ثلاثة أعوام مرّت على غياب إدوارد سعيد. ثلاثة أعوام فقط، ومع هذا، لم يتطرق له أحد، ذكْراً أو تذكيراً، في الساحة الإعلامية والثقافية الفلسطينية. غاب الرجل، وكأنه غاب منذ ثلاثين سنة لا ثلاث سنوات! ومع ذلك، فلا بأس. يمكن تخمين الأسباب: ففي فلسطين، هنا والآن، ما يكفيها من الهموم والمنغّصات، كي لا تلتفت لذكرى أبنائها العظماء. خاصة إذا كان هؤلاء، لا ينتمون لفصيل سياسي، وغير محسوبين على جماعة أيديولوجية أو دينية. وسعيد الكونيّ، كان بالطبع خارج هذه التوابيت، وفوقها جميعاً، كما يليق بأي مفكّر، عظيم أو متوسط القيمة.

سأكتب بمناسبة هذه الذكرى، شيئاً، كنت سمعته وكظمته مقهوراً وحزيناً في طوايا نفسي، شيئاً كنت أؤجله [ لأنّ الظرف غير مناسب ]، ولأنّ ثمة أموراً، يحتاج المرء لكي يكتب عنها، إلى قليل من الهدوء والاستقرار. على الأقل هكذا كنتُ أبرّر لنفسي، سكوتي عن شهادة حق! أما لماذا الإفصاح الآن، وفي هذا التوقيت تحديداً، فأنا مثلكم أظنّ أنه لن تأتي تلك الأوقات الهادئة والمستقرة، ومثل بعضكم، يؤنبني ضميري، ضمير المثقف الذي لا يليق به، أن يكتم شهادةً أياً تكن الأوهام أو الأسباب. لذا لا بد من إطراح ما في النفس، ولو متأخراً، وليكن ما يكون! من أجل أن يعرف القاصي والداني، كيف يتصرّف رجلُ السياسة الفلسطيني، مع المثقف المعارِض. حتى لو كان رجلُ السياسة هذا بلا سيادة وبلا سلطة حقيقية، وحتى لو كان المعارِضُ له في قيمة وقامة إدوارد سعيد، وفي حجم تأثيره الكوني، والعربي، والإنساني.
والقصة التي سأوردها للتوّ، سمعتها من الشاعر أحمد دحبور، في مكتبه بوزارة الثقافة بغزة، أكثر من مرة، وبحضور شهود. ولا أشكّ بمصداقيتها هذه المرة، أبداً. فأحمد ذكرها لي ولغيري، وهو جد حزين وقرفان من انحطاط مستوى سياسيينا وقادتنا وزعمائنا التاريخيين، أو على الأقل: هكذا خُيّل لي، أنا العديم الخبرة، وهو يتكلّم وأنا منصت كغيري.
قال أحمد، وكان أيامها مقرّباً من ياسر عرفات، إلى درجة أنه كان يكتب له بعض خطاباته، وبالذات الثقافي منها، بأن الزعيم، قال له، في أوج خلاف إدوارد معه، بمناسبة توقيع اتفاقية أوسلو، أنّ بإمكانه وبمقدوره، لو أراد، أن [يُرسل جماعة لإدوارد في أمريكا، فيقتلوه برصاصة، وينتهي الأمر ببساطة، ولكنه لا يريد]!
كان إدوارد أيامها، أكبر وأهمّ وأخطر معارض سياسي لياسر عرفات. إذ كانت كلمته مسموعة ومدوية في أرجاء العالم الأربعة، وفي أوساط جد مؤثرة، كالوسطين الإعلامي والثقافي. ولهذا السبب كان عرفات مغتاظاً منه، وكان يحاول بكل الطرق دون جدوى شراء ذمته، أو إسكاته قليلاً، فلما عجزت به سُبل شطارته المعهودة كلها في شراء ذمم المثقفين، صار يهاجمه شخصياً، ويصفه بصفات، هو قبل غيره، يعرف كذبها وبهتانها ومقدار تفاهتها بل وقاحتها!
أذكر أيامئذ، أن طبّالي عرفات من الصحافيين، شنّوا حملات تشويه مقذعة في حق سعيد، بل حملات مسعورة، ربما لم يسمع بها أحد خارج فلسطين، لرداءة الطبالين من جانب، ولأنّ الكل كان يعرف مدى ما يتمتعون به من رُخص كتابي وسلوكي.
إذاً، فقد كان ثمن إدوارد سعيد، رصاصة لا غير، حسب وجهة نظر أبي عمار.. يا للهول!
هذه هي القصة بتمام فحواها دون ذكْر التفاصيل. وأظنّ أن أبا عمار، بما هو معروف عنه من دهاء وبراغماتية القائد السياسي الثعلب، لم ينفّذ تهديده، لألف حساب وحساب، وإلا لكان فُضحَ وفُتحت عليه أبواب الجحيم.
هكذا هو حالنا مع قائد ثورة. لا قيمة للمثقف، إلا إذا باس القدم، وانضم للرَكب. فكيف لو كان الأمر يتعلّق برجل دولة مستقلة وغنية مثل صدام حسين!
إنها نفس العقلية، مع اختلاف بسيط أو معقّد في التفاصيل.
مات إدوارد [ هل أقول من حسن الحظ؟ ] بمرض السرطان، وليس اغتيالاً على يد زعيم سياسي.
وسواء كان كلام عرفات السابق تهديداً جدياً، أم لا، فليست هذه هي القصة. بل القصة بدلالاتها لا بمحتواها الحرفي. بدلالاتها المفجعة، إذ تصدر من قائد وزعيم شعب يعيش أكبر تراجيديا معاصرة في التاريخ، ثم يبين عن هذا المستوى!
قائد وزعيم ثوري، استطاع، بنُبل قضيته وبماله الكثير، أن يشتري ذمم العديد من المثقفين الفلسطينيين والعرب وأحياناً الأجانب.
لذا، ليس غريباً، في مكان كهذا وزمان كهذا، أن تمرّ ذكرى غياب سعيد الثالثة، دون أن ينتبه أحد إليها.
وأنا لا أستغرب. ففي سعيد من الكوني والعالمي والإنساني، أكبر مما فيه من الفلسطيني. مع أنّ الفلسطيني فيه، كان أبهى ما نملك وأعلى من كل انتماءات مثقفينا الفلسطينيين.
ثلاث سنوات يا إدوارد. ثلاث سنوات عبر النهر فيها ما عبر من طوفانات ومن تحوّلات ومن مصائب إضافية ما كنا نحلم بها.
ثلاث سنوات تغيّر فيها المشهد، لا في النوع وإنما في الدرجة. مزيد من الظلم لشعبك المحاصر. مزيد من افتراء البشرية معدومة الضمير والحسّ عليه. مزيد من انقسامه هو ذاته. فشعبك الفلسطيني اليوم، جزء كبير منه مستعد ليرفع السلاح في وجه جزئه الآخر. نصفا البرتقالة، بلغة المجاز، يكره أحدهما الآخر، أكثر من كراهيتهما لعدوهما.
حال مايل يا أبا وديع. حال تعجز عن وصف قبحه الكلمات. جوع يا أخي وحصار، حتى صار الواحد منا لا يعرف أين هي الحقيقة. فما بالك عن زبدتها، وأنت القائل، حين زيارتك لغزة، في الانتفاضة الأولى، إنك وجدت زبدة الحقيقة ها هنا في غزة!
غزة الآن يا أبا وديع حائرة وتائهة، مسلحة ومستنفرة، وكل واحد من سكانها، قاعد بالمرصاد للثاني.
وضع عجيب مريب غريب، فكيف لأمثالك أن يُذكروا فيه؟
كيف لواحد في قامتك، أن يُهتم به أصلاً، وهو خارج الزمان والمكان!

ليرحمك الله
وليغفر لنا.