيل اثر نوبة قلبية حيث سكن ذلك القلب الكبير بعد أن أشغل الدنيا بدقاته وسعته مهموما وحزينا على ما صار اليه وضع أهله وشعبه ، اقيمت له مراسيم التعزية صباح يوم 24/7/2007 في كنيسة مار يوسف في عين كاوا وودعه العراق بعيون دامعة.
ويمكن إن يشكل الكاتب جرجيس فتح الله خطاً موازياً مع المؤرخ الدكتور كمال مظهر الذي يعتمد الموضوعية والحقيقة في الكتابة التاريخية، والدكتور مظهر مطالب ايضاً إن يكتب للأجيال القادمة ما تحمله ذاكرته المتوقدة والحية من أحداث وذكريات وما يكتنزه من معلومات شخصية عن أسماء مرت في الذاكرة العراقية.
كمال مظهر بما عرف عنه من أعتماد منهج الموضوعية وتشكيل ثقل ثقافي وتأريخي ومنهجي في كتابة التاريخ العراقي، مطالب اليوم بأن يكتب ما تختزنه الذاكرة وأن يلقى من السلطات العراقية بشكل عام ومن القيادات الكوردستانية ليس فقط المكانة التي تليق بت، وأنما تكريمه وتبجيله بالنظر لما يشكله من نزاهة وتواضع وموضوعية والتزام في الكتابة التأريخية.
وبقيت العديد من المخطوطات التي خطها جرجيس فتح الله بأنتظار طبعها والأهتمام بها، حيث شكلت معظم كتابات فتح الله سنداً ومرجعاً للعديد من الباحثين والمؤرخين وطلبة الدراسات العليا، وساهم جرجيس فتح الله مساهمة أكيدة في رسم معالم نصوص مشروع الحكم الذاتي نمع طوح ونزوع نحو تطوير مفاهيم قانونية ودستورية لهذا الشكل نحو الفيدرالية.
عالج جرجيس فتح الله القضايا التاريخية من خلال الفعل والتقليب والمرونة في إبداء وجهة النظر، دون التقيد أو الأنحياز الى وجهة نظر غالبا ما تتلبس السياسيين من المؤرخين، كما ينطلق جرجيس فتح الله من الصراحة وكشف ما خفي من الوقائع واضعاً أمامه الضمير والحقيقة فكان موفقاً الى جانب كبير في هذا الجانب، كما يعتمد جميع المصادر التاريخية ليؤسس عليها حقيقة مشتركة تستند على قاعدتها التاريخية والحقيقية من خلال البحث والتنقيب.
وإذا كان التاريخ خلاصة التجارب البشرية وهو مادة حية تتفاعل مع الزمن، فأن الكتابة المجردة والصادقة تضع تلك الخلاصات في مكانها الحقيقي وتوفر للأجيال عناء البحث والتقليب وتبعد عنهم عدم الثقة بالكتابات التي كتبت تاريخ العراق الحديث بأوامر من السلطات التي تريد التاريخ إن يكتب مثلما تريد، ويلتزم الكاتب جرجيس فتح الله بأصرار على قول الحقيقة وذلك هو المنهج الذي نشره المؤرخ والباحث الأكاديمي الدكتور كمال مظهر ولم يزل يرسمه في العراق بالرغم من قبول أو عدم تقبل السلطات مهما كان نوعها وشكلها لحقائقه، غير أن جرجيس فتح الله عاش ملتزماً وأميناً ليس فقط على الحقائق التأريخية، وانما بالتزامه السياسي ومناصرته لشعب كوردستان وتضحياته في سبيل ذلك، وكما التزم بعمله المهني حقوقيا مدافعا عن الحق والحقيقة والمظلومين، فأنه ساهم في ترسيخ أسس القوانين التي يمكن إن تحقق جزء من حقوق شعب كوردستان في العراق، بالأضافة الى وقوفه بشكل واضح في عداد المقاتلين المنضويين تحت راية الثورة الكوردية المسلحة بقيادة الزعيم الخالد مصطفى البارزاني.
رحل جرجيس فتح الله دون إن يلقى من التكريم ما يتوجب على المهتمين بالتأريخ العراقي وبالثقافة العراقية إن يلقاه منها، كعادة الرموز العراقية التي تلقى من التهميش والنسيان والأهمال ما لايلقاه أحد في مناطق الأرض، ورحل العديد من معالم الثقافة والسياسة العراقية دون تكريم ودون اشارة مضيئة تذكر الأجيال الجديدة بمساهماتهم، رحل قبله مير بصري ورحل جليل القيسي ورحل العديد فلندرك كل من الدكتور كمال مظهر أحمد والشاعر كاظم السماوي لتكريمهما، واننا حين نشير الى هذه الأسماء ليس على سبيل الحصر، وانما أيجاد طريق مضيء ومشع لدفع المؤسسة الثقافية المتمثلة في ما قدمته مؤسسة المدى الثقافية من مشاريع وطنية ساهم بها بشكل فعال الأستاذ كريم فخري بما عرف عنه من توجهات انسانية ووطنية، ويمكن إن يكون جرجيس فتح الله أخر الراحلين بصمت.