أثار مقالي يوم الثلاثاء الماضي عن quot;الدولة الفلسطينية المستحيلةquot;، عدة ردود فعل عنيفة لدى القراء المتابعين لما نكتب. فالشكر لهم جميعاً منصفين وظالمين، موضوعيين وعاطفيين، عقلانيين ومزعبرين. وكانت ردود الفعل العاطفية للأسف الشديد - في معظمها - ردوداً متشنجة، من جرّاء ما يبثه الإعلام العربي ليلاً ونهاراً من سيناريوهات سياسية خيالية، يُراد منها ndash; سواء قصد أم لم يقصد - القضاء على ما تبقى من الشعب الفلسطيني، ومصادرة ما تبقى من أشلاء فلسطين.
وردي على بعض ما جاء في ردود بعض القراء الجادين ليس دفاعاً عما طرحته في المقال السابق، وليس احتفاءً بردود معظم القراء التي اتسمت بأخطاء تاريخية فادحة وبأخطاء لغوية ونحوية وإملائية مخزية، تدلُّ على أن اللغة العربية في تدهور مستمر، وأن اليوم الذي لن نقرأ فيه سطراً واحداً سليماً وخالياً من الأخطاء ليس ببعيد عنا. وهذا كله إن دلَّ على شيء فانما يدلُّ على نوعية وطبيعة الشارع والرأي العام العربي الذي نكتب له ونخاطبه. وهو الشارع الذي يُساق اليوم سوق الأنعام، إما بالعصا، وإما بالطبلة.

العلاقة الأردنية - الفلسطينية
أول هذه الردود جاء من الأردن. وقال قاطعاً جازماً، أن 99 بالمائة من الأردنيين يرفضون الوحدة أو الاتحاد مع الضفة الغربية. ولا أدري من أين جِيء بهذه النسبة العربية المعهودة، وهذا الرقم العربي العتيد. فالأردن الذي جاهد لكي يوحّد بين الضفة الغربية والشرقية في 1950 هو الأردن نفسه الذي ينتظر بفارغ الصبر أن تعود الضفة الغربية اليه من جديد. فالشعور الذي كان سائداً بعد 1948 من أن اسرائيل سوف تبتلع الضفة الغربية في ظل واقع الفراغ الذي فيه ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، ما لم يقم الأردن بضمها اليه، هو الشعور نفسه القائم الآن في الأوساط السياسية الأردنية والفلسطينية وبعض الأوساط العربية المهتمة بالقضية الفلسطينية، بعد أن ملأت اسرائيل الضفة الغربية منذ 1967 إلى الآن بالمستعمرات المنتشرة، انتشار الفِطر في البرية.
ويشير تقرير صدر عن quot;مركز الدراسات الاستراتيجيةquot; في الجامعة الأردنية عام 1995 عن العلاقات الأردنية ndash; الفلسطينية من أن quot;العلاقة الأردنية - الفلسطينية تميزت بالوحدة الاجتماعية رغم التباينات الثقافية التي كانت تمليها أنماط الحياة المختلفة، ولم يكن القطاعان الكبيران من السكان في دولة الوحدة في مواجهة بعضهما البعض، بل كان الانصهار بينهما عالياً. وكانت الأفكار السياسية والاجتماعية الموحدة تؤطر المواطنين في الضفتين، فيما كانت علاقات المعارضة والتحالف السياسي تُبنى في الغالب على أسس أيديولوجية، حيث لم تلعب الأسس الجهوية، أو العشائرية، أو الإقليمية الدور الذي تلعبه الآنquot;. وفيما لو قامت الوحدة من جديد بين الأردن والضفة الغربية كما كانت قبل عام 1967 فيتوجب على الأردنيين محو مخاوف الفلسطينيين التي تتركز في تعيين من هم من أصل أردني فقط في القطاع العام، وعدم تمثيل المواطنين من أصل فلسطيني في الحكومة والبرلمان بما يتناسب وأعدادهم داخل المملكة، وحصر الوظائف الحساسة بين المواطنين من أصل أردني، ومحاباة الجهاز الحكومي للمواطنين من أصل أردني في مختلف المعاملات. وكذلك محو مخاوف الأردنيين التي تتركز في سيطرة الفلسطينيين على قطاع الأعمال الخاصة. وتخوّف المواطنين من أصل أردني من الأعداد المتزايدة للمواطنين من أصل فلسطيني، وازدواجية الولاء لدى المواطنين من أصل فلسطيني، وعدم تقدير المواطنين من أصل فلسطيني للفوائد التي حصلوا عليها نتيجة انتمائهم للأردن. فإذا ما انتفت هذه المخاوف من قبل الطرفين وتساوى كافة المواطنين بغض النظر عن أصلهم، فستكون هناك وحدة سياسية عربية نموذجية تُحتذى كما كان عليه الوضع قبل 1967. أما تشبيه هذه الأفكار بأفكار شارون عن quot;الترانسفيرquot;، فـ quot;الترانسفير quot; كان تهجير السكان فقط دون ضم الأرض. وهذا هو الفارق الكبير. وأما مشكلة عودة اللاجئين، فيمكن استيعاب جزء منهم في الأردن، وجزء في الضفة الغربية، وجزء في غزة، وهناك جزء كبير في الخليج وأوربا وأمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية واستراليا وكندا لا يريد العودة، كما هو معروف.

معوقات الانصهار بين الطرفين
ويقول تقرير quot;مركز الدراسات الاستراتيجيةquot; المذكور، أنه quot;بغض النظر عن المعوقات التي قد تظهر أثناء البحث والتحليل في العلاقة الأردنية ndash; الفلسطينية، فإن هذه العلاقة تتعرض اليوم لعدد من المعوقات والتخوّفات التي تعيق الانصهار بين الطرفين. فالأردنيون في داخل الأردن يتخوّفون من التزايد العددي للسكان الفلسطينيين، وبالتالي تحويل الأردن إلى فلسطين أو امتداد لها. وهذا التخوّف ليس معتمداً على الزيادة الطبيعية في السكان فقط، بل من أن تتزايد أعداد الفلسطينيين بناء على توقّع هجرات كبرى قد يتعرض لها الفلسطينيون بحكم ظروف موضوعية إقليمية. وبالنتيجة النهائية قد تحوّل هذه الهجرات الأردنيين لمجرد أقلية في الأردن، وقد يُسهّل هذا تكريس فكرة الوطن البديل، مع ما يتمتع به الفلسطينيون من حقوق مدنية وسياسية. ويتعمّق التخوّف من العنصر السكاني، ويصبح عائقاً أمام الوحدة الوطنية إثر الإصرار على التمسك بالهوية الفلسطينية في الأردن، ويعتبر موضوع الهوية من أكثر الموضوعات تعقيداً وإشكالية في البلد. فليس هناك موقف واحد تجاه الهوية الوطنية. فهنالك من يطالب بأن تذوب هذه الهوية الفلسطينية بالهوية الوطنية الأردنية. وهنالك من يطالب وبشدة بالحفاظ على الهوية الفلسطينية ورموزها المختلفة، كشكل من أشكال مقاومة مشروع التصفية والتذويب الإسرائيليquot;. ولكن هذه المخاوف سوف تتلاشى في الوضع النهائي للعلاقة الأردنية- الفلسطينية، حيث لن يعود هاجس مشروع التصفية والتذويب الإسرائيلي قائماً.

quot;اسراطينquot; ليس حلاً
ويقترح أحد القراء حلاً آخر، وهو إقامة دولة يهودية ndash; فلسطينية مشتركة (اسراطين) . وهو ما سبق وطرحه العقيد القذافي. وهو حل مستبعد في رأيه. فلا اسرائيل تقبل به ولا يقبل به الفلسطينيون كذلك، حيث لا ثقة متبادلة بين الطرفين، ويقول القاريء : quot;الدولة الفلسطينية مستحيلة في ظل العقلية الفلسطينية الحالية. وهنالك حل هو التنازل عن حلم الدولة الفلسطينية والقبول بالعيش في دولة واحدة من البحر إلى النهر ضمن دولة إسرائيلية ديموقراطيةquot;.
ولكن القارئ نفسه يشك في تحقيق ذلك، ويرى أن الحل الأفضل هو قيام كونفدرالية فلسطينية ndash; أردنية، ويقول: quot;إسرائيل لا يمكن أن تقبل هذا الحل لأنّه يهدد بشكل محقق الهوية اليهودية للدولة، ويقطع أي تبرير للدعم الأمريكي والأوروبي. فالغرب لا يمكن أن يدعم حكومة إسرائيل ضد مواطنيها. بل العكس سيضغط باتجاه الديموقراطية ولو لحفظ ماء وجهه. استحالة هذا الحل واستحالة حل الدولة يجعل الكونفدرالية مع الأردن أحسن حلquot; .
ولكن بعض الأردنيين يتخوفون من الوحدة الفلسطينية - الأردنية، ويقول أحدهم رافضاً هذه الوحدة بشدة وحنق : quot; حقاً إن ما ينقص الاردن حالياً هو أن تأتي ميليشات حماس وفوضويو فتح ليقيموا بيننا، وأن ينتشر فساد السلطة والحرامية عندنا. لقد رضينا بإخواننا الفلسطينيين الذين لجأوا الينا كمواطنين أعزاء أهلاً وأنسباء. ولكن للأسف لا تستوعب بلادنا آخرين ، فلا بترولاً ولا ماءً ولا أرضاً ليعمروهاquot;.

رهائن الوعود الكاذبة
ويبدو أننا جميعاً إلى الآن، ما زلنا رهائن الوعود العربية والغربية على السواء.
فكم من وعدٍ كاذبٍ من زعيم عربي تلقيناه يَعدُ فيه بتحرير فلسطين واقامة الدولة الفلسطينية، ولم يتحقق؟
وكم من مؤتمر قمة عربي عُقد، منذ أول مؤتمر قمة عربي في 1964 بالقاهرة، وعد باقامة الدولة الفلسطينية، ولم يُنجز؟
وكم من مبادرة سلام طُرحت من الشرق والغرب، ومن العرب والعجم، تنادي باقامة الدولة الفلسطينية، ولم تصدق؟
وكم من خطبة وعدٍ عصماء أُلقيت من على منبر الأمم المتحدة من قبل رؤساء الدول ووزراء الخارجية في أوروبا وأمريكا، وآخرها خطبة الرئيس بوش الأخيرة في الأمم المتحدة في 18/9/2006 ، وكذلك خطبة وزيرة الخارجية رايس في الدورة نفسها، وكلها تتعهد باقامة دولة فلسطينية، ولكنهم كاذبون. فلا وعد أُوفي؟
وما زلنا حتى هذه اللحظة، وبعد أكثر من نصف قرن رهائن لوعود كاذبة، وجهود فاضية. وكل ما حققناه نحن العرب والفلسطينيين أن أقمنا الدولة الفلسطينية اقامة بلاغية على منصات التجمعات الجماهيرية والشعبية، أي من خلال الخطب الرنانة، والعنتريات الشعرية، والمهرجانات الشعبية.
يقول لي أحد القراء الذين ما زالوا من رهائن الوعود العربية والغربية الكاذبة ، في تعليقه على مقال الأسبوع الماضي:
quot;لماذا عودة غزة الى مصر والضفة الى الأردن، طالما أن هنالك أصواتاً دولية في دول صنع القرار، بدأت تتحدث عن دولتين اسرائيلية وأخرى فلسطينية متجاورتين؟ لماذا التضييق على الفلسطينيين إذا كان الآخرون يريدون ان يوسعوا عليهم ؟ اللهم إلا إذا كان الكاتب يرى عدم أهليّة الفلسطينيين لحكم أنفسهم بأنفسهم؛ أي حاجتهم الى دولة وصاية، كأن تكون مصر أو الاردن. وهذا ما فهمته من مضمون المقال. أليس في ذلك تضييق وتهميش للفلسطينيين لا سيما وأن شعوباً أخرى نالت استقلالها حديثاً، والفلسطينيون ليسوا أقل منهم كفاءة وقدرة على إدارة أنفسهمquot;.
ونحن بهذه الذهنية صبرنا طوال أكثر من نصف قرن لكي تأتينا فلسطين، ولكنها لم تأتِ.
انتظرناها طويلاً، ولكنها لم تأتِ. وضاع الوقت منا، ونحن ننتظر تحت أسقف بيوت الصفيح في البرد القارص والصيف اللاهب، في حين كانت دولة اسرائيل تقوى كل يوم، وتلتهم مزيداً من الأرض كل يوم، وتكبر كل يوم، وفلسطين تصغر وتختفي، ونحن ما زلنا نجتر الوعود الكاذبة.

الفراغ الفلسطيني الثاني
الآن، وكما قلنا في السابق، يعاني ما تبقى من أشلاء فلسطين فراغاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً أليماً وعميقاً وواضحاً، كالفراغ الأول الذي حصل عام 1948، بحيث أصبح ما تبقى من فلسطين نهباً للمليشيات الدينية والقومية المسلحة من جانب ونهباً لإسرائيل من جانب آخر. ولا حراس ولا نواطير على بوابة فلسطين المشرعة أمام كل من يريد أن ينهب ويسرق ويهرّب. وأصبحت غزة اليوم من جانب آخر، مدينة المهربين الأولى في العالم العربي، بل في العالم الثالث كله. وأصبحت أنفاق التهريب التي تجري تحت أرضها من أكثر وأطول أنفاق التهريب المعروفة. والناس جائعة. والناس عارية. والناس مشردة وعاطلة عن العمل. والرواتب المستحقة للموظفين على الدولة لم تدفع منذ ستة أشهر. والحكومة الحمساوية (مطنّشة) الجميع. (مطنّشة) الشعب الفلسطيني، والموظفين الفلسطينيين، والسلطة الفلسطينية، والجامعة العربية، والاتحاد الأفريقي، والاتحاد الأوروبي ، والأمم المتحدة ومجلس الأمن. واسماعيل هنية يقف قبل كل صلاة جمعة على منبر المسجد في غزة، مرتدياً ثوب عمر بن الخطاب، وقد ازداد سُمنةً عما كان عليه قبل أن يصبح رئيساً للحكومة، وازدادت حمرة وجنتيه عن ذي قبل، وانتفخ صدره أكثر، يخطب بالمصلين، ويطعمهم شهامةً وكرامةً وعزةً وصموداً وتأريخاً، ويفرك لحيته لعله يجد فيها ما يُطعم الناس ويسقيهم، فلا يجد إلا الوعود الهاذية، والمبادرات المضحكة، كقوله بهدنة لمدة عشر سنوات مع اسرائيل بدلاً من الاعتراف، وهو ما لا يوجد في أي قاموس سياسي. وهو عَلكٌ سياسيٌ لا معنى له. ومثل اسماعيل هنية في ذلك، مثل الحاج أمين الحسيني، وأحمد الشقيرى، وياسر عرفات، وكل السياسيين العرب الذين أطعموا الفلسطينيين البؤساء حبات الجوز الفاضي.
وما زال الفلسطينيون حتى الآن متعلقين بالأمل بالغد. ولكن أملهم أمام هذه الوحوش الكاسرة من العرب والإسرائيليين والأوروبيين والأمريكيين كأمل ابليس في الجنة الموعودة.
فلو رأيتم ابليس يوماً دخل الجنة، فأعلموا أن الدولة الفلسطينية قادمة، وزغرتوا.

السلام عليكم، وكل عام وانتم بخير.