تمخضت الحرب المظنون أن قد وضعت أوزارها، بين إسرائيل وحزب الله، عن حالة قد تكون فريدة في تاريخ الصراعات، ما يمكن أن نعتبره حالة فوضى الهزيمة والانتصار، ورغم أن أغلب الإجابات الآتية من المنطقة المسماة بالعربية، والتي تزعم بانتفاخ الأوداج وملء الحنجرة انتصار حزب الله، تنبع من التشيع لهذا الحزب وسائر حركات العنف الدينية الأصولية، كما تستند إلى ميراث الادعاءات والكذب على النفس المتأصل في الثقافة والخطاب العروبي، والذي ترسخ عبر سلسلة الهزائم العربية، بداية من حرب السويس 56، حتى الحلقة الأخيرة طبعة لبنان، إلا أن شطراً آخر من الجدل حول تحديد المنتصر يرجع لعوامل موضوعية، بتأثير تعقد هذا الصراع بالذات، سواء من ناحية أطرافه، أو من ناحية أهداف كل طرف، والتي على أساسها يمكن تحديد انتصاره أو هزيمته، علاوة على صعوبة التفريق بين الأهداف المعلنة للأطراف، وبين الأهداف الخفية، سواء تلك التي لا يُصرح بها على الإطلاق، أو تلك التي يمكن استنتاجها من طبيعة العلاقات الموضوعية، ومن جملة خطاب ومواقف كل طرف.
الأمر إذن ليس بسيطاً، إنما معقد ومتداخل، سواء على المستوى الفكري والخطابي السائد، والذي يتراوح ما بين الليبرالية والفاشية العروبية والدينية، أو على المستوى العملي على أرض الواقع، من تعدد للقوى رسمية ونصف رسمية وسرية، وهذا يغري بمحاولة تفكيك ذلك النص الفوضوي، وإعادة ترتيب مكوناته في نسق قابل للقراءة والفهم.
نظرة أولى إلى ساحة الصراع تخرج بنا عن منظور القطبية الثنائية، أي عن اعتباره مواجهة بين طرفين، رغم أن هناك طرفان فاعلان فيه على المستوى العسكري، هما إسرائيل وحزب الله، إلا أن الطرف الثالث، والذي سنشير إليه مؤقتاً باسم لبنان، وإن كان يلعب في الصراع العسكري دور المفعول به، بمعنى أنه يتلقى الضربات فقط، دون أن يصدر عنه رد فعل مضاد، إلا أنه طرف أساسي في الصراع السياسي، خاصة مع ملاحظة أن الصراع السياسي الذي نعنيه ليس خطاً واحداً، بين إسرائيل من جانب وحزب الله ولبنان من جانب آخر، لأن هناك خطاً آخر من الصراع بين حزب الله ولبنان، وربما إلى هذا الخط بالتحديد يرجع تعقد الأمر إلى حد الفوضى.
الطرف الأول إسرائيل، قوة سياسية وعسكرية موحدة، تتحرك في اتجاه واضح لتحقيق أهداف محددة، معلنة أو يسهل استنتاجها، ويمكن تعدادها كالتالي:

*التوصل إلى حدود آمنة ومعترف بها من جيرانها ومن المجتمع الدولي.

* التوصل إلى اتفاقيات سلام مع دول الجوار، يتيح لها إقامة علاقات اقتصادية تنموية متبادلة، وعلاقات ثقافية جديدة، مضادة لثقافة الكراهية المتأججة في المنطقة منذ تأسيس دولة إسرائيل.

* محاربة الإرهاب متمثلاً في المنظمات الإرهابية المحلية، والتي توجه نشاطها بالأساس ضد إسرائيل، وفي مقدمتها حماس والجهاد وحزب الله، كمنظمات دينية متطرفة، والمنظمات الفلسطينية العلمانية التي تسير على نفس الاتجاه، من خطاب عدائي متطرف، وممارسات عنف تضرب بالمعايير الإنسانية للصراع عرض الحائط، وإن كانت تتذكرها وترفع عقيرتها بالصراخ احتماء بها، حين تبدأ تروس رد الفعل في الدوران لسحقها، وجميعها تمارس فعالياتها تحت لافتة المقاومة، وتعلن لنفسها هدفاً محدداً هو إزالة إسرائيل من الوجود، أو تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.

* نزع سلاح حزب الله، واستئصال شوكته من حدودها الشمالية، وإزالة أو إضعاف تأثيره السياسي في الساحة اللبنانية، باعتباره العقبة الرئيسية التي تعوق توجه لبنان نحو السلام مع إسرائيل.

* هدف عارض وإن كان قد تم تصديره كسبب أساسي للصراع، وهو استعاد الجنديين الإسرائيليين المختطفين بواسطة حزب الله.
الآن، ماذا تحقق وماذا لم يتحقق لإسرائيل من أهدافها، لنتبين انتصارها من هزيمتها؟
حتى هذه اللحظة، أي لحظة توقف العمليات العسكرية، لا يبدو أن إسرائيل قد حققت أياً من أغراضها، فحتى ما حققته من تحطيم لجزء كبير من قوة حزب الله الصاروخية والبشرية، لا يمكن اعتباره إنجازاً جديراً بالاعتبار، ما بقي حزب الله متماسكاً، وقادراً على توجيه ضربات صاروخية، مهما كانت تأثيراتها المادية ضئيلة إلى درجة الرمزية، لأن رمزيتها بالتحديد هي الأهم في هذا السياق، ومن الواضح أن ما أحدثته الآلة العسكرية الإسرائيلية من تدمير وقتل في كل ربوع لبنان، لا يمكن أن يحسب لإسرائيل، لا من الناحية العسكرية ولا من الناحية السياسية، بل يمكن اعتباره بحق فشل عسكري وترنح سياسي.
بالطبع اللحظة الراهنة ليست هي المقياس النهائي، فالتطورات السياسية على الساحة اللبنانية والإقليمية والدولية حبلى بإمكانات يمكن أن تحول المشهد إلى نصر إسرائيلي مبين أو العكس، والأمر مرتهن بالطبع بمصير حزب الله، وموقف اللبنانيين والعرب والمجتمع الدولي منه، بعد كل ما تسبب فيه من خراب.
الطرف الثاني حزب الله، وهو تشكيل عصابي مسلح يستند إلى أيديولوجية دينية، عمودها الفقري الجهاد، وهي كمنظمة القاعدة، تقسم العالم إلى فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، وتتبنى الجهاد لتحقيق النصر الكامل على معسكر الكفر أو نيل شرف الشهادة، والأمر بهذا الشكل أو تلك الصيغة لا يعتبر النتائج العملية لممارسات الحزب هي معيار تقييم الأداء أو الجدوى، ففعل الجهاد نفسه هو الأساس، وتأتي النتائج المتحققة في مرتبة متأخرة، حيث الجهاد غاية لا وسيلة، والنتائج التي يعتبرها البعض إيجابية هي منتجات ثانوية من الطيب لو تحققت، لكن الهدف الأساسي هو الجهاد في حد ذاته، والذي يترتب عليه دخول الجنة، سواء في حالة النصر أو الهزيمة، كما تتجمل هذه المنظمة على سبيل الترويج والتسويق لفكرها وممارساتها بمقولات وطنية، مثل تحرير الأسرى اللبنانيين في سجون إسرائيل، وتحرير كامل التراب اللبناني.

وتكوين هذا الحزب معقد، حيث أن نواته تشكيل عصابي منظم ومدرب ومسلح، بما يكفل له فاعلية وكفاءة على مستوى غير مسبوق في المنظمات العربية، النظامية وغير النظامية، وهذا ما وضح جلياً أثناء الصراع الحالي، لكن كيان حزب الله لا يقتصر على هذه النواة والمؤسسات الإعلامية التي تديرها كقناة المنار وإذاعة النور، لكن هناك أيضاً القاعدة الجماهيرية الموالية والصلبة، متمثلة في الطائفة الشيعية في جنوب لبنان، والتي هي في نفس الوقت مكون أساسي من مكونات المجتمع اللبناني فسيفسائي التكوين، علاوة على قاعدة جماهيرية أكبر، وإن كانت غير مرتبطة عضوياً بالحزب، وهي قاعدة المتحمسين لنهج الحزب الأصولي الديني المتبني للعنف، وهي الأخرى جزء لا يستهان به من التركيبة اللبنانية.

يمكن تعداد أهداف حزب الله في هذه الحرب كما يلي:
* تحرير مزارع شبعا.
* تحرير الأسرى اللبنانيين في سجون إسرائيل، ومعهم ما قد يتيسر من الأسرى الفلسطينيين.
* إيقاع أكبر خسائر ممكنة في الأرواح والممتلكات بإسرائيل.
* إشعال النار في منطقة الحدود اللبنانية الإسرائيلية، خدمة لمصدري التمويل والتحريض (إيران وسوريا)، وتحقيقاً للمباعدة بين المنطقة وبين السير في مسيرة الحل السلمي للنزاع العربي الإسرائيلي، وزيادة في توريط لبنان كنقطة ساخنة في الصراع، بدلاً من أن تكون نقطة خامدة أقرب للحياد، وهو الخط الذي سارت عليه لبنان منذ تأسيس إسرائيل وحتى الحرب الأهلية اللبنانية.

*الظهور بمظهر القوة القادرة على التصدي للجيش الإسرائيلي، والذي عجزت أمامه جميع الجيوش العربية.
فلنتأمل معاً ما تحقق وما لم يتحقق من هذه الأهداف، حتى لحظة وقف العمليات العسكرية، لنجد أن الهدفين الأولين، تحرير الأرض والأسرى لم يتم، ولكن زاد الطين بلة كما يقولون، فلقد تم احتلال المزيد من الأرض، وأسر العديد من الأسرى ناهيك عن القتلى من صفوف حزب الله ذاته، لكننا نستطيع بسهولة أن نقرر أن الأهداف الثلاثة الأخرى قد تحققت يقيناً وبجدارة، وإذا أضفنا إلى ذلك ما سبق أن ذكرناه، من أن النتائج المادية العملية لا تحتل مرتبة متقدمة في أولويات أيديولوجية حزب الله، استطعنا القول وبثقة أن حزب الله أحرز نصراً جديراً في هذه الجولة.
ينبغي هنا أيضاً أن ننوه بما سبق أن قلناه من أن اللحظة الراهنة ليست هي الصورة النهاية، وأن الأيام القادمة قد تأتي بما يحيل هذا النصر إلى هزيمة، أو يدعم هذا النصر إلى حدود أبعد.

نأتي الآن إلى الطرف الثالث، وهو ما أطلقنا عليه تسمية لبنان تجاوزاً، لأننا نقصد بالتحديد القطاع من اللبنانيين المشغولين بإعادة إعمار لبنان، وتأسيس دولة قوية حديثة، وتوحيد السلاح ليكون مقصوراً على الجيش اللبناني، أو بعبارة أوضح نزع سلاح حزب الله، ويميل إلى الانعتاق من أسر قضية الصراع العرب الإسرائيلي المزمنة، ويقع هذا القطاع ضمن ما يعرف بجماعة 14 آذار، لكن هذا التوصيف لا ينطبق بالطبع بذات الدرجة على جميع مكونات جماعة 14 آذار.
لبنان الذي نعنيه لم يحدد لنفسه أهدافاً من هذه الحرب، لأنه دخلها مرغماً أو مجروراً، دون أن يمتلك من أمره شيئاً، وبالتالي وقعت عليه جميع الأضرار، من مادية وبشرية، وتحول من دولة تسعى نحو التنمية والحداثة، إلى ساحة للخراب، ليكون لبنان وبجدارة هو الخاسر الأكبر، وربما الخاسر الوحيد.
أيضاً نقول هنا أن اللحظة الراهنة ليست حاسمة، لأنه لو سارت الأمور باتجاه تضامن المجتمع العالمي مع لبنان، بما يؤدي لتخليصه من حزب الله السرطاني الطبيعة هذا، فإن الأمور عندها ستنقلب رأساً على عقب، ليتحول الخاسر إلى الرابح الأكبر، فمهما كانت الخسائر والتضحيات التي تكبدها لبنان جراء القصف الإسرائيلي الوحشي، فإنها ربما كانت أقل بكثير من الخسائر المتوقعة لو حاولت قوى لبنان الليبرالية إنجاز الأمر بنفسها، ما كان يعني حرباً أهلية لا تبقي ولا تذر.
أقدم تلك السطور كمجرد محاولة لتفكيك وإعادة بناء فوضى الانتصار والهزيمة في هذه الحرب الجنونية من جميع جوانبها، دون أن أزعم لها أي درجة من الكمال.
[email protected]