التاريخ : 26 سبتمبر 2006. الحدث : احتجاجات غاضبة على طرد الرئيس العراقي السابق صدام حسين من قاعة المحكمة ثلاث مرات متتالية، وتحليل نفسي لشخصية القاضي ومناقشة سياسية لخلفياته وعمره.

التاريخ : سنة 1968. الحدث : الكارثة الكبرى على الشعب العراقي عندما انشقت الأرض وجاءت بإبداع عربي جديد وهو quot;محكمة الشعبquot; لتكون الخطوة الأولى لامتطاء الشعب وسجنه وإنهاء أي دور للقضاء المدني. وبعد ذلك أقدم مجلس قيادة الثورة العراقي على إنشاء محكمة حزبية لتكون باكورة أحكامها الإعدام، والتي أصبحت فيما بعد محكمة الثورة التي كانت تتمتع بجلسات محاكمة هي الأسرع في العالم : في دقيقة واحدة يصدر حكم الإعدام وبعد ذلك ينقل جثمان المغدور إلى أقرب مقبرة جماعية في رحاب الوطن الكبير !

ألا يذكر يا ترى quot;الرئيس القائدquot; صدام حسين محاكم الثورة ومحاكم الشعب في عهده؟ وماذا لو كانت تتم الآن محاكمته أمام المحاكم التي كانت في عهده، بسرية تامة وبعيدا عن وسائل الإعلام؟!

لعل إحدى أبرز أسباب التدهور المعرفي والحضاري لهذا الشرق وتأخره عن ركب الأمم الأخرى الافتقار إلى المنطق والموضوعية في النظرة إلى مجريات الأحداث. ومن هنا، أقول إن القاضي الذي يحاكم صدام كان منفعلا وخرج عن الصورة المنتظرة للقاضي العراقي المنتظر في العراق الديمقراطي المزعوم.. هذا صحيح !

ولكن يجب ألا تسقط العقول من حساباتها أن المواطن العراقي quot;صدام حسينquot;، الذي يحاكم في هذه المحكمة، نشأت في عهده أروع تحف التاريخ المعاصر وهي المحاكم الاستثنائية والحزبية والثورية التي أعدمت الأبرياء في الليل ودفنتهم مع بزوغ الفجر، في عمليات رهيبة وإرهابية من حيث سرعة إصدار القرار ومن ثم التنفيذ بحيث لا يقدر أي حاسوب في العالم أن يضاهيها في السرعة.

ومن نافل القول هنا ما كان يحكى ويكتب من قبل مثقفي العراق عن مئات الحالات التي توفي فيها عراقيون تحت التعذيب، وبعد ذلك بأيام أو شهور كانت تتم محاكمتهم وتصدر عليهم أحكام بالاعدام!.

إن عملية الخصي quot;الثوريquot; للقضاء المدني في عهد صدام أدت إلى إنهاء دور القضاة الشرفاء وقضت على علم القانون. لذا، لا مجال الآن لتحليل نفسية هذا القاضي والتساؤل عن انفعاله دون الحديث عن مرحلة مضت، وقبل طرح هذا التساؤل يجب طرح سؤال آخر هو من أين تخرج هذا القاضي وما مدى تأثير الفكر الشمولي الصدامي على المعاهد التي درس فيها وكم عدد المختفين والقتلى في عائلته، وهي صور بالتأكيد سوف تدفع أي quot;إنسانquot; إلى الرجوع إلى quot;الغريزة quot; والدفع الإنساني وحالة اللاوعي عندما يرى من بطشوا بوطنه وعائلته وأبناء بلده يتحدثون عن quot;الأمتين الاسلامية والعربية quot; كما لو كانوا أنبياء أو ثوارا تخلوا عن الحكم للجماهير !!

إن التغيير الذي حصل في العراق كان بقوة القوى الخارجية وليس بثورة جماهيرية شعبية(طالما كان الشعب مقموعا ولم يتحرك إلى الشارع خوفا من أن يكون خبر إسقاط نظام صدام كذبة مثل كذبة التسعينيات)، وثمة مزاعم كثيرة أن هذه القوى الخارجية هي التي تتحكم بسير محاكمة صدام حسين. لذلك، كما نشأ اقتتال طائفي دموي وإرهاب في كل العراق نتيجة quot;التغيير القادم من الخارجquot;، سوف لن تجري محاكمة صدام حسين في مجراها القانوني والمنطقي، ولن اتفاجأ يوما ما إذا سمعت أن حوامة تابعة لجهاز مخابراتي غربي ما حطت في العراق وهرّبت صدام إلى جزيرة ما !

لكن شاءت الأقدار، وعلى عكس ما شاهدناه طوال سنوات في الدراما العربية والقصص الخيالية، ألا تكون الجماهير هي وقود التغيير وألا تكون القاضي العادل ومنفذ الحكم !

وكما تقتضي النظرة الموضوعية لمجريات الأمور والأحداث في العراق والدعوة للتوقف عن التحليل النفسي للقاضي العراقي، ووقف إهدار الدموع في البكاء على quot;رموز الأمة العراقيةquot;، سيكون من المفيد القول إن العراق الديمقراطي الذي كان منتظرا عام 2003 لا يزال منتظرا، لا بل نشأ فيه استبداد من نمط جديد : إرهاب دموي، اقتتال وصراع طائفي، وانتهاكات لحقوق الإنسان تبدأ بالمغامرات الهوليودية الفاحشة لجنود قوات الاحتلال في السجون العراقية- وهي مغامرات جلبت العار لعهود حقوق الإنسان الأمريكية والغربية عامة- وليس انتهاء بملاحقة الصحفيين من قبل الإرهاب والحكم الحالي وإغلاق الصحف ومكاتب المحطات الفضائية التي غطت اوضاع العراق بكل نزاهة وحيادية مثل العربية.


[email protected]