حينما خط صدام حسين، بدمه، عبارة quot;الله أكبرquot; على ما يسمى زوراً بالعلم العراقيّ، إبان حرب تحرير الكويت، لاقى فعله إستهجاناً من عالم العرب المتحالفين ضده في تلك الحرب. آنئذٍ، انبرى إعلام تلك الأنظمة نفسها، وخصوصاً الخليجية، لتذكير الخلق بيديّ ذلك الطاغية الملطختين بدماء ملايين المسلمين، وحقيقة نظامه البعثيّ، المعادي فكراً وممارسة للدين الحنيف وتعاليمه. ولكن، حينما أذنت ساعة الطاغية ونظامه، باستهلال حرب تحرير العراق، رأينا كيف انقلب موقف الإعلام العربيّ، (باستثناء الكويتيّ، طبعاً)، على أقصى درجاته، بركوبه موجة الغوغائية السياسية والشعوذة الدينية، التي قادها المدلسون المرتشون من أولي الإستثمارات الإقتصادية والكوبونات النفطية. إعلامنا ذاته، من فضائيات وصحافة وإنترنيت، يتناسى مواقفه تلك فيتأسى اليوم ويُبكي مشاهديه وقرائه على مصير العلم الصداميّ، بزعم كونه رمزاً لوحدة العراق وإستقلاله. وكأنما أبقى صاحبُ العلم، السعيد، وحدة ً لموطنه، بسياساته العنصرية والطائفية طوال أكثر من ثلاثة عقود، بعثية؛ وكأنما صان إستقلال ذلك الوطن، بحروبه المجنونة ضد الأهل والجيران؟ هو ذا الطاغية، البائد، خلف قضبان العدالة البشرية، في طريقه إلى يد العدالة الربانية، لم يبق له من quot;مفخرةquot; على أرض الرافدين، سوى ذلك العلم البائس؛ وحاله كحال أحد الأعراب، الذي قال له جيرانه: quot;لقد صادروا صندوقك، يا أبا لمعةquot;، فأجابهم الرجل: quot;ولكنني أحتفظ بمفتاحهquot;!

لقد انهار ذلك النظام، إذاً، وما زال بعض quot;أعراب quot; الإعلام بين المحيط والخليج، إياهم، يتباهون بعلمه المرفوع خفاقاً على أطلال مجده التليد. كأنما هذا القماش المصبوغ بألوان ثلاثة والمعلق بعصا، سيكون الرمز الخطير، المستطير، المعلق به مصير وطن وشعب. وكأنما اسم الجلالة، تعالى وتبارك، سيجعل ذلك العلم مقدساً إذا خط بدم طاغية، فاسد، وتمّ توزيعه بين فراغات أنجمه الثلاث؟ علمٌ مزوّر، كتاريخ الانقلابيين البعثيين، بأسره؛ علمٌ مُشرَع، دونما أيّ شرعية دستورية لصانعيه الانقلابيين، المدحورين : وبالرغم عن كل تلك الحقائق، الموصوفة، سيقول لنا الإعلام العربيّ أنّ علم الإجرام هذا، هوَ خشبة خلاص العراقيين..؛ وأنه ركن وحدتهم الوطنية، المكين. ولكن، ما فاتَ إعلامنا، العتيد، تبيانه للجماهير العربية، في هذا الشأن، إنما هوَ حقيقة بسيطة لا بالخطيرة ولا بالمستطيرة: أنّ بقاء ذلك العلم الصداميّ، بعد مضي ثلاثة أعوام ونيف على إندحار أصحابه، ما منع إستباحة دماء المدنيين، في وسط وجنوب العراق، من قبل عصابات الطوائف ومخلفات البعث وجماعات القاعدة، وما يشيعونه من رعب يوميّ بالقتل والتفجير ورميَ الجثث المقطعة الرؤوس والأوصال على جوانب الطرقات وفي أعماق الأنهار والأهوار، علاوة على تدمير سكنى أولئك المواطنين ومقدساتهم وترويعهم وتهجيرهم. أما الجانب الآخر من تلك الحقيقة، فهوَ أنّ كنس ذلك العلم الصداميّ، نفسه، من على أرض شمال العراق ( إقليم كردستان )، ما منع ازدهار تلك المنطقة من جميع النواحي، وخاصة لجهة توفر الأمن والأمان لعموم مواطنيها وكذلك لمن يلوذ بها من أهالي الأقاليم الاخرى، المنكوبة بالإرهاب الصداميّ والتكفيريّ والمذهبيّ.

لم يرَ الإعلام العربيّ، هناك في الشمال العراقيّ، سوى علم الإقليم الكرديّ، الفيدراليّ، حسب؛ فأهاج النخوة َ العربية في رؤوس الجماهير. نخوة، لم يهيجها أحدٌ لمرأى الأعلام الإسرائيلية، الخفاقة في سماء بيت المقدس، (الذي حرره يوماً صلاح الدين، الكرديّ)؛ ولا لأعلام هذه الدولة، ذاتها، وهي مشرعة على مباني سفاراتها وقنصلياتها ومكاتبها في عدة عواصم عربية. نخوة لم تكترث، أيضاً وأيضاً، لمرأى أعلام عراقية الهوية، إيرانية الهوى، ترفرف في أقاليم وسط وجنوب بلاد ما بين النهرين. نعم، هاج الإعلام العربيّ وهاجت معه دول الجوار، كذلك: تركية، واحة الحضارة والمدنية والعلمانية ـ كذا، التي يجتمع تركمان العراق في عاصمتها لعقد مؤتمراتهم تحت يافطة علمهم الخاص؛ في الوقت نفسه الذي تمنع فيه عشرين مليوناً من مواطنيها من مجرد التكلم بلغتهم، الكردية، ناهيك عن حقوقهم الأخرى؛ هيَ نفسها، مستنفرة الآن حكومة وبرلماناً ومعارضة وعسكراً، خشية من العلم الكردستانيّ، الانفصاليّ. وسورية، بلد الممانعة والصمود والمقاومة، التي نسيَ مواطنوها علمها الوطنيّ، ناهيك عن العلم اللبنانيّ، بما حشد في مدنها وقراها وفضائياتها وأراضيها من أعلام حزب الله؛ هيَ أيضاً، استنفرَ نخوتها القومية مرأى ذلك العلم الكردستانيّ، خشية أن يطلب أكرادها حقوقهم الثقافية والسياسية؛ وهي نفسها، التي لا تعترف حتى بمجرد حقوق المواطنة لهم. وأخيراً إيران، بلد آيات الله، التي تتغلغل أجهزتها الإستخبارية وحرسها الثوري في كل مفاصل الحياة العراقية؛ هيَ أيضاً، يخامرها نفس الاستياء، الموسوم أنفاً، بما أنها بدورها تفرض تمييزاً مزدوجاً على مواطنيها الكرد، عنصرياً ومذهبياً، ولا تطيق رؤية ذلك العلم الكردستانيّ، النوويّ !

[email protected]