قراءة في أحوال أمة مأزومة

حين مُني الألمان واليابانيون والإيطاليون بالهزيمة في الحرب العالمية الثانية، لم يسمحوا لتُجّار الحروب بإعادة إنتاج الكوارث بتنويعات مختلفة، ولم تتغزل هذه الشعوب بعصابات ومنظمات مسلحة تعيث الفساد والفوضى، متذرعة بكلمة حق يراد به عين الباطل وهي المقاومة، بينما تختطف حاضر الأمة ومستقبلها، وتخوض مواجهات عبثية تكون نتائجها محسومة مقدماً، لكن ما حدث هو أن تلك الشعوب واجهت أنفسها بالحقيقة واعترفوا بأنهم تبنوا خيارات خاطئة، وساندوا أشراراً كالنازيين والفاشيست الذين قادوهم إلى الهزيمة، لذا انكفئوا على همومهم ليصلحوا مجتمعاتهم التي خربتها الحرب، وخلال عقود قليلة أصبحت تلك البلدان في مقدمة الأمم المتحضرة، فتوحدت ألمانيا دون التورط في سخافات من طراز quot;أم المعاركquot;، وصارت اليابان واحدة من أكثر دول العالم تقدماً ورفاهية، واستعادت إيطاليا مكانتها الحضارية في أوروبا والعالم، ولم تفقد هذه الشعوب أملها مكتفية بالصراخ والبكاء والردح، بل تمسكت بالتفاؤل المدعوم بالجهد.
كما لم تعر هذه الشعوب آذاناً مصغية لمقاولي الحروب، ولم تطرب للتخريجات والتبريرات السخيفة على شاكلة quot;خسرنا المعركة، لكن لم نخسر الحربquot;، أو ترفع الشعارات الهزلية مثل quot;ثورة مستمرة حتى النصرquot;، ولم يعقدوا الندوات لتحريض أبنائهم على لف خصورهم بأحزمة ناسفة، وأيضاً لم يسمحوا لبقايا النازيين والفاشيين بمواصلة بث دعاياتهم الدموية، بزعم احتوائهم في العملية الديمقراطية، التي لا يؤمن بها عرّابو تلك التجارب المريرة، الذين طالما كبدوا أوطانهم أثماناً فاحشة من دماء مواطنيهم ومستقبلهم.
أما عربياً، فيبدو واضحاً أننا نمضي في طريق آخر، هو طريق المكابرة وخداع النفس، والإصرار على الانتحار الجماعي، والتفكير بالتمني، وإدمان الهزيمة، والتلذذ بتعذيب الذات، والاكتفاء بإدانة العدو كأننا نتوقع منه أن يرشنا بماء الورد، وارتكاب نفس الأخطاء مراتٍ ومرات، والانبهار برطانة كل ناعق، والهيام بأي كاريزما شريرة، متناسين ما خلفته الكارزيمات العربية من نكسة ناصر حتى حفرة صدّام .

وبعيداً عن ذلك الصخب السائد إلى حد الهوس، والذي يكتسح الشارع المصري ـ والعربي والإسلامي ـ الآن، نتيجة التعبئة الإعلامية التي تأخذ الناس بعيداً عن همومهم الحقيقية، وكعادتها تواطئت النخبة الانتهازية بقبولها دور quot;مسحوق التنظيفquot; لوجوه أنظمة كالحة، وغسيل سمعة الطغاة، وإشاعة ذائقة الغوغاء، ونفاق الدهماء باعتبارها ـ زوراً ـ لسان حال الشعب، وهذا انتقاص من قدر الشعوب، فالدهماء كالطبل الأجوف لا تمتلك سوى الصوت العالي، ولا تقيم وزناً للعقل، ولا تعتد بالحكمة، بل تسفه كل هذه القيم الإنسانية النبيلة مقابل الاحتفاء بالمشاعر غير الرشيدة، المشاعر الغبية الغشوم تماماً كسلوك الدبة التي قتلت صاحبها وهي تهش عنه الذباب، وبقليل من التأمل سنكتشف أن الشعوب لا تتصرف هكذا إلا حين يختطفها غوغائيوها، فنراها أنذاك متبلدة خانعة حيال ما يمس مصالحها وأرزاقها في شكل مباشر، كموجة الغلاء الأخيرة مثلاً، أو انتهاك أعراض السيدات على قارعة الطريق ورؤوس الأشهاد، بينما تنتفض غاضبة لعنتريات سماسرة الحرب .

وبعيداً أيضاً عن مناخ الهوس الشائع، وبعبارات واضحة، كان بوسع السيد حسن نصرالله ـ وهنا أسجل كامل احترامي لهذا الرجل، وأنني لا يساورني أدنى شك في إخلاصه وحكمته ـ لكن كان في مقدوره أن يحافظ على صورته كبطل استطاع تحرير بلاده، بدلاً من أن يتصرف بطريقة quot;مقاول الحربquot; لصالح طهران ودمشق، فمزارع شبعا التي تشبه quot;مسمار جحاquot;، ليست أكبر ولا أهم من quot;طاباquot; التي قبلت مصر التحكيم الدولي بشأنها حتى استردتها، رغم أنه لا وجه للمقارنة بين قدرات جيش نظامي كبير كالجيش المصري وميليشيات حزب الله، لهذا دعونا نعترف دون لغو ولا مكابرة، أن هذه الحرب التي جرّ قرار السيد نصرالله لبنان إليها هي بالأساس تستهدف تخفيف الوطء عن رفاقه ملالي طهران، وحلفائهم من جنرالات الفساد والاستبداد في دمشق، وباختصار فإن السيد وإن أجاد أنصاره القتال، لكنه أخطأ التقدير من البداية .

أما المثير للغثيان في هذا السياق فهو ما يردده quot;عجائز الحربquot; من أن quot;حزب اللهquot; انتصر، وعلينا أن نصدق هذه الخرافة، وإلا أصبحنا خونة الأمة ومثبطي همتها، وغيرها من التهم القبيحة، التي تصل عادةً لحد الردح وquot;فرش الملايةquot; ولغة الحواري، لا لشئ إلا لأن هناك من يدعو لإعمال العقل، الذي يبدو أنه أصبح سُبّة لدى سماسرة الحروب، وباعة الخرافات، ولا أفهم كيف يكون quot;حزب اللهquot; منتصراً، بينما هناك ما يزيد على ألف قتيل وآلاف الجرحى، ناهيك عن المليارات التي تكبدها لبنان ممثلة في بنيته الأساسية، كما خضع شريط حدودي بعمق عدة كيلومترات، ستكون ـ شاء من شاء وأبى من أبى ـ منطقة عازلة تهيمن عليها قوة دولية فاعلة وليست بهشاشة قوة اليونفيل، مع التأكيد هنا على حقيقة يتعامى عنها الكثيرون هي أن أي بلد في العالم لا يمكن أن يقبل أبناؤه انفراد طائفة من الشعب بقرار الحرب والسلام لتتحمل بقية الطوائف ثمن هذا الخيار، فلماذا نغفل إذن رأي اللبنانيين الموارنة أو الدروز مثلاً، وهم يبتلعون مراراتهم حتى تمر هذه العاصفة الدامية التي تشنها إسرائيل على الجميع، لكن بعدها سيكون لكل حادث حديث، ولعلنا لا نبالغ هنا إذا قلنا إن استحقاقات ما بعد الحرب في لبنان لن تكون أهون على الجميع من الحرب وبشاعتها .
[email protected]