العقل (2)

في خضم الإبحار الفلسفي في عالم العقل وقضاياه يطرحون نموذجين من التفكير، الأول هو التفكير (في العقل)، والثاني هو التفكير (بالعقل) وكما قلت : أن التفكير (في العقل) يجعل من العقل موضوع التفكير، مشكلة التفكير، العقل هنا مسلَّط على العقل، على ذاته، على هويته، على بنيته. فيما النموذج الثاني يتحدث عن العقل كأداة تفكير، عضو تفكير ــ قد يكون هنا تسامح في التعبير لأسباب سوف نتبينها لاحقا إن شاء الله تعالى ــ وهناك نصوص فلسفية قديمة ونصوص فلسفية حديثة تمجِّد وتُعلي وتصعِّد من قيمة التفكير (في العقل)، تعتبره أكثر معقولية، وأسمى مستوى من التفكير (بالعقل)، أي إنَّ التفكير (في العقل) الذي هو أقرب للبحث الأنطولجي أهم وأشرف وأعظم من التفكير (بالعقل) الذي هو أقرب للبحث الأبستمولجي، الأول تفكير في الوجود، فالعقل المبحوث عنه هنا موجود، كائن موجود. والثاني تفكير في المعرفة، لأن التفكير (بالعقل) تعبير عن ممارسة العقل لوظفيته الحياتية، التي هي التفكير في الكون والطبيعة واللغة والحياة والافكار وغير ذلك، تحليل الوجود وتركيب المعارف.
يقول الدكتور الجابري في كتابه تكوين العقل العربي (التفكير في العقل درجة من المقولية أسمى بدون شك من درجة التفكير بالعقل) / المصدر ص 18 / والمعقولية هنا تعني التجريد كما يبدو لي، وبهذا يكون معنى أسمى معقولية هو أكثر تجريدا، والحال لا فرق بين المعنوي والمحسوس حينما يدخلان عالم التجريد الذهني، فالحب الذي هو معنوي، والكتاب الخارجي الذي هو مادي، كلاهما على درجة واحدة من التجريد حينما يتحولان إلى صور معقولة في الذهن. فكل معقول مجرد كما تقول الفلسفة العقلية، والتجريد هو تجريد، يأبى على التصنيف على شكل درجات، أو مراتب، أو طبقات. أو يعني بقوله هذا أن التفكير (في العقل) أشرف من التفكير (بالعقل)، وربما مسوغه في هذا الحكم، أن العقل هو مصدر المعارف، وأشرف مكونات الكائن الإنساني كما هو متعارف. وقد يعني أصعب وأعسر وأشق، ومهما كان مراد المفكر الكبير، تبقى العبارة غامضة، إذ لم يبين مبررات هذا التفضيل في المعقولية، وسوف نتعرض لذلك مفصلا في فصول قادمة إن شاء الله في هذه النقطة بالذات. بل أن أحمد أمين وهو مؤرخ يقول (النظر بالعقل في العقل هو الفلسفة على وجه التحقيق) / نقلا عن المفكر الطرابيشي في نقده للجابري / وهو كلام مؤرخ.
ولكن التفكير (في العقل) يتم بـ (العقل)، ومن هنا تشخص مفارقة كبيرة، حيث يتبدى لنا التفكير (بالعقل) هو المرجع، وهو المآل، فعالم (في العقل) يحتاج إلى (بالعقل)، نقتحم العقلَ بالعقلْ، فأيهما يحوز على شرف السبق بالاهتمام والرعاية والبحث والتواصل؟
ولكن هل للتفكير (في العقل) من المزايا والفوائد والعطائات ما يترك أثره الجوهري والكبير على عمل العقل في الطبيعة والوجود والحياة واللغة والرياضيات والعلوم؟
لم أجد ما يشير إلى ذلك من قريب أو بعيد، فهذا أنشتاين أخرج لنا النسبية، ولكن هل إنطلق وهو يفكر بـ (عقله) من تفكيره في (عقله)، وبالتلي كان له هذا العطاء الكبير؟
وأي منا ينطلق وهو يفكر بـ (عقله) بعدما مر بجولة عسيرة من التفكير (في عقله)؟
هؤلاء عباقرة الرياضة والفيزياء والطب، لم يسجلوا لنا في مذكراتهم أنهم إنما أبدعوا هذا الإبداع بسبب جولاتهم الفلسفية والتأملية (في العقل) أولا، ومن ثم فكروا بـ (عقلهم).
ليس هناك مرحلتان في الجهاد العلمي لهؤلاء الأفذاذ، الأولى كانت (في عقولهم) والثانية كانت (بعقولهم) بل هم أخترقوا المجهول بعقولهم مباشرة، وفق شروط البحث العلمي، وبالاستعانة بالتقنيات المتوفرة لهم، وبتشجيع من روحهم الكبيرة.
ما هي النتائج التي توفرت لنا بعد أن جال بعض الفلاسفة (في العقل)؟
تلك قضية أخرى سوف يأتي وقتها إن شاء الله تعالى، حيث نسلط الضوء على هذه النتائج المزعومة منذ زمن الأغريق وحتى هذا التاريخ إذا سمحت الأيام.
النموذج الثاني من التفكير هو التفكير (بالعقل)، فالعقل هنا آلة، ألة تفكير، بصرف النظر عن صحة أو دقة الاصطلاح، من حيث البساطة والتركيب، لأن بعض المدارس ترى أن العقل كائن بسيط.
ليس من شك أن كل التراث الحضاري الإنساني هو نتاج (التفكير بالعقل) وليس نتاج التفكير (في العقل)، ليس في ذلك شك، فأن التفكير بالعقل هو الجانب التطبيقي للعقل، الجانب الأداتي، هو معركة الإنسان ضد الطبييعة، هو معركة الإنسان في اقتحام المجهول،هو معركة الإنسان في تأنيس الطبيعة، وهو أيضا أداة الإنسان للتفكير (في العقل) ذاته!!!
هل هناك مجال للمفاضلة؟
يرفض بعضهم منطق المفاضلة، لسبب بسيط، ذلك أن لكل من التفكيرين مجاله وطبيعته وربما أدواته، فهي اشبه بالمفضالة بين مهندس وطبيب، فيما يصر بعضهم على هذه المفاضلة، مقدما التفكير (في العقل)، على التفكير (بالعقل)، ويضطربون في مادة المفاضلة، هل هي شدة التجريد؟ أم هي النتائج على صعيد الواقع؟أم هي اللذة الروحية؟ أم هي الجرأة في الطرح؟ أم هي شي لا هذا ولا ذاك؟
وفي تصوري أن التفكير في ذات العقل مثل التفكير في ذات الله سبحانه، حيث لم يجلب غير المتاعب والمصاعب، وقد أستغرق العمق الزمني للإنسان المسلم واللاهوتي بشكل عام.
هل حقا يتحرر العقل من ذاته عندما يودع مضمونه العلمي ويغرق في لجته الخاصة؟
هل حقا يتحرر العقل من سلطته على نفسه عندما يغمض العين عن المفاهيم الطبيعية والمنطقية والفسلفية وينغمس في بحره اللجي الخاص؟
لست أدري، ولكن الذي أدري أن العقل حتى إذا قرر أن يلج ذاته، إنما بذاته؟ وبالتالي، يفكر في ذاته بذاته، فتعود سيطرة الآلية على الذات، سيطر هنا التفكير (بالعقل) على (التفكير في العقل)
وهناك نموذج ثالث في التفكير، ذلك هو التفكير في المفاهيم، فالعقل بحر من المفاهيم، بحر متلاطم الأمواج، هناك المفاهيم الطبيعية التي هي واسطة التفكير بين العقل والوجود، منها مفاهيم فيزيائية (الكتلة، الضوء، السرعة) ومنها كيميائية ومنها جغرافية، وهكذا، وهناك المفاهيم المنطقية، مثل الكلي والجزئي، مثل الأمكان والوجوب والامتناع، وهناك المفاهيم الفلسفية مثل العلة والمعلول، الشدة والضعف، وغيرها، وبصرف النظر عن صحة هذا التقسيم، وبصرف النظر عن صدق هذه المفاهيم وطبيعة العلاقة بينها وبين الوجود والعلاقة بين بعضها البعض، فإن العقل يفكر بهذه المفاهيم، يفكر بها كأداة، ويفكر بها كمضمون، فما هي خصائص هذا النموذج من التفكير؟
نلتقي في الحلقة الثالثة.