احب ان استهل هذا المقال بتقديم بالغ الشكر والتقدير والعرفان بالجميل للصديق رئيس التحرير الذي وافق على انتقالي من مربع القضايا السياسية في صفحة الشئون العربية الى فضاء الثقافة والابداع وشئون الأدب والفن في صفحات الأهرام الداخلية، حيث المساحة اكثر براحا والمواضيع اكثر ثراء و تنوعا وبعدا عن منغصات السياسة العربية التي تجلب الهموم وتقصف الأعمار. أوصى الحكيم لقمان ابنه، وهو على فراش الموت، ان يبتعد عن السياسة، والا ينخدع بما تظهره من اغراء وما تبديه من غنج ودلال، فهي ماكرة خادعة، تخفي تحت جمال مظهرها، جوهرا بالغ القبح والبشاعة،وتحمل في إغرائها المهالك وتجلب مصارع الرجال، ووعد الابن والده الحكيم بالابتعاد عن السياسة، الا انه وعد لم يستطع ان يحافظ عليه، لان السياسة في العالم العربي مثل الذئبة المسماة السلعوة التي أنتجها الخيال الشعبي العربي لتكون معادلا رمزيا للسياسة، لانك مهما حاولت الابتعاد عنها، فهي لا تبتعد عنك، وانما تختفي خلف الاشجار واعمدة الكهرباء ووسط شقوق الجدران، وتهاجمك من حيث لا تدري ولا تحتسب، وهي سياسة خالية من كل عوامل الغواية والاغراء التي تتمتع بها السياسة في بلدان العالم الأخرى، فجة، قبيحة، مظهرا وجوهرا، ولا تملك مسحة جمال كاذبة تستخدمها في الحيلة والخداع، ولا شي ء من الحكمة للإيقاع بالسذج والمغفلين، وليس في حوزتها من مؤهلات السياسة كما يعرفها العالم إلا قوة الافتراس والغدر، مما يجعلها تقتحم عليك حياتك وتهجم عليك وانت في بيتك وتجرك باسنانها واظافرها من تحت الشراشف حتى وانت نائم في سريرك، فاللهم اجرنا واحمنا، قراء وكتابا، من شرورها.
يحذوني الأمل في ان يكون الانتقال من السياسة الى الثقافة، سهلا ميسورا مثل عبور النقاط الحدودية بين الدول الأوروبية، وليس في عسر وعذاب الانتقال بين مخافر الحدود العربية وان يلقى القبول من القارئ العزيز الذي لابد انه يبحث هو الآخر عن مساحة شهيق وزفير بعيدا عما تضخه القنوات الفضائية العربية من مادة اشبه بخراطيم المياه الساخنة الحارقة التي تحارب بها الشرطة المظاهرات، او تقذفه بقنابل الدخان السياسي الاسود الكثيف ذي الرائحة الكريهة التي تشبه القنابل المسيلة للدموع، تصيبه بالاختناق والدوار.
حضرت كثيرا من المؤتمرات التي تعنى بالثقافة على المستويين العربي والدولي، فعلى المستوى الدولي حضرت عددا من تلك التي كان يقيمها اتحاد كتاب آسيا وافريقيا في أزمنة ازدهار هذا الاتحاد، ثم صرت احضر مهرجانات تقيمها كيانات تشبهه مثل المؤتمر الأخير لعموم كتاب افريقيا ومثقفيها الذي دعا له الرئيس السينيغالي واقامه في بلاده منذ اشهر مضت، لاشراك الادباء والمفكرين في وضع تصورات لمستقبل القارة ورؤاهم للتقدم والنماء وقهر المشاكل، او آخر أقامته منظمة ثقافية إفريقية متزامنا مع معرض هاراري للكتاب العالمي في عام قبله والاعلان لاول مرة عن افضل مائة كتاب افريقي صدرت في الاونة الخيرة، كما تلقيت دعوات كثيرة من صديقي الشاعر الغاني اوكاي الذي يرأس اتحاد الكتاب الأفارقة وكنت شريكه في اقتراح بعض الافكار لتفعيل دور الاتحاد في حياة الادباء الافارقة ومعنا الروائي والكاتب المسرحي النيجيري الحائز على جائزة نوبل سوينكا في لقاء عقدناه في داكار مقترحين تمويل هذه الانشطة بمساعدة من امانة الاتحاد الافريقي وهي مساعدة تأخرت كثيرا لان صندوق المساعدات بهذه الامانة ما زال ينتظر المساعدات التي تأخرت عنه.
على المستوى العربي حضرت عددا كبيرا من تلك التي يقيمها اتحاد الكتاب العرب والأخرى التي يقيمها المجلس الأعلى للثقافة مثل مؤتمراته عن الرواية ونحو خطاب ثقافي جديد وتلك التي أقامتها مكتبة الإسكندرية عن الإصلاح كما حضرت مؤتمرات للجامعة العربية كان آخرها مؤتمرا ثقافيا عن حوار الحضارات دعا اليه السيد عمرو موسى منذ أعوام قليلة مضت، وندوات ومواسم ثقافية دورية تقام خارج مصر مثل مهرجان الجنادرية في المملكة العربية السعودية، وندوات المجلس الاعلى للاداب والفنون بالكويت إبان رئاسته من قبل الكاتب والمفكر الكويتي الصديق الدكتور محمد الرميحي، وموسم أصيلة في المغرب، الذي يكتسب سمعة عالمية، ويحظى بجاذبية خاصة جعلتني احرص على حضوره سنويا منذ ما يقرب من عشرين عاما، عدا ندوات وحلقات دراسية تقام بمناسبة تسمية العواصم الثقافية، كان آخر ما حضرته منها افتتاح العاصمة الثقافية هذا العام في مسقط، وقبل ذلك كنت شريكا في تنظيم المؤتمرات التى أقامها المجلس القومي للثقافة العربية ومشاركا فيها طوال عقد الثمانينيات، وهو ما اسهم في تمتين أواصر الألفة بيني وبين هذه المؤتمرات وأجوائها ومناخاتها والمشاركين فيها، فاذهب اليها وكأنني ذاهب لحفل لقاء يجتمع فيه عدد من الأصدقاء، ليتجدد بيننا اللقاء وتتجدد الصداقة وتتجدد العلاقة ويتواصل الحوار الذي انقطع لفترة من الوقت بسبب اقامتنا في اماكن مختلفة، ومهما اختلفت الانتماءات والاعراق والثقافات فغالبا ما نكتشف أرضا أشبه بالجزيرة نقف عليها ونعلن انتماءنا لها ونرشق فيها علما لا يحمل أشكال وألوان أعلامنا الوطنية وانما علم ينتمي للإنسانية جمعاء وأهدافها وطموحاتها المشتركة اكثر مما ينتمي لوطن بعينه او قومية محددة. انه نوع من العولمة، االعابرة للقارات والاجيال، فلح في اختراعها الادباء والفنانون منذ اقدم العصور، اكثر انسانية وبها ء وامنا وسلاما من عولمة هذه الايام ذات المخالب والانياب الالكترونية. وهذه المؤتمرات ذات الطابع الأدبي، تختلف تماما عن لون آخر من ألوان اللقاءات الثقافية هي المهرجانات الفنية، التي أشارك في كثير منها بحكم انتمائي القديم لشريحة الفنانين وعملي في بواكير الشباب مخرجا وممثلا مسرحيا ومديرا للمعهد الوطني للتمثيل والموسيقى ثم أمينا عاما لرابطة الأدباء والفنانين، بل شاركت شخصيا في إعداد مجموعة من المهرجانات المسرحية التي تتعدد فيها الألوان الفنية باعتبار المسرح أب الفنون فهي مهرجانات تضم الممثلين والمخرجين والكتاب والموسيقيين والرسامين الذين يصممون المناظر والإداريين والصحفيين والنقاد، وبالتالي تتنوع وتتعدد أيضا الأنماط البشرية، وحيث ان المشاركة هي مشاركة فرق وتجمعات فنية وليست مشاركة فردية كما في المؤتمرات الأدبية، فان مثل هذه المؤتمرات تشهد زحاما كبيرا يجعلها أشبه بالموالد التي نراها تقام للأولياء الصالحين، وقد اختلط فيها الحابل بالنابل كما يقولون. والحابل هو الصياد الذي ينصب الحبائل لفرائسه، والنابل الذي يحمل نبال الصيد، ولا ادري سبب الاستغراب في اختلاطهما. وهو مثل يصدق في تعبيره عن هذه المهرجانات التي تكثر فيها الشراك والحبائل والفرائس والصيادين بكل المعاني وكل المستويات، ويكثر فيها اللغط واللت والعجن والمواقف الساخنة الغاضبة التي يخلقها تصادم الآراء واختلاف الأذواق والمشارب ويؤججها الازدحام، خاصة اذا اهتز النظام وانتشرت الفوضى، كما في مهرجانات عالمية ضخمة يصعب لاي ادارة السيطرة عليها، مثل مهرجان ادنبرة الذي حضرت فعالياته عدة مرات، الا انني في كل مرة اذهب اليه، كنت اذهب متحررا من احمال وتبعات المشاركة كما هو الحال في المؤتمرات الادبية، وهو مهرجان يتكرر كل عام، ويشكل ظاهرة فنية غريبة الاطوار، لان المدينة تمتلئ على آخرها بهؤلاء الفنانين المشاركين في العروض (فهناك اكثر من ستمائة فرقة تشارك في المهرجان وتقدم اكثر من الف عرض يوميا وهناك اكثر من مائتي مكان للعرض غير عروض الشارع التي تشارك فيها فئات من خارج اصحاب المهن الفنية مثل الالعاب السحرية والعاب السيرك، او مقدمات العروض العارية التي تسمي استربتيز، الامر الذي يجعل مهرجان ادنبره يحظى بوصف اكبر مهرجان في العالم ويمكن ايضا اعتباره مولدا يصح عليه نفس الوصف أي اكبر مولد في العالم. وتجد الناس يبحثون عن أي جدار ينامون تحته و العروض تقدم في الشوارع والميادين والمقاهي والكنائس بعد ان ضاقت عن استيعابها المسارح والقاعات بما في ذلك قاعات الفنادق وردهاتها وأروقتها، ويا ويل ذلك الإنسان الذي يذهب لزيارة المدينة في شهر أغسطس دون ان يحجز قبل عام غرفة في احد الفنادق لان مصيره هو ان ينام في الشارع. إلا إذا كان محظوظا كما كنت، واهتدي الى صديق طالب يملك غرفة يستضيف بها عشرة ضيوف آخرين، راضيا ان يكون هو الضيف الحادي عشر الذي ينام مفترشا البلاط ومتوسدا عتبة الباب كما حدث معي اكثر من مرة. اما الفرق التي لا تجد مكانا مناسبا للعرض فهي ترتجل الأماكن ارتجالا، ولولا ان الطقس في مثل هذا الشهر يناسب تقديم العروض في الأماكن المفتوحة لما استطاعت الأماكن المسقوفة في المدينة استيعاب معشار هذا العدد من العروض، وأحيانا أجد فرقة تقدم عرضا في ردهة خالية من ردهات فندق رخيص من فنادق البحارة، تفوح منه رائحة الاسماك الفاسدة، فأسأل نفسي لماذا يتعب هؤلاء الناس أنفسهم، ويتكبدون متاعب السفر ونفقاته للمجيء الى هذا المهرجان وتقديم عرضهم لمقاعد خالية في مثل هذه الاماكن القذرة، ولا جواب الا ان الحظ عاكسهم ولم يستجب لاحلامهم في الحصول على جمهور ومعلقين صحفيين واحيانا دعوات من مسارح تجارية او مؤسسات اعلامية لتقديم اعمالهم من خلالها لان اغلب لمشاركين هم من فرق الهواة، يستخدمون المهرجان كفترينة عرض، يقدمون من خلالها انفسهم للاوساط الفنية التي تعمل على سبيل الاحتراف، وهو ما يحدث لنسبة ضئيلة من العروض، ولذلك فان ارصفة المدينة وطرقاتها مفروشة بالاحلام المحبطة المجهضة.
هكذا كانت الصفة التي اذهب بها الى هذه المهرجانات، أي صفة المتفرج والمراقب. انه حال يشبه حال الأستاذ العقاد وهو يصف نفسه ماشيا في الميدان لحافل بالعربات والعجلات، متباهيا بحرية هذا المتفرج الذي لا يحمل اعباء اصحاب تلك المركبات وما يلاقونه من عنت شرطة المرور، قائلا في ختام قصيدته، انا راكب رجلي فلا أمر على ولا ضريبة الى ان حدث اخيرا ان ذهبت لواحد من هذه المهرجانات العالمية بصفة اكثر اثقالا واوزارا، هي صفة الفنان المشارك، فقد وجدت اثنا ء عملي رئيسا لبعثة بلادي السياسية في رومانيا مهرجانا عالميا للمسرح تنظمه هذه البلاد، وبين يدي نص مترجم الى الانجليزية كنت قد كتبته من وحي تجاربي في الميدان الأدبي عنوانه quot; صورة جانبية لكاتب لم يكتب شيئا quot; اراد اكثر من مخرج، وبينهم اصدقاء يحترفون هذه المهنة في بلاد عريقة في هذه الفنون، تقديم هذا النص مقترحين ان اقوم بتأدية دور الكاتب باعتباره دوري في الحياة من ناحية ومن ناحية أخرى فانني صاحب تجارب قديمة في التمثيل على المسرح، ولا احتاج الا الى اعادة شحن البطاريات، لتشغيل ملكة التمثيل لدي، وزادني تشجيعا ان ارى كاتبا كبيرا في بريطانيا هو ديفيد هير يتولى بنفسه اداء المسرحية التي كتبها من حي زيارة الى القدس، والقسيس الحائز على جائزة نوبل للسلام ديزموند توتو يشارك وهو في العقد التاسع من عمره بتمثيل دور صغير في مسرحية تحارب التفرقة العنصرية، في نيويورك، ولا يتأخر الكاتب المسرحي الحائز منذ عام مضى على جائزة نوبل هارولد بينتر، عن تلبية دعوات المخرجين للتمثيل في بعض مسرحياته، فتوكلت على الله واستعنت باثنين من هؤلاء المخرجين ليتولى احدهما الاشراف على الانتاج ويتولى الثاني الإخراج، واخبرت ادارة المهرجان باعتزامي تقديم المسرحية، التي رأيتها تخدم رسالتي الدبلوماسية فقد قدمت نفسي للقيادات السياسية في رومانيا بدءا من السيد رئيس الجمهورية الى وزير الخارجية ووزير الثقافة بانني سفير للثقافة العربية بما فيها من آداب وفنون، قبل سفارتي السياسية الدبلوماسية، ووجدت تشجيعا كبيرا من هذه الأوساط، ولم اكن طبعا على وعي بالجوانب العملية التي تقتضي حسما ودقة في تحديد متطلبات العرض وعناصره وجدول الوقت للتمارين حتى لحظة العرض، مما خلق شيئا من الإرباك وجعلني اشتبك في عراك مع ادارة المهرجان بسبب تفاوت بسيط في التوقيت، تركت هذه الادارة الفريق الذي معي يواجه مشكلة في الاقامة بالرغم من انه فريق صغير لا يزيد في مجمله عن اربعة اشخاص، واستاء، اعظم استياء، من ادارة تعمل باساليب اوروبية تجارية صارمة، ارغمتني ان اصيح في وجهها باقسى عبارات الاحتجاج مقارنا بينها وبين مهرجانات اعرفها تأنف وتستحي من مثل هذا الاسلوب، في مقدمتها مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة مختتما احتجاجي بكلمة :
ــ عمار يا مصر .
نعم، فقد حضرت اكثر من مرة ضيفا على مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، ورأيت المعاملة الكريمة والتسامح والبهاء والاريحية في معاملة الضيوف ويكفي ان اذكر موقفا واحدا للتدليل على هذه الروح، فقد تلقى الفنان سيد راضي الذي كان رئيسا للبيت الفني للمسرح
وتربطه بالمسرح الليبي امتن العلاقات بعد ان اشتغل مخرجا ومدربا لعناصره عدة سنوات، والدكتور فوزي فهمي رئيس المهرجان، موافقة ليبيا للمشاركة، ولكن وقت المهرجان ازف، ولم تخطرهما ليبيا بموعد المشاركة او تقوم باكمال أي شرط من شروط هذه المشاركة، فتم وضع البرنامح وتخصيص المسارح دون وجود لاية فرقة ليبية، الا انه قبل بدء المهرجان بيوم واحد، وليبيا مازالت خاضعة للحظر الجوي، وصلت حافلة تضم فريقا مسرحيا من ثلاثين عنصرا يريدون المشاركة، وبسرعة فائقة ثم تدبير اماكن لاقامة القادمين، واعادة طبع بعض اوراق البرنامج وتخصيص المسارح لاستيعاب هذه المشاركة، وكان من حق ادارة المهرجان ان تعتذر عن استقبالهم وادخالهم في البرنامح في هذه الوقت الذي تجاوز اللحظة الاخيرة وهذا العدد الذي يتجاوز عدد الفنانين
المسموح باستضافتهم باكثر من الضعف، ولم تمض سوى ساعات واذا بحافلة ثانية قادمة من ليبيا ومن مدينة اخرى هذه المرة تريد المشاركة، وفي تجاوز واضح لكل النظم المعمول بها في المهرجان، والتي تحتم رفض استقبال او استضافة هذه الفرقة، انبرى اهل الخير في وزارة الثقافة وادارة المهرجان، يعملون على تدبير الاقامة واعادة برمجة المسارح والاعلانات واستيعاب هذه المشاركة الاستثنائية، وقبل ان يحل الليل حلت حافلة ثالثة تضم فرقة ليبية اخرى تريد المشاركة هي ايضا، مما جعل سلطات المهرجان تستعين بالسفارة الليبية لان الفنادق لم يعد بها أي مكان لاستيعاب هذا العدد، الى ان تم بالتعاون بين السفارة وادارة المهرجان، تدبير مكان للاقامة ومكان للعرض ) وهذه امور تتكرر، ربما بشكل اقل تواترا واصغر حجما من هذه الحالة، ومع فرق تاتي في اللحظات الاخيرة، لتجد لدى الفنانين والمسرحيين المصريين هذه الاريحية وهذه الروح التي لا وجود لها في أي مهرجان اخر من هذه المهرجانات التي تمنح نفسها صفة العالمية، والمفارقة ان مهرجان سيبيو في رومانيا يسمي نفسه ثالث مهرجان في العالم بعد ادنبره وهو الاكبر حجما، ثم مهرجان افينون في فرنسا، ولعله تقييم صحيح من ناحية عدد العروض، او من ناحية اخرى تجيزها ظروف الحياة في المجتمعات الغربية هي اباحية بعض العروض وقد شاهدت في المهرجان الروماني عرضا تعبيريا راقصا يضم بعض المشاهد التمثيلية يقدمه مجموعة نساء ورجال في كامل عريهم، ورغم قولهم بان للعرض قيمة سياسية وانه يناهض القمع والتطهير العرقي والتفرقة العنصرية، الا انني لم استطع الاهتداء لهذه القيمة التي تحاول تغطية عرض لا غطاء له، وتضفي على العرض قيمة لا يملكها، فالكلمة الاولى في هذا العرض للاثارة، والتجارة والولع المرضي بالتقاليع الغريبة مثل مسرح العراة.
ولذلك فانني اقول بان مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، يبقى هو الاول، من ناحية روح التعاون والتسامح والاريحية وكل القيم النبيلة الجميلة التي يجب ان تسود هذه الاوساط الفنية الابداعية، لان المهرجانات الاخرى تعطي الاولوية للجانب التجاري الاعلاني الاستهلاكي، حيث يتحول الفن الى سلعة، ويتحول الفنان جسدا وروحا، الى مادة للبيع والشراء، بينما يعطي هذا المهرجان الاولوية للابداع ويضع التجارة في آخر القائمة . ولم يكن يرضيني بعد النجاح الساحق لهذه المشاركة التي قدمتها في مهرجان سيبو العالمي للمسرح، بشهادة النقاد والمتفرجين، واصداء العمل في الصحافة ووسائل الاعلام الجماهيري، ان تأتي باقات الزهور للتهنئة وتأتى كلمات الاعتذار من بعض أصحاب المهرجان لأنني رأيت فعلا غيابا مؤسفا لتلك القيم التي من اجلها ابتدعت الإنسانية الفن وتغليب الجوانب التجارية الاعلانية عليها، وهو ما يقضي على البراءة في هذه المهرجانات التي تشارك في تمويلها شركات الكوكاكولا ومطاعم الماكدونالد ومصانع التبغ، وهي البراءة التي رايتها في تمام صحتها وعافيتها في مهرجاناتنا العربية وفي مقدمتها مفخرة المهرجانات العربية العالمية مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، الذي أقول مع القائلين انه حان الوقت لان ينتقل من خانة التجريب، ليصبح مهرجانا للمسرح العالمي بكل ألوانه ومدارسه وان يترك للتجريب نصيب في المهرجان وليس كامل المهرجان، مع بالغ التقدير والاعتراف بفضل القائمين عليه.