لأسباب عسكرية خالصة، لها علاقة بحسابات الربح والخسارة، اختارت إسرائيل، حكومةً وكبينيتاً أمنياً مُصغّراً، أن تكثّف من غاراتها الجوية على لبنان، متحاشية أي صدام بري كبير مع حزب الله، وبالأخص بعد أن فقدت عدداً لا يُستهان به من جنودها، في موقعة بنت جبيل، التي جرت قبل أيام قليلة. قرّر جنرالاتها، أخيراً، وخوفاً من تملل وغضب الجمهور الإسرائيلي، الذي لا يحتمل فقدان العشرات من مقاتليه، أن يحاربوا بالحد الأدنى الممكن، من الخسائر البشرية، فذهبوا إذاً إلى سلاح طيرانهم، أعجوبتهم التاريخية المتفوقة، التي هي محط فخرهم الوطني، كخيار أصيل مضمون النتائج تقريباً، فسلاح المدفعية لدى حزب الله، على ندرته، لا يطال الطائرات المغيرة الآمنة. ما يعني، ببساطة مرعبة، أن أمام لبنان، الأرض والشعب، أياماً وربما أسابيع طويلة، من الرعب الجوي الخالص : من التدمير الوحشي، الذي ربما يصل إلى حد إبادة قرى ومدن بكاملها، وتسويتها بالأرض على رؤوس ساكنيها، فيما يمكن أن يُسمّى quot; حرب التدمير من بيت إلى بيت quot;! يحدث هذا، في الوقت الذي، يتواطأ فيه الجميع على لبنان، سواء الدول الكبرى أو الصغرى، وكأنهم متفقون فيما بينهم، على تدميره، كله، ما دام هذا يحقق هدفهم في تدمير حزب الله وتجريده من كل قواه. أي أنهم جميعاً تقريباً، الراضي منهم وغير الراضي، يضحّون بلبنان، مقابل إنهاء حزب الله ودوره. وكأن قد عدُمت أية خيارات سياسية أخرى، للخروج من هذه الأزمة التي تحوّلت إلى مجزرة كبيرة بحجم لبنان الصغير كله. إن خيار تكثيف الطلعات الجوية، والاعتماد عليه، يعني أول ما يعني، أن الحرب، منذ هذه اللحظة، وإلى إشعار آخر، ستكون موجهة نحو المدنيين اللبنانيين، بالدرجة الأولى، وستلحق بهم من الكوارث، ما لا يخطر بعقل بشر. وعبر هذا الخيار، تراهن إسرائيل، على غضب وتملل الجمهور اللبناني، الذي سيضغط على قيادة حزب الله، في نهاية المطاف، لكي يُلبي هذا الحزب، ما تطلبه إسرائيل، من رزمة مطالبها المعروفة. متجاهلة إسرائيل، أن ما يمشي على جمهورها، لا يمشي على الجمهور العربي اللبناني. بمعنى أنّ هذا الجمهور، ومهما غضب على حزب الله، لن يثنيه عن مواصلة الحرب، فالحق الذي تعلمه إسرائيل وتتجاهله، أن الشعوب العربية، حتى لو كانت بتحضر شعب لبنان، لن تؤثر على قيادات لها سيكلوجية حزب الله وطريقته الدوغمائية في التفكير. فهذا الحزب العقائدي، لا يهمّه حقاً، مقدار ما ينال الناس من فظائع، ولا يشعر حقاً بها، ما دام معظم جسمه القيادي بخير. إنها ورطة إذاً. ورطة كبرى بل مجزرة وقع ضحيتها الشعب اللبناني، الذي هو، هذا الشعب، على اختلاف مشاربه، الهدف الأسهل بالنسبة لأرباب الحرب في القدس وتل أبيب. ورغم أن إسرائيل تدّعي حرصها على المدنيين الأبرياء، في كل حرب تخوضها، إلا أنّ هذا، وكما يعرف الجميع، مجرد ادعاء رخيص، لا يثبت للتدقيق والتمحيص، فما يجري الآن، ومنذ شهور في قطاع غزة، يؤكد بطلان هذا الادعاء، بل وينسفه من جذوره، ذاهباً إلى النقيض والعكس تماماً. فإسرائيل، عملياً، لا تقتل سوى المدنيين الأبرياء، بصفتهم الهدف الأسهل لها، وبصفتهم لا يكلّفونها شيئاً. فالحرب ضد المدنيين الأبرياء، هي حرب نظيفة من وجهة نظر إسرائيل : أي حرب بلا خسائر تُذكر في قواتها. وهذا هو كل ما يهمّها في الواقع. ونحن نخشى، وبناء على ما يقوله جنرالاتها، أن ينتقل هذا السيناريو، مع تعديلات هامشية، إلى لبنان، فتكون الكارثة. حرب نظيفة بالنسبة لإسرائيل وحزب الله معاً، وحرب قذرة كل القذارة، بالنسبة للناس الأبرياء، في كل مكان تحت سماء البلد الصغير. لذلك، على المجتمع الدولي، إن كان هناك من مجتمع دولي، أن يبذل المساعي الجدية الحثيثة، لوقف إطلاق النار، قبل أن يتهدّم لبنان بأسره، وقبل أن يصل عدد الضحايا فيه إلى آلاف مؤلفة. فتكون هذه الحرب، لا مجرد حرب، بل مجزرة كبيرة، بحجم لبنان الصغير كله.