(إلهي: إنّك تتودّدُ الى من يؤذيك، فكيفَ لا تتودّد الى من يؤذى فيك؟) -الحلا ّج ndash;
التصوّف، بدأ بتجارب فرديّة متفرقة، سرعان ما انتشر وانتظم بشكل جماعاتٍ وحلقاتٍ، شكّلت في بغداد وسواها ظاهرة شعبية عامة، تهتم بأمور الدين والفلسفة والعلوم التطبيقية والسياسية، وبحثوا في علاقة ذلك بالمجتمع من جهة، وبالسلطة من جهة اخرى.
وقرن المتصوّفة بين القول النظري والفعل السلوكي، وكان الحلاّج أبرز أقطاب هذه الدعوة. وكان لآرائه في حقوق العامّة وفي سياسة السلطة العباسيّة شأن هام ومؤثر. اما دعوته التوحيديّة بشأن العلاقة بين الخالق والمخلوق، فهي تدعو الى التخلّق بالاخلاق الالهية، ويترجم عمق هذه الصلة في التأكيد على دور ومنزلة الانسان في حريّته، لانّه الكائن الوحيد الذي صاغه الله على مثاله، وهو المختصر الدقيق لكلّ الحقائق، وبأنّ الخالق الذي لم تسعه لا أرض ولا سماء، وسعه قلب هذا الانسان - قلب عبده -. فهو صورة الله على الارض، وفيه نفحة من روحه، وعلى اتصالٍ دائمٍ معه، فما الداعي لان يُحكم (باسم الله) من قبل رجالٍ نصّبوا أنفسهم أولياءه على الارض؟
فسّرت السلطة العباسية ذلك على انّه دعوة صريحة لتجاوز نفوذها وسلطتها، وأثار ضغينة فقهائها ووزرائها، واعتبروه تهديدا ً لعرش الخلافة.
في مسيرة الحلاّج، يصعب فصل جانب عن آخر، حيث كانت حياته تمثل امتزاجا ً للصوفي بالسياسي، والزاهد بالثوري، والتديّني بالنقدي، والعالِم بالاصلاحي، وكان يفعل ذلك بوعي حاد، تختلط فيه حقيقته الصوفيّة بأوجه الحياة الاجتماعية والفكرية كافة. وغالبا ً مانجد في خطبه وأشعاره ما يشير الى ارتباطه بقضيّةٍ عامّةٍ كبرى، تندمج فيها خصوصيّة تكوينه الذاتيّ الدلالة والمعنى، بقضايا الناس وهموم عصره:
ولي نفسٌ ستتلفُ أو سترقى لعمركَ بي الى أمر ٍ جسيم ِ
فمعرفته بالدين، تعني التحريض والدعوة الى الاصلاح الشامل، خلافا ً لما اعتاد عليه المتصوّفة، اذ يؤثرون السلامة بالكتمان. وعليه، لم تكن شطحاته الصوفيّة، أو أشعاره، أو حتى قضيّة رميه بتهمة السحر والشعبذة، من الاسباب المباشرة لقتله. كما لم يضع المشايخ ورجال البلاط مسألة قتل الحلاّج نصب أولوياتهم لهذا السبب وحسب، بدليل شيوع الكثير من الشطحات الصوفيّة المثيرة في عصره، ولم يتعرّض أصحابها الى تلك المبالغة المأساويّة في العقاب والتعذيب كما جرى له، امثال الشبلي والبسطامي والجنيد وسواهم.
كانت السلطة ترى في شعبيّة الحلاّج الواسعة، دلالاتٍ اجتماعيّة وفكريّة ثوريّة تهدّد كيانها، كما تؤكّد ذلك العديد من الرسائل والخطابات التي كانت ترسل اليه من شتى بقاع الارض الى محلّ اقامته في بغداد بعد كلّ رحلةٍ من رحلاته الطويلة.
كما تورد المصادر عن علاقةٍ ما، كانت تربط الحلاّج بقادة بعض الحركات الثورية السريّة حينئذٍ، كعلاقته بزعيم القرامطة (أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن القرمطي) وسواه.
انّ إيمانه بالحقائق الالهية، ميّزت دعوته في الاصلاح الى مزج الفقه بالسياسة، لإنشاء دولة مثالية، قائمة على أساس العدل والحق والعشق الالهي والمساواة بين الناس. فكان - كما قال عنه ابن الأثير - رمزا ً للصوفيّة الثائرة، وقطبا ً لطبقة صوفيّة متنامية ومهيمنة في القرن الثالث للهجرة.
أردنا القول منذ البدء، ان قضيّة قتل الحلاّج بتلك البشاعة والعنف، يمثل وجه السلطة التاريخي الحقيقي في محاربة الآخر المختلف فكريا ً، بمقدار ما هو على علاقة مباشرة بطبيعة الصراع السياسي والاجتماعي السائد في خلافة بني العباس وقتئذٍ. فشيوع طريقته في التصوّف، وازدياد عدد مريديه والمفتونين به والملتفيّن من حوله من عامة الناس، وضعه في صلب ذلك الصراع، وكان خطيبا ً بارعا ً، اشتهر باسلوبه التحريضي في جوامع بغداد، وكان يندّد علانية ً بأسباب التحلّل والفساد المستشرية في دوائر الدولة العباسية.
اختلف مع الحلاّج معظم مشايخ الصوفيّة، لما في دعوته تلك من علانية ومجابهة وبوح، حتى انّه رمى ذات مرّةٍ بثياب الصوفيّة، وصاحب ابناء الدنيا (حسب رواية ابنه، والتي أوردها الخطيب البغدادي في كتابه - تاريخ بغداد -)، كنوع من التمرّد والتحدي الصارخ، وذلك لاشتداد معاناته وخلافاته مع بعض شيوخ الصوفيّة من معاصريه، والتي غالبا ً ما يتغلّب عليها بالرحيل لفترةٍ طويلة، يعود بعدها برؤىً أعمق وقراراتٍ أصلب في الدعوة الى المواجهة والاصلاح. وكان مختلفا ً باجتهاده في مفهوم (الكشف)، الذي أراد له ان لا يكون ذاتيا ً فقط، انما عاما ً وعارما ً، لكشف حقائق الاشياء، وتصبح فيه التجليّات مسعىً لبلوغ أقصى مدىً للحريّة الانسانيّة، وأعلى مراتبها تلك التي يفقد فيها الانسان صفاته وعلاقاته الكائنيّة، ويعوم في حريّة النور والوضوح، التي يسقط فيها كلّ حجاب، كما يراها الحلاّج.
كان يعلم بعواقب دعوته تلك، لكنّه منذ البدء نذر جسده ليتحمّل شتّى صنوف العذاب، وصولا ً الى توقه ورغبته في انعتاق روحه لمعانقة المطلق والازلي، باعتبار الجسد حاجزا ً وغلافا ً وسورا ً معيقا ً لتلك الرغبة الجامحة. فكان مثار جدلٍ وخلافٍ وجسارة نادرة، قادته الى سجون عديدة، واتهامات متباينة، حتى قال مرة في أحد جوامع بغداد: (اقتلوني.. تؤجروا وأستريح)
وهو في مفهومه العميق الكلّي للتوحيد، لا يفرّق بين نعمةٍ وبلوى، بين المحظور والمسموح، بين ال (تحت) وال (فوق)، بين ال (أين) وال (كيف) وال (كان):
اقتلوني ياثقاتي انّ في قتلي حياتي
أنّ عندي محو ذاتي من أجلّ المكرماتِ
وعن إتهامه بأقاويل الحلوليّة والاتحاد، قال:
وظنّوا بي حلولا ً واتحادا ً وقلبي من سوى التوحيد خال ِ
كان للوشاية دورها في إلقاء القبض على الحلاّج، فأودع السجن آخر مرة على يد الوزير حامد بن العباس، وكان ينقله من سجن لآخر، تخوّفا ً من تعاطف الحرّاس والسجناء معه، وحاصر وأعتقل كلّ المقرّبين منه، وكذلك مريديه وتلامذته، وأ عدّ الوزير اتهاماته وخطّته لينفذها باسم القضاء، وحددّ لها مجلسا ً في الحادي والعشرين من ذي القعدة، يوم السبت من عام 309 للهجرة. فحضر قاض يدعى (ابو عمر محمد بن يوسف)، ثم جئ بالحلاّج، ودار حوار بين القاضي والشيخ، وكان الوزير يراقب وينتظر فتوى الشيخ المتّفق عليها مسبقا ً.
وحدث ان قال القاضي في تعقيبه على احدى مقولات الحلاّج: من أين لك هذا؟
فأجاب الحلاّج: من كتاب الاخلاص للحسن البصري.
فقال القاضي: كذبت يا حلال الدم....! هنا انتفض الوزير بن العباس بوجه القاضي، قائلا ً: قد قلت (يا حلال الدم)؟ اكتب ذلك على هذه الورقة.. والحّ عليه، وقدّم له المدوآة، فكتبها القاضي، وحملها الوزير الى المقتدر... وبعد أيام سُلِم الى صاحب الشرطة، فضُرب الف سوط، وكان مع كلّ سوط يردّد (أحدٌ أحد)، ثمّ قُطعت يداه ورجلاه، وهو صامت ولم ينطق بكلمة، ثم صُلب على جذع، وأُحرقت جثته، وأٌلقي رمادها في دجلة، ونودي في بغداد بأن لا تشترى كتبه ولا تباع.
كان قرار قتله نافذا ً، وما التفاصيل سوى مشاهد ركيكة مفتعلة، كوّنت بمجملها مشهدا ً دمويّا ً بشعا ً، يمثل صورةً لفكر السلطة وجبروتها، التي تعني من ورائها إخراس الاصوات المعارضة، وإرهاب المفكّرين المنادين بالإصلاح والحريّة والعدالة، خصوصا ً أولئك العاملين بمبدأ النظر العقلي في نصوص الدين، والساعين الى إبطال مفعول المقولة الاسلاميّة المتوراثة بأنّ (الخليفة هو ظلّ الله على الارض)، وهو (الحاكم بأمره).
فالمشاهد الوحشيّة التي رافقت مراحل تعذيب الحلاّج أمام العامّة، انما هي مشاهد مروّعة لذبح الفكر والمعرفة والعلوم التطبيقيّة العربية - الاسلاميّة. وجعلوا من مقتله مثالا ً يحتذى في العقاب لكلّ من يحذو حذوه، أو يعمل بمنهجه الفكري. وفعلا ً، دخل الفكر العربي الاسلامي في سباتٍ مرير وطويل بعد مأساة الحلاّج، ومنذئذٍ صار المفكّرون يحسبون ألف حساب لكلّ كلمةٍ يقولونها. حتّى أوصلوا العامّة لغاية يوم الناس هذا الى الاهتمام بالسطح والجاهزية بعد تزيينها، وإضافة هالة من القدسيّة والمبالغة والتلميع عليها، على حساب العمق والشكّ والتساؤل والبحث والاستنتاج. وليس مستهجنا ً في هذه الركاكة الزمنيّة والهشاشة الفكريّة، ان يبتعد الناس عن فكر الشيخ محي الدين بن عربي مثلا ً، والحلاّج، والبسطامي، والسهروردي، وغيرهم، ويقبلون على فكر ابن تيميّة الحرّاني، وابن عبد الوهاب. يبتعدون عن عقلانيّ معتدل مثل أبي حنيفة النعماني، ومحمد حسين فضل الله (الذي كفرّه الشيعة قبل السنة)، وجبار الكبيسي، ويقبلون على الظواهري وابن لادن والقرضاوي وعمرو خالد.
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات