في عام 1870 اقر مجلس كنسي بأقتصار صفة عدم الخطأ على البابا. قبل ذلك كانت هذه الصفة تشمل كل الكنائس منذ تشكيل مؤسسة البابوية. بين أعوام 1962 و 1965 أكدت مجالس كنسية متتالية قرار عدم خطأ البابا، ولا زالت اي اقوال وأحكام يتفوه بها من منصبه الرسمي غير قابلة للتراجع عنها او اكسابها صفة الغلط. بالطبع اذا كان حديث البابا في الجامعة، والذي توافق مع تذكر العالم الغربي لاحداث 11 سبتمبر، قد صدر عنه بصفة رسمية، فلن يتراجع عنه او يعتذر شخصياً كما يطالب البعض في العالمين العربي والاسلامي. واذا كان حديثة لا يتجاوز صفة المحاضر الجامعي، وهو منصب قديم تقلده، فربما يعتذر اذا وجد ضرورة، علماً بأن سماحته يعتبر ان حديثه فهم بشكل معاكس كونه يطالب بالحوار ولا يغلق الابواب بتصريحات نارية حاسمة للموقف سلفاً.
أعتقد انه من الخطأ تقزيم الامر بأصرار على اعتذار وتركيع لبابا يقول انه مع حوار الاديان. الافضل المباشرة بالحوار فوراً والاستفادة من الصخب الاعلامي والاهتمام المؤسساتي لتوضيح المواقف. من وجة نظر اسلامية، ومهما كانت متشددة ومتعصبة ومنرفزة ومتشككة من الغرب المسيحي، فأن الانجرار في الصخب ضد البابا والكاثوليكية والمسيحية أنما يعزز ما يقوله المتشددون المسيحيون عن الاسلام والمسلمين.
اذا كان ديننا متسامح وبخلاف ما يدعيه الطرف الاخر، فلماذا لا نتحاور معهم بوتيرة أسرع من الحوارات السابقة وبشكل اشمل دون اقتصاره على حفنة شيوخ وقساوسة. يمكن مثلاً للاعلام المتنور على الطرفين ان يقفز عن الحواجز اللغوية ويترجم كتابات تصدر عن الطرف الاخر اذا كانت توضح رؤية كل طرف. الغرب الان يرى بضعه مئات او الاف يتظاهرون بغضب في بلد اسلامي ما، ثم يعممون الامر ويلبسون كل المسلمين ذلك الثوب من دون الاهتمام بما يقال ويكتب في ذلك البلد، او برؤية الملايين الذين لم يتواجدوا أمام الكاميرا الانتقائية.
خطورة ألامر تنبع من كثرة الصيادين في المياه العكرة. سماحة البابا يقول ويكرر ان لم يقصد الاساءة وانما يريد الحوار، ثم نرى تصعيداً من طرفنا لاعتذار شخصي، ويجاريه كتابات ومواقف غربية تلبس كلام البابا صفة الفعل المتعمد وتبرر ما قاله وتهاجم الاسلام والمسلمين. بالطبع سيتبع ذلك مظاهرات وقتل لابرياء واحراق لكنائس، ربما لا تتبع الكرسي البابوي، وسوف يستغل ذلك مجدداً لاثبات ما يقال سلباً عن الاسلام.
بالطبع الامور ليست بهذه السهولة وسنرى اراء تربط بين الاحداث وداخل التاريخ لنستنتج مؤامرة ضخمة ضد الاسلام. يمكن القول مثلاً ان الكنيسة والمسيحية الغربية كانت تعيش دوما على مناقضة ما سبقها وما تبعها من الاديان. عداوة الكنيسة لليهودية لها اول ولا نهاية لها. منذ القرن الحادي عشر شملت الكنيسة عداءها العملي الحربي للاسلام والمسلمين الى جانب استمرار محاولات ابادتها لليهود واليهودية. في عصرنا الحاضر ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية استفردت الكنيسة بالاسلام وعقدت هدنة مع اليهودية. ربما كان الدافع لذلك هو قيام دولة لليهود يمكن دفعهم اليها، بينما المسلمون يغادرون بلادهم ويتوافدون للغرب، وقلة لا يستهان بها من الغربيين يتحولون للاسلام. انها حقيقة في العالم الغربي بأن الجوامع تنتشر بوتيرة اضعاف انتشار الكنائس، وانها مليئة بالمصلين يوم الجمعة بينما الكنائس لا تجد غير قلة من العواجيز زواراً لا يملئون سوى بعض الكراسي يوم الاحد.
ابتعاد المسيحيين عن دينهم وكنائسهم، وزيادة المسلمين، ثم انتساب العنف والفاشية للمسلمين (او ما يقوله بعض الليبراليين بأن الاسلام ليس ارهابي ولكن كل الارهابيين الذين يهاجموننا في الغرب مسلمين) يوحي باحتمال وجود من يفكر في تكفير الاسلام والمسلمين لارهابهم في الغرب ودفعهم للرحيل، تماماً كما تم فعله مع اليهود منذ ما قبل ميلاد الاسلام حتى نصف قرن مضى. الصراع مع الاسلام يوحد ايضاً الطوائف المسيحية المختلفة والمتنازعة، يوحدهم في الخوف من الاسلام والمسلمين. وهناك عنصر أخر مهم في هذه الخلطة: المنجزات الاوروبية الانسانية، مثل الحريات والمساواة بين الجنسين وتشريع واحترام حقوق الانسان وسيادة القوانين الدنيوية وغير ذلك من التطوات الاجتماعية، كلها ولدت من بطن الصراع المدني ضد الكنائس وسلطاتها، وتجللت نتيجة الصراع بالفصل التام بين الدين والدنيا الى درجة عدم الاحتياج الى الكنيسة حتى في حالة الزواج. هكذا فالكنيسة المعزولة حتى الان تركض خلف السياسة والمجتمع وتتلمس الان مخاوفهم من الاسلام وتدلي بدلوها لاكتساب شرعية دنيوية جديدة ولتكون لها كلمة فيما يجري. بالطبع رجال سياسة متدينون مثل بوش وبلير تحديداً يرون في تأييد الكنيسة دعما لمواقفهم العدوانية ولاشعال الحروب، وهكذا يتعكز كل طرف على الاخر لفرض رؤي جديدة على المجتمعات.
حتى لو كانت مثل هذه المؤامرة، او الظروف، متوافرة تماماً وصحيحة، فأن من مصلحة العرب والمسلمين الدخول في حوار مع اي طرف يطالب بالتحاور. مثل ذلك الحوار كان مطلوبا على ابعد تقدير منذ ازمة الصور التي انتهت بموت اكثر من مئتين مسلم ولم يستفاد منها في تبيان موقف الاسلام، بل اضرت بالمسلمين في الغرب وبالاسلام عموماً. نحن الان امام اختبار اخر. انه من الافضل الف مرة ان نتحاور معهم طويلاً على ان يقبل سماحة البابا بسرعة الاعتذار الشخصي عن شيء لا يظن هو انه قصد منه الاساءة.
لقناعتي ان المتشددين على الطرفين لن يتركوا الامر يمر بسلام، وقناعتي ان المؤسسات الدينية الاسلامية والمسيحية لن تتوصل الى حوار علني سريع وطويل، فأن أملي ان يجد الاقتراح التالي اذاناً صاغية لدى الاعلام العربي والاسلامي والاوروبي والاميركي : اتفاق بين صحف من الطرفين على تبادل نشر اراء لكتاب ومفكرين، او على الاقل تبادل الافتتاحيات او مقالات لبعض كتاب كل صحيفة، وبالطبع عمل شيء مشابه على صعيد التلفزيون.