تحفل العامية المصرية بثروة هائلة من التعبيرات والمصطلحات التي تختزل معان كبيرة بأقل كلمات ممكنة، كما دشنت العامية أيضاً مفردات لا نظير لها في الفصحى، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مفردة quot;المُحنquot; بضم الميم وتسكين الحاء، ولا صلة لهذه الكلمة بالمحنة ومشتقاتها، بل تعني الميوعة المفتعلة والرقاعة الفجة، خاصة حين تؤديها فتاة لعوب باحتراف يكاد ينطلي على خلق الله البسطاء وقدمت السينما المصرية عشرات المشاهد لهذا quot;المُحنquot;، كأن نرى مثلاً راقصة درجة ثانية أو فتاة ليل quot;تتقصعquot; أمام الضحية، وهو عادة ما يكون فتى نزقاً، أو ريفياً ساذجاً، وتعبث بجرأة في ياقة قميصه وتكور شفتيها بخلاعة في وضع استعداد لتلقي القبلة أو منحها، وتردد كلمات من طراز: quot;انت مابتحبنيش يا قاسيquot;، وهنا ينتفض صاحبنا المراهق بحكم السن أو النزوة وقد انتعش طرباً لينفي عن نفسه تهمة القسوة وأنه quot;مابيحبهاشquot;، وفوراً يرتكب كل ما تطلبه quot;الممحونةquot; صراحة أو تلميحاً من حماقات أو عطايا إرضاء لها.
ويبدو ـ والله أعلم ـ أن هذا السلوك لم يعد حكراً على فتيات الليل وراقصات الدرجة الثالثة، بل نازعتها فيه حكومة quot;الفكر الجديدquot;، إذ أطلقت كتيبة من الكتبة والساسة المحترفين ليمارسوا quot;المُحنquot; على الشعب المصري الصديق، صاحب الإرث الثقيل من العواطف، فهو شعب عاطفي بامتياز، يصغي للعواطف أكثر مما ينصت للعقل، ويصدق أي دمعة ولو سالت على خد التمساح، ويطرب لأقل إيماءة غزل، ولو كانت مفتعلة مشبعة بالادعاء، ولعل ما حدث قبيل حرب العراق ما يؤكد ذلك quot;المُحنquot; الحكومي، وهنا يجدر بالمرء أن يحمد ربه لأنه quot;عاش وشافquot; السيدين صفوت الشريف وجمال مبارك يقودان مظاهرة ضد أميركا، التي تريد انتهاك خصوصيتنا quot;حماها اللهquot;، وتفرض علينا quot;الشر بره وبعيدquot;، ما يسمى الديمقراطية، وحتى يكتمل المشهد العبثي الذي يستلهم مسرح اللامعقول، يخرج علينا الشيخ quot;شيخةquot;، ليفتي بحسم قائلاً: quot;حدثني قلبي عن ربي، أن الديمقراطية كفر بواحquot;، وهنا يقطب المصري quot;كريم العنصرينquot; حاجبيه ويفغر فاه وينسى كل همومه، لينقض على محدثه الذي يسخر من هذه المسرحية السخيفة قائلاً: quot;يا عم أمريكا عاوزة تحتلنا وتكفرناquot;، وحين يحاول محدثه لفت نظره لوجود جمال في المشهد تتدفق كلمات صاحبنا: quot;اللي نعرفه أحسن من اللي منعرفوش، ومالو جمال، ده شاب زي الفل وعينه مليانهquot;، ويتبع لكماته أو كلماته بالضربة القاضية متساءلاً باستنكار: quot;قل لي اسم واحد ينفع رئيس لمصر أحسن منه؟quot;.
وبالطبع فإن محدثه هنا سيؤثر السلامة ويبتلع لسانه ويضطر لتمرير الموقف حتى لا تنقلب الجلسة إلى موقعة، ويتدخل الرفاق لترطيب الجو بالقفشات والتعليقات، وكفى الله المصريين شر النقاش.
أما أحدث وقائع quot;المُحنquot; فحينما اجتمع رؤساء تحرير صحف الحكومة التي نصبتهم على عروشها، ليتباكوا على quot;قال أيهquot; مستقبل المهنة، دون أن يجرؤ أحدهم على النظر لنفسه في المرآة ليرى حجم الفراغ الذي يحاصره، فهم يعرفون قبل غيرهم أن قدراتهم المهنية آخر مؤهلات تبؤء مقاعدهم من السلطة، إن كانت ضمن تلك المؤهلات، وتكاد قلوبهم تنفطر لوعة وأسى على حال الصحافة وعدم احترام ميثاق الشرف quot;اللي أحلى منه مفيشquot;، بينما يعرف القاصي والداني أن هؤلاء أكثر من ينتهك هذا الميثاق طيب الله ثراه، سواء بتورطهم حتى النخاع في فساد أسلافهم الذين رشحوهم، أو في شن حملات الردح حين يراد استخدامهم كمخالب قط.
في الجانب الآخر من مشهد مصر العشوائية نرى كيانات من فرط هزالتها وهزلها باتت تثير السخرية أكثر مما تثير الغضب، وهي ما يسمى ـ تجاوزاً ـ بأحزاب المعارضة، فبعيداً عن أحزاب الطرابيش وتفسير الأحلام، فإن ما كنا نتصورها أحزاباً حقيقية غرقت جميعها في مستنقع الصراعات الداخلية بين ديكتاتورية رؤسائها وضعف وجودها بالشارع، وانعدام تواصلها مع الجماهير، فهناك مثلا ما حدث في حزب quot;الوفدquot; المعقل التاريخي لليبرالية المصرية، الذي شهد معارك بالرصاص لوضع اليد على مقره وصحيفته، إلى حزب بقايا منتفعي الانقلاب المشؤوم الذي صدعنا دراويشه بحديثهم عن الجماهير وانحيازهم إليها، بينما فشلوا في انتزاع مقعد واحد يوحد ربه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فيما تمكن الإخوان في ظل ذات الظروف من حصد نيف وثمانين مقعداً، وحتى حزب اليسار الذي يضم كوكبة من أفضل المثقفين، دخل بدوره نفق الصراعات المكتومة والمعلنة، وحرب المذكرات والمنشورات، وخيمت عليه ذهنية التنظيم السري مجدداً، ووقف رئيسه متحدياً قياداته من الصف الثاني، واستقال أحد أبرز كوادره ليلحق نصيبه من كعكة حزب السلطة.
هذا ناهيك عن أحزب الأنابيب الأخرى التي تشبه محلات بيع الروبابيكيا، من حزب يبشر بقنبلة نووية قبل أن يفكر في توفير الخبز للجياع والدواء للمرضى، لحزب تخصص في تأجير تراخيص صحفه، وصولاً لأحزاب تخصصت في التربح من بضاعة quot;الحنجوريquot; خارج حدود الوطن، حتى صارت قضايا الجيران أهم لديها من قضية البيت، الذي نخشى أن ينهار على رؤوسنا جميعاً.
قصارى القول إن الله إذا أراد بأمة شراً، جعل معارضيها أسوأ من حكامها .
والله غالب على أمره

[email protected]