بعد مرور أكثر من ثلاثة أعوام على حرية العراق وتخلص شعبه من نظام البعث المتخلف المستبد العدواني، و التطورات الدولية الكبرى التي حدثت في العالم و نقلته لآفاق رحبة مختلفة بالكامل عن كل حقب و مراحل التاريخ الماضية قد أسست لمراحل تغيير دولية هائلة، فهل حقق الشعب العراقي حلمه؟ بل هل لامس مشارف الآمال والتطلعات والأحلام التي كان يحلم بها الأحرار من طلائعه المجاهدة والمناضلة من أجل قيام عراق جديد على أنقاض الفاشية و الدمار وحكم الفرد والعشيرة والطائفة، والتخلص من أوزار التاريخ وعقده الثقيلة الموجعة التي تكبل الذاكرة والإرادة الجمعية للعراقيين؟، ما حصل للأسف هو العكس تماما، حيث فشل العراقيون فشلا ذريعا في التعاطي مع الحالات التي حصلت لشعوب عديدة إستثمرت هزيمة أنظمتها العسكرية والوجودية في تحقيق إنجازات و تطلعات تجاوزت بها و بمراحل حتى الأطراف التي هزمتها!، وانطلقت من جديد بهمة وعزيمة لا تعرف الكلل ولا إحباطات اليأس والهزائم لتبني و تؤسس لمرحلة جديدة، ولم تتكرر تجارب تلك الشعوب في العراق لأسباب عدة لعل أهمها غياب الروح الوطنية الجامعة، ونجاح النظام البعثي البائد في تفتيت كل عناصر الوحدة الوطنية وزرع الشقاق الذي ساعده تمركز النفاق المجتمعي المتأصل في إفشال التجربة العراقية، إضافة للغياب المريع لقيادة شعبية عراقية جامعة بإستطاعتها لم الشتات وتعديل الصورة ومن ثم الخروج بموقف شعبي موحد !، فما يعيش في عراق اليوم للأسف ليس شعبا عراقيا بل شعوبا عراقية متطاحنة ومتصارعة تحركها قيادات هشة وبعضها غريب كل الغرابة عن العراق! وتغلغلت أمراض العشائرية و الطائفية المريضة المسعورة لتزيد الطين بلة وهي الطائفية بشكلها التدميري الأهوج الذي يمثله الفكر السلفي التخريبي التكفيري المتطرف الذي شجعه النظام البعثي البائد في أخريات أيامه عبر ما كان يسمى بالحملة الإيمانية التي أطلقها البائد صدام عام 1994 والتي كان من نتيجتها تحول مئات الآلاف من البعثيين المسعورين لعناصر تكفيرية حاقدة ومتخلفة تتعاون حثيثا مع إمتداداتها خارج الحدود في التخريب والتدمير ورفع الشعارات الطائفية التخريبية الممزقة لكل أنسجة الوحدة الوطنية وخلاياها الحية!، نفس الوضع المأساوي يعانيه شيعة العراق من العرب الذين إنتشرت بين صفوف غالبيتهم الفقيرة الأفكار الخرافية والظلامية التي عزف على إيقاعاتها زمر من المهرجين و المعممين الذين تدربوا طويلا في أروقة المخابرات الإيرانية و السورية للدور المنشود ومن الذين يحاولون فصل العراق بكل إنتماءاته الحضارية والتاريخية عن محيطه وسلخه عن هويته بإتجاه ( التفريس ) وإعتبار ( الفرس) من القوميات العراقية!! و الهيمنة على مقدرات وأمور فقراء العراق من الشيعة وتحويلهم لعبيد مسخرين ولتابعين أغبياء يهللون ويسبحون بحمد الولي الفقيه، و يعودون بالبلاد والعباد لعصر الفتنة الكبرى! ويحكمون من خلال الروايات الشعبية والملاحم والفتن وبقية الخرافات المهدوية التي يطلقها المعتوه ( مقتدى الصدر) التي ستجهز على كل مكتسبات حرية الشعب العراقي التي تحققت بالصبر والدماء والدموع، ولعل مأساة الشعب العراقي في الجنوب العراقي تفصح تحديدا عن طبيعة الصورة المستقبلية التي يراد لها أن تعمم في العراق؟، فمنذ إنهيار وتلاشي النظام البعثي البائد فشلت الجهود في ( تبليط ) كيلومتر واحد من الشوارع الخربة، ولم تشهد البلاد بناء عمارة واحدة! وتحولت الخدمات الصحية والكهربائية لأحلام العصافير!! ولم تزدد سوى الرايات السوداء والخضراء وصور العمائم المقدسة كبديل عن صور الطاغية الغبي البائد صدام حسين!، وصادر أهل التدين والتطيف والتخلف الجديد كل صور ومعاني الحياة الحرة، وضايقوا الطلبة والشباب وأصدروا فرمانات التحليل والتحريم وشيدوا على أرض الواقع جمهورياتهم الظلامية والطائفية ومارسوا أبشع صنوف القهر والإستبداد متسلحين بخطابهم الديني والطائفي البائس، مع ما رافق ذلك من زيادة مفرطة للإرهاب والتعدي على حرمات الناس بعد أن تمكنوا كأسلافهم النازيين وبإسم الديمقراطية الموعودة للتسلل و الجثم على صدور العالمين!. اليوم وصل الوضع في بغداد حدود الكارثة بعد إشتباكات جيوش ( المهدي ) ضد ( جيوش عمر )!! وإستمرار حالة النزوح والتطهير الطائفي التي إكتوى بنارها فقراء الشيعة والسنة من الذين لا حول لهم ولا قوة أمام صراع العمامة والسدارة وصراخ وعويل رؤساء العصابات الطائفية التي أوصلت البلاد والعباد لأسوأ حال و أبشع مصير وفي صراعات تهدد بتفتيت العراق بالكامل.

في مدينة ( البصرة ) عاصمة الجنوب العراقي والهدف المحوري والستراتيجي التي تعمل جماعات التطيف والتدين الإيراني المتخلف للسيطرة عليه شهدت الأوضاع الداخلية رعبا صامتا و مريعا تمثل في نشاط ماكنة الإعتيالات والتصفيات الجسدية بل وحتى التطهير الديني والطائفي، وقد سجلت طبقا لأرقام رسمية في المحافظة أكثر من 1040 حادثة قتل وتصفية جسدية ضد مجهول!! رغم أن ذلك المجهول هو معلوم للجميع ولكل البصريين إلا لأنظار الحكومة المحروسة والرشيدة التي تركت الحبل على الغارب للأحزاب الدينية والطائفية لكي تستفرد بالعباد وتمارس إرهابها الطائفي والديني و( حتى ظهور المهدي )!!، وليس سرا القول بإن تلك الإغتيالات التي أريد لها في البداية أن تشمل البعثيين السابقين وبعض الزعامات والقيادات من المسيحيين أو الطائفة السنية قد خرجت عن السيطرة لتشمل رؤساء العشائر وبعض الشخصيات الأكاديمية والعامة!!، فوحش العنف والدم والإنفلات لا يمكن السيطرة على جماحه، وليس سرا القول أن جانبا كبيرا من الإغتيالات المنظمة يقف خلفها تنظيم سري داخل جهاز إستخبارات الشرطة ذاتها!! وحيث تم إستنساخ أساليب النظام البعثي ذاته عبر الإستعانة بالمجرمين والقتلة وتجنيدهم في أجهزة الأمن والشرطة!! وحكاية ( أبو صادق ) الشقي السابق وسائق التاكسي الذي أعطيت له رتبة نقيب في شرطة البصرة ليمارس الإغتيال العلني معروفة للشارع البصري!! هذا غير المليشيات المسلحة والإرهابية لعناصر جيش المهدي المتخلف ( تيار مقتدى المعتوه ) وعصابات الصفويين الجدد في ( سيد الشهداء ) التي يقودها متخلف يدعى ( داغر الموسوي) و ( حزب الله الإيراني / الطبعة العراقية ) و ( ثأر الله ) و( حزب الفضيلة الذي يطلق عليه البصريون تندرا ( الرذيلة )! )، و( منتدى الولاية ) والفضلاء والحوزة الرشيدة وغيرها العشرات من التنظيمات والعصابات الدينية الطائفية بأشكالها المتخلفة والتي يروم البصريون ليوم الخلاص منها ومن آثامها و جرائمها والتي تهدد ممارساتها بتلويث ليس العراق فقط بل عموم الإقليم الخليجي، و ما لم ينظف الجنوب العراقي من فيروسات تلك الجماعات فإن مستقبل المنطقة ككل سيعيش على كف عفريت وأحسب أن الحكومة العراقية الراهنة بشكلها وتوجهاتها الحالية لا يمكن أن تحقق أي نتائج إيجابية، فما زال بوم الخراب ينعق فوق بقاع العراق، وما زالت التطلعات الشعبية العراقية نحو الحرية مشروعة، و ما زال طلائع الأحرار في العراق يراهنون على الزمن في تحقيق تطلعاتهم الحرة المشروعة في قيام عراق حضاري مؤسساتي جديد، فكم من عواصف الصحراء يحتاجها العراق لتتطهر أرضه من المجرمين وفيروسات التاريخ وأشباح عصر الفتنة الكبرى؟ كل الخطط الأمنية المعلنة كان مصيرها الفشل للأسف؟ وكل التعهدات الرسمية بالتحقيق في الجرائم التي قام بها جيش المهدي مثلا في الديوانية ضد الجيش العراقي ذاته ذهبت أدراج الرياح، وإختلاطات المشهد العراقي المريض وتفاعلاته قد خرجت عن السيطرة في ظل الجولات القتالية القادمة حتما بين قوات التحالف الدولية والميليشيات الظلامية والحرب الأهلية لم تعد مجرد شبح وسيف مسلط على الرقاب بل أنها حقيقة ميدانية ! فما يطرح من مشاريع فيدرالية طائفية أو تقسيمات للمصالح والنفوذ لا يمثل إلا جانبا من جوانب التخندق الشامل لخوض غمار تلك الحرب التي ستمزق العراق وتحيله لهشيم ودول المنطقة تدرك جيدا ما يدور والإستعدادات قائمة لتسييج وتحصين بلدان الجوار من فايروس الحرب الأهلية المدمر، فهل يستطيع العقلاء في العراق تدارك الموقف قبل أن ينفلت الزمام وتقام دول الطوائف والعشائر العراقية المتصارعة؟... إنه الرهان الأكبر للعراقيين.

[email protected]