كركوك: المصالحة والتطبيع ( 2-2)
القسم الاول: حسون يعلن الحرب..

quot;عراقيتي وحدها التي تجعلني قادرا أن اكون عربيا، وكرديا،وتركمانيا، وافيليا، وارمنيا، وفارسيا، وآشوريا، وشيعيا، وسنيا، ومسيحيا، ومندائيا، وايزيديا، في آن واحد: انني اعرف مركز الإضاءة في كل عنصر من عناصر العارقي هذه، كما اعرف مركز الإضاءة في مياه الأهوار والأنهار، في رمل الصحاري، وصخور الجبل quot; (فوزي كريم - في انتظار طوفان نوح).

من أين ما بدأتُ سوف أصل الى نفس النهاية، فكل الطرق تؤدي بي الى استرجاع وتأمل قصيدة سركون بولص المعنونة quot;هناكquot;، في مجموعته: quot;الوصول الى مدينة أينquot; مرة، مرتين، مرات: أتوقف عند مقطع القصيدة - المدينة الذي يكتب فيه سركون بما يشبه النبوءة، لكن بلغة الماضي، مؤكدا ما قرره هيدجر من: quot;ان الشعر يعـيّن، ولايعبر..quot; يقول سركون في قصيدة quot;هناكquot;:
quot;في الأزقة حيوانات أطلقوا سراحها.
أخذت تزداد جرأة مؤخرا،
وتهاجم المرضى والأطفال.
هناك أخبار وشائعات:
يقولون: إن مجاعة كبرى، إن الطاعون، إن المجازر..
وعندما يصل الفجر في عرباته المليئة بالذخيرة
يضرب جيراني برؤوسهم على الابواب
علامة على الطاعة
أو الألم الذي لايطاق..quot;

أجل: من أين ما بدأت، من أين قررت أن أبدا، اتذكر الفراشة التي تدخل الى رأسي بيضاء، وتخرج حمراء من ثقب آخر فيه: الفراشة التي رأيتها في منام قديم، وكتبتها في قصيدة لم أنشرها بعد، مستسلما لكسلي المعروف امام شراهتي في التدخين والكتابة والحب من دون حدود.
هذه الافتتاحية لن تعجب المطالبون بالتفاؤل رغم انها في غاية التفاؤل، وغاية الرقة، سوى أنها لاتستخدم لغة الاعلام او لهجة الساسة: انها نبرة شاعر يكتب على ضوء فانوس، أو شمعة، في عصر الكتروني متطور، ولايقطع استرساله في الكتابة رصاصة اخرى طائشة اخترقت النافذة، نافذة المطبخ الذي يكتب منه اليكم: يكتفي، بلم شظايا الزجاج المكسور، يضعها امامه على المائدة ليرسم خارطة المصالحة والتطبيع في كركوك، بكل رباطة جأش، ذلك أن مناهضة الارهاب والعنف والقتل، هذه المناهضة تفقد ثقلها وأهميتها، وبالتالي دورها، إن رمت بالارهاب خارج الواقع، خارج التاريخ، وخارج خارطة الحياة اليومية، تحت دعوى النظر الى نصف الكأس الممتليء، والكف عن النظر الى النصف الفارغ، خاصة وأننا لم نذق قطرة واحدة من هذا النصف الممتليء، الا تلك القطرة السرابية التي تعرضها اشرطة القنوات الفضائية، حول اصلاح التيار الكهربائي في منطقة ما، الذي سيعود اليه التخريب من جديد، أو اصلاح انبوب نفط مثقوب، سيأتي من يثقبه: إن تشخيص ومعاينة ومعرفة اسباب النزيف خطوة جراحية مهمة في معالجته، الا اذا كان الطبيب مزيفا، أو من صالحه استمرار النزيف، فيهمل الاسباب، ويتجه لمعالجة النزيف بقطعة شاش ملوّثة عندا، مع سبق الاصرار.
ستستمر، إذن، هذه التقارير في وضع يدها على الجرح، مهما كان حب المعترضين لكاتبها، لأنها تأتي بالواقع كله: بكل اطيانه وجوهره ونصاعته، من دون تفريق طائفي او عنصري او قومي، في هذه المدينة او تلك، ففي النفس امل اكبر من امل المطالبين بالآمال القصيرة النظر، لأن في الروح قمر ساطع هو امرأة احبها، عائلة اعبدها، صديق احبه: قرّاء يبحثون عن عادل كمال في محركات البحث، والاهم من هذا هناك العراق برّقته وخشونته وغضبه: لقد التئم اللبنانيون، ايام الحرب الاهلية، حول فيروز، بكل طوائفهم واديانهم واختلافهم: كانت اغانيها الراية الكبيرة التي تلتف حول اجساد القتلى، فهل التفت مشروع المصالحة العراقية، مع خالص التقدير له والاحترام وللواقفين من ورائه - فمعظمهم اصدقاء وزملاء واخوة اكلنا معهم غصة المنفى وشربنا دمعة الغربة، اقول هذا لمن لايعرفني - هل التفت مشروع المصالحة العراقية الى رمز فني وجمالي ووجداني مشترك يلتف العراقيون حوله؟ أم أنه اكتفى بمخاطبة الطرف حامل السلاح ضده، بخفض السلاح، والدعوة الى التفاوض؟
إن ضميرا شعبيا - لنطلق هذا الاصطلاح تجوّزا - يتكون من عناصر تاريخية واجتماعية وجمالية، عريقة الاصول في نفس العراقي، نحتاجه الان ليس ظهيرا للفتاوى الدينية فقط، وانماكستراتيجية عمل، لأن سفينة نوح الاميركية التي وصلت، لم تطلق حمامة قبل رسوها على اليابسة، بل اطلقت غربانا،زرعت حيطان حياتنا نواعي ولطم وزنجيل في الجنوب، وانزلت مخلوقات فضائية ترتدي السواد تقتل الناس علنا في الشوارع في الوسط، على عكس ما حصل في الشمال، حيث تمكن الكرد العراقيين، بعد ان قفزوا على اختلافاتهم المذهبية والعشائرية والسياسية، كأنهم قد قرأوا خطوط المحنة بوعي مسبق - اشدد على كلمة الكرد العراقيين- من بناء مؤسساتهم المدنية، وان رافق ذلك بعض الاخطاء، لكنها نتيجة طبيعية، فمن لايعمل لايخطأ..

هذا الضمير الشعبي يتحرك هنا وهناك، بمبادرات فردية من الناس البسطاء، لكن هيمنة ظاهرة الارهاب تمنعه من التبلور الى هاجس جماعي، كي يتحول الى خطة عمل: ستراتيجية بسيطة موجودة في وجدان كل مواطن شريف، وسأضرب لكم مثلا: في حي الاسكان التي تقطنه غالبية كردية في المدينة، استشهد رجل يعمل سائقا، نتيجة انفجار عبوة ناسفة، فاقام أهله الفاتحة على روحه، ونصبوا خيمة لاستقبال المعزين. لحد الان الامر عاد جدا، فالشهيد رجل طيب، ولعائلته سمعة رائعة: هكذا كان الناس يتوافدون على العزاء بقلوب أدماها الحزن، وهكذا أيضا - لاحظوا جيدا - بموازاة الحزن كان الرعب ينسج شبكته الدموية في ارواح الناس الملتاعة: يقول اصحابنا، في الشوارع الخلفية: إن من بين المعزّين كان هناك رجلا عربيا، دخل المجلس وقرأ الفاتحة على روح المرحوم، لكن الانظار ظلـّت شاخصة اليه: انظار البقية من الناس، فهو ليس من اهل المنطقة: تسائلوا فيما بينهم إن كان أحدا ما يعرفه، فلم يجدوا جوابا، فالتبس عليهم الوضع: قد يكون ارهابيا، يرتدي حزاما ناسفا، من يدري؟

يتحول الامر الى نكتة - ها اني استرد فكاهتي السوداء - عندما يسترسل اصحابنا في الشوارع الخلفية في سرد الحكاية: إذ أن الناس، في مجلس العزاء، قد بدأ يتسللون الى الخارج، فرادا وجماعات، تاركين صاحب العزاء وحده، الذي - أخيرا - استبد به السخط والخوف والرعب، فهجم على الرجل المعزّي، مع اقاربه، مستنكرا عليه وجوده في المأتم: اضحكوا او ابكوا، لافرق. فقد كان الرجل غريبا عن المنطقة فعلا، لكنه كان صديق القتيل، إذ أنه يعمل معه في نفس الخط، وقد افتقد غياب القتيل، وعندما عرف أنه فارق الحياة، تحرك فيه ذلك الذي اطلقت عليه -تجوزا- الضمير الشعبي، فشعر أن من واجبه أن يقرأ له الفاتحة ويقوم له بالواجب.لم أدخل بالتفاصيل لأنها ستذهب بنا الى غير المنطقة التي نود تغذيتها بالضوء، كي تنكشف بقعة غير منظورة في حسابات المصالحة، واقصد بها المصالحات بين المناطق: فالكردي في كركوك مثلا، يتهيب الدخول الى منطقة العروبة في كركوك، على هامش أخطاء - لن اخوض في تفاصيلها لئلا اتهم بالقومية - ارتكبها نفر من الناس، فأدت الى ما يشبه المواجهة او الحرب بين العرب والاكراد، قبل اكثر من عامين، وهي حادثة مشهورة لجميع اهالي كركوك: اثارتها ليس في صالح مشروع المصالحة، لكن معالجة اثاراها لصالح المصالحة طبعا، فكلما فكرت - شخصيا - بزيارة احد الاصدقاء في حي العروبة، ووقفت انتظر سيارة اجرة، اجد ان السائق - ان كان كرديا - يعتذر عن الذهاب الى هناك، دون ذكر السبب. أنا واثق من أن هناك مناطق ملتهبة، يجب اخماد النيران فيها بالمصالحة وليس بالمداهمات، إذا وضع اصحاب المشروع الضمير الشعبي في ستراتيجية عملهم، لكن ذلك لايعني ايقاف الخطط الامنية، أو التغاضي عن الخطوط الحمراء،التي تؤدي الى تزايد وتنامي ظاهرة العنف، ذلك أن اختراقا امنيا واضحا لخطوط دفاعاتنا عن نفسنا، كما هو واضح من أخبار توزيع منشورات تحذيرية من جهات ارهابية مسلحة، وفي عدة مناطق من كركوك، اذكر بعضها، كما نقلها اصحابي في الشوارع الخلفية:

في أحد المراكز الصحية، امر المدير منتسبيه بمغادرة الدائرة قبل نهاية الدوام ظهرا، نتيجة عثوره على منشورات تحذّر الموظفين من الاستمرار بالدوام، بل وتطلب منهم الى مقاطعة الدوام وعدم البقاء في الوظيفة، الى أن تخرج امريكا من البلاد، وبعكسه فان مصيرهم الابادة: المنشور مضحك بلاشك، فلو تم لأصحابه ذلك ولم يلتحق الموظفون بدوائرهم، كيف ومن اين يعيش الناس؟ انها الفنطازيا مرة اخرى، وأنا لااملك الا ان اثني على شجاعة الموظفين الذين اصروا على الدوام، وبقوا يمارسون حياتهم المعتادة، وإن بحذر..

نفس الفنطازيا تتكرر، كما يذكر لي أحد رفاقي ايام كردستان، والذي هو احد ابطال روايتي quot;صانع الاحلامquot; فصديقي الرائع والمجنون هذا، من عرب كركوك الاصليين، وقد قذفته الظروف الى ان يكون معارضا بسبب حبه للحمام، عندما فقد واحدا منها وكان عزيزا عليه، فصار يبحث عنه بين جوقات الحمائم التي تحلق في السماوات، حتى استقر به التحليق ورائها في فندق قنديل في اربيل: بطل روائي وسينمائي سوف افاجئكم به يوما. هذا العريق الاصول بالمحبة اخبرني انه وجد في سوق الطيور منشورات تحذيرية تمنع الناس من التجمع من ناحية، وتمنع بائعي الطيور من مزاولة مهنتهم الفاتنة. كرع كأسا من الفودكا في الحر الشديد، وصار يغني:
quot;ياطير ياطاير على اطراف الدني
لوفيك تحكي للحبايب شو بني..
ياطير..quot;
قطع اغنيته، ثم قال: quot;لدي استفسار ايها العلاّمة - قالها باستهزاء - هل ممكن ان نعمل اتحاد المطيرجية - مربي الحمام - ضد الارهاب؟quot; ضحكت من خياله، لكنه استمر quot;اسمع - وقد اصبح عند ذاك ورده ومسيطر - سوف اعلن الصلح بين جماعتنا فنحن ايضا لنا حروبنا: نصطاد تلك الحمامة او هذه من بين جوقات الطيور بارسال جوقة من حمام مدربة على ذلك، تستدرج الحمامة المقصودة اليها، ومن ثم تنزل معها على سطوحنا.. quot;لكن لاطيران للحمام ياحسون، في هذه الايام بسبب الطائرات الاميركية -قلت له، فضحك قائلا: quot;اذن سنعلن الحربquot; و.. للتقرير صلة