لا يكاد (الشارع الإسلامي) يهدأ من هيجانه الهستيري احتجاجاً على (رسوم كاريكاتيرية) لرموز اسلامية نشرتها صحيفة دانمركية في ايلول عام 2005 اعتبرها الكثير من المسلمين مسيئة للإسلام وقبلها على قضية منع (الحكومة الفرنسية) ارتداء الرموز الدينية من بينها (الحجاب الإسلامي) في المدارس والمؤسسات العامة، حتى بدأ يثور وينتفض هذا الشارع غضباً واحتجاجاً بالعويل والصراخ الهستيري مجدداً، هذه المرة على ما جاء في محاضرة ألقاها بابا الفاتيكان (بينيديكدتوس) في الثاني عشر من ايلول الحالي في إحدى الجامعات الألمانية حول (العلاقة بين الإيمان والعقل)،تطرق فيها الى(الجهاد) ومفهوم العقل والإيمان في الإسلام.ذلك عندما أورد في سياق محاضرته حواراً دار بين امبراطور بيزنطي مسيحي(عمانوئيل الثاني) ومفكر فارسي (مسلم) في نهاية القرن الرابع عشر ميلادي،حول حقيقة الإيمانين،المسيحي والإسلامي، جاء فيه:(( قل لي ما هو الجديد الذي أتى به محمد، إنك لن تجد سوى أشياء شريرة ولا إنسانية، مثل الأمر بنشر الإيمان الذي بشر به بحد السيف. وأضاف البابا نقلاً عن الإمبراطور:أن العنف لا يتوافق مع طبيعة الله ،فالله لا يسر بالدماء)).بالرغم من أن البابا(بنديكدتوس) أكد أكثر من مرة على أنه لم يكن في نيته الإساءة للإسلام والمسلمين وما أورده لا يعبر عن رأيه وقناعته بالإسلام وأنه متأسف جداً عما سببه كلامه من جرح لمشاعرهم، لكن مع هذا لم يهدأ الشارع الإسلامي الغاضب الهائج. وأن كنت أميل الى الرأي القائل: بأن البابا كان مدركاً تماماً لما قاله واستشهد به في هذا المناخ العالمي المتوتر على خلفية تأزم العلاقة بين الغرب والإسلام.لكن من خلال متابعتي لتفاعلات هذه القضية أستطيع القول: بأن الذي حرض (الشارع الإسلامي) ليس ما جاء في محاضرة البابا عن الإسلام،بقدر ما تحرك تحت تأثير ضغط الشعارات والخطابات القومية والدينية التحريضية على العنف والقتل والإرهاب التي حقن بها،من هذه الشعارات:(الإسلام سوف يفتح روما قريباً، دق رقاب الكفرة وفرض الجزية عليهم وغنيمة أموالهم وسبي ذراريهم ).كذلك بتأثير ثقافة الكره والحقد السائدة في المجتمعات العربية والإسلامية إزاء أتباع الديانات الأخرى التي يروج لها الإسلام السياسي والقومي المتطرف والجماعات التكفيرية وكل من يعادي أمريكا والغرب الأوربي لأسباب آيديولوجية وعقائدية. كما لعبت العديد من وسائل الإعلام العربية والإسلامية دوراً سيئاً جداً في هذا المضمار، في مقدمتها (فضائية الجزيرة) القطرية بالتعاون والتنسيق مع فضيلة شيخها الجليل(يوسف القرضاوي) رئيس هيئة اتحاد علماء المسلمين.حيث ضخمت (فضائية الجزيرة) الموضوع بتركيزها بشكل يومي على محاضرة البابا واستضافة العناصر المتطرفة للتعليق عليها والتركيز على أخطاء وسلبيات السياسات الغربية في المنطقة ووصفها بحروب صليبية جديدة، وإيهام الرأي العام العربي والإسلامي بوجود (مؤامرة أمريكية صهيونية) ضد العرب و الإسلام والمسلمين،بدأت في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان.
هذه الخطب والشعارات المخيفة والمرعبة والثقافة المقيتة بدأت تزيد من قلق وتوجس المسيحيين المشرقين على أمنهم واستقرارهم ومستقبلهم في موطنهم الأصلي ومهد ديانتهم وحضارتهم.وما يزيد من قلق والخطر المحدق بالمسيحيين المشرقيين هو سكوت حكومات دول المنطقة وصمتها على التعديات والتجاوزات التي يتعرضون لها على أيدي الجماعات الإسلامية،إذ أن مطاردة هذه الحكومات لزعماء التنظيمات الإسلامية المتطرفة ليس بسبب عقيدتها التكفيرية واستباحتها لدماء المسيحيين، وإنما هي تتم لحسابات سياسية خاصة بالأنظمة تتعلق بالصراع على السلطة. هذا الخطاب الإسلامي التحريضي، من دون شك، سيلقي بظلاله على علاقة المسيحيين مع مسلمي الدول العربية والإسلامية، و سيترك آثار ومضاعفات سلبية وخطيرة على هذه العلاقة،خاصة في الدول والمناطق التي تشهد اضطرابات أمنية وتوترات طائفية،مثل لبنان ومصر وأفغانستان والعراق الذي دخل في
حرب طائفية وعرقية بغيضة نظر لها فقهاء الإرهاب الموت حيث الذبح والفتل الجماعي على الهوية. فقد كان الأولى بهؤلاء الحريصين على الإسلام والمسلمين أن يلتفتوا الى (محنة العراق) التي لم يشهد التاريخ البشري مثيل لها والعمل من أجل إنقاذ مسلميه، ولا أقول مسيحييه،بدلاً من إطلاق صفارات الإنذار في (الفضاء الإسلامي) كلما وجه شخص كلمة انتقاد للإسلام.لا جدال على أن من حق كل إنسان أن يشجب ويستنكر كل سلوك وفعل مادي أو معنوي يسيء له أو لأحد رموزه، لكن المشكلة هي في اسلوب وطريقة التعبير والشجب.إذ كثيراً ما يساء استخدام هذا الحق وبالتالي ينقلب في غير صالح صاحبه،كما حصل ويحصل من فوضى وفلتان وتجاوزات في بعض المظاهرات والاحتجاجات الإسلامية التي تخللتها أعمال عنف وتفجير وحرق لعديد من الكنائس وهي تعج بالمصلين أوقعت العشرات بين قتيل وجريح في العراق وقتل راهبة في الصومال والتعدي على كنائس في فلسطين وبلدان اسلامية أخرى،فمثل هذه الأعمال الإرهابية والغير مبررة هي من دون شك أساءت للإسلام أكثر مما دافعت عنه،حتى أكثر من إساءات البابا ذاتها إذا كان ثمة إساءة.كما أنها تزيد من شكوك الآخرين بقدرة (الدين الإسلامي) على الدفاع عن نفسه بالحجة المنطقية والعقلية وعجزه عن رد الفكر بالفكر وهي تعزز التهم المنسوبة اليه(التعصب ،العنف ،التطرف ،الإرهاب)، خاصة وأن هذه الأعمال الإرهابية لا تقابل باحتجاج جدي وحاسم من قبل المرجعيات الإسلامية العليا. وفي هذا السياق أعتقد بأن نقد بابا الفاتيكان المبطن لـ(الجهاد الإسلامي) في محاضرته، جاء رداً على الفتاوى الإسلامية التي يطلقها بعض رجال دين مسلمين متشددين و قادة (تنظيم القاعدة) الإسلامي المتطرف( بن لادن والظواهري) وغيرهم من الجماعات الإسلامية،وتهديداتهم المستمرة للغرب الأمريكي الأوربي ولكل من يتحالف معهم من العرب المسلمين بمزيد من التفجيرات الإرهابية والعمليات الانتحارية كتلك التي وقعت في نيويورك ولندن ومدريد وعمان وشرم الشيخ وأماكن أخرى من العالم. وقد وصف كاتب(ميرا الكعبي) في صحيفة الوطن السعودية بأن ما يحصل هو(توحيش) للخطاب الإسلامي من قبل بعض الإسلاميين وطالب الكاتب المعنيين في الدول العربية والإسلامية ومرجعياتهم الدينية بوضع رقابة على الخطاب الديني حتى لا يترك الباب مفتوحاً للتجاوزات والفوضى لمن يريد أن يستغل الدين لمقاصد وغايات خاصة مغرضة.كما سارع العديد من المثقفين والنخب العربية والإسلامية للمطالبة بمراجعة نقدية هادئة للخطاب الإسلامي وعقلنة هذا الخطاب على ضوء قيم العالم المعاصر والمتحضر وبما ينسجم ويتوافق مع حاجات الإنسان المسلم ومصالحه وقضاياه الحيوية.
واللافت في القضية المثارة حول محاضرة بابا الفاتيكان (بنديكدتوس) هو دعوة العديد من علماء وعقلاء المسلمين..أمثال: العلامة المفتي (علي الأمين) الى قراءة هادئة ومتأنية لما جاء في محاضرة البابا بعيداً عن الانفعالات والمواقف المسبقة وعن الخلفيات والحساسيات الدينية.في حين نجد في الأوساط المسيحية المشرقية،المدنية والدينية،
من زايد على المتشددين الإسلاميين في هذه القضية، خوفاً وتودداً،أبرز هؤلاء المزايدون بطريرك (الكنيسة السريانية الأرثوذكسية)،مقرها العاصمة السورية دمشق، ( زكا عيواص الأول)الذي أصدر بياناً حول محاضرة البابا خلا
من أي إشارة أو إدانة وشجب للتعديات الإرهابية على العديد من الكنائس في دول عربية وإسلامية وقتل مسيحيين أبرياء في العراق و راهبة في الصومال على خلفية هذه المحاضرة،ومن غير أن يطالب البطريرك في بيانه المرجعيات الإسلامية بالتبرؤ من هذه الأعمال الإرهابية التي تقوم بها جماعات إسلامية متطرفة باسم الإسلام،كما كان منتظراً منه. وعوضاً عن ذلك طالب البطريرك زكا في بيانه من (بابا الفاتيكان): ((أن يبرئ المسيحية من أعمال مثيري الحروب في فلسطين والعراق ولبنان وأفغانستان وعلى مقترفي الجرائم ضد الشعوب- في إشارة منه الى أمريكا وحلفائها الأوربيين- و أن يتحملوا مسؤولية أعمالهم فالمسيحية براءة منهم ومن أعمالهم المعادية لأعمال الشعوب))،وكأن هؤلاء الأمريكان والأوربيون)أدعوا بأنهم يحاربون باسم (المسيحية) حتى يتبرأ البابا منهم.يبدو أن البطريرك زكا يجهل أو يتجاهل بأنهم(الأمريكان والأوربيون) يتصرفون كما تقتضي مصالح دولهم وشعوبهم حتى لو تعارضت هذه المصالح مع مبادئ وأخلاق المسيحية ذاتها.المتتبع لمواقف وتصريحات البطريرك زكا في السنوات الأخيرة لم يتفاجأ ببيانه المشئوم هذا،فقد سبق له وفي أكثر من مناسبة تخلى عن انتمائه القومي (السرياني/الآشوري) وطالب برفع راية العروبة عالياً،ذلك تودداً للعرب واسترضاءً للحكام، لهذا علينا أن لا نتفاجأ إذا ما تخلى البطريرك زكا يوماً عن مسيحيته وطالب رعيته برفع (راية الإسلام) عالياً، أو حتى باعتناق (الإسلام) حرصاً منه على مشاعر المسلمين واسترضاءً لفقهاء الإرهاب والموت.
بلا ريب،معظم الديانات والعقائد الفضائية والأرضية، بما فيها المسيحية، ارتبطت في مراحل تاريخية معينة بالعنف والتطرف والتشدد. و بفضل عصر التنوير العالمي وتفتح العقل البشري وتقدم العلوم الإنسانية والتحضر الأخلاقي للإنسان تخلص غالبية أتباع ومعتنقي هذه الديانات والعقائد من آفة التطرف والتعصب وكره الآخر. لكن يبدو أن في (الإسلام) بقيت شرائح وأوساط مهمة وقوية لا يطيب لها أن ترتقي البشرية وتتآخى دياناتها وعقائدها وتتعايش شعوبها وأن تتساوى على الأرض أمام القانون كما في الفضاء أمام الله. يستند هؤلاء الرافضون في (رفضهم الإلهي) الى نصوص وآيات قرآنية و أحاديث سنية وفقهية.فهم لا يرون خلاصاً للمسلمين والبشرية جمعاء إلا بإقامة (الدولة الإسلامية- الإلهية الفاضلة) التي أوصى الله بها بحسب زعمهم والاحتفال بـ(النصر الإلهي)بأسلمة العالم- على طريقة احتفال (حزب الله) في لبنان بـ(النصر الإلهي) في (حرب إلهية) مع اسرائيل- مما يعني دوام واستمرار التوتر والاضطراب بين البشر في (العالم السفلي)،كما بين الآلهة في (العالم العلوي).

سوري آشوري مهتم بحقوق الأقليات
[email protected]