ما قاله مفتي سوريا أحمد بدر حسون قبل أيام قليلة في ندوة مغلقة، ليس بالأمر العادي، ولا ينبغي له أن يمر على هذا النحو كأن شيئا لم يكن، أو كأنه حديث عابر في قضية عابرة. المفتي أطلق ما يمكن تسميته دون تردد بـ القنبلة quot; الشرعيةquot; أوquot; الفقهية quot;. أكثر من ذلك ؛ إنه قنبلة في مستنقع منظومة القيم والمعايير البدوية لـ quot; الأخلاق quot; كما درجت مجتمعاتنا على اجترارها منذ أربعة عشر قرنا بعد تطعيمها بأحاديث نبوية لا يعرف أحد من أين وكيف جاءت، وآيات قرآنية حمالة أوجه لم يتفق عليها حتى الصحابة الأكثر علما في دينهم. ولولا أن مراسل quot; الحياة quot; نشر تقريرا حول ذلك، لكان الأمر مر دون أن يسمع به أحد. فالندوة رتب لها كما لو أنها اجتماع لمحفل ماسوني أو لحياكة مؤامرة ضد أمن الدولة ؛ والإعلام الرسمي لاسيما التلفزيون ـ وكعادته دائما في مثل هذه الأحوال ـ لم يسمع بها.. حتى الآن ؛ أما الحضورـ المدعوون لسماع حديث المفتي فـ quot; نخبة quot; يمكن معرفة جدية اهتمامها بالأمر حين نعرف أن من تقدم صفوفها شخص يدعى مصطفى طلاس وآخر يدعى محسن بلال وثالثة تدعى ديالا الحاج عارف، وهي سيدة بلهاء بمرتبة وزيرة كان آخر إنجازاتها الثورية مطالبة القضاء بتجريد المحامي أنور البني من جنسيته وحظر نشاط جمعية نسائية (!)؛ فضلا عن بعض أصوليي المعاهد والمدارس الطالبانية التي أنشأها حافظ الأسد في سياق توليد مشروعه الأيديولوجي النغل، وانتهى بعض خريجيها مؤخرا إلى صفوف quot; القاعدة quot; في الجزائر واليمن وأفغانستان!
صحيح أن المفتي وصل متأخرا جدا إلى حيث سبقه الكثيرون، ومن ضمنهم جمهورعريض مصنف بشكل أو بآخر كفئة محافظة، ولكن عقلانية ؛ إلا أن وقع ما تقوله مرجعية روحية في أوساط جمهورها المؤمن والملتزم دينيا، ليس كوقع ما يقوله quot; العوام quot;، ونحن منهم، في أوساط هذا الجمهور الذي ينبذنا ويعتبرنا من الفئة الضالة! ولا يغير من هذه الحقيقة شيئا أن الكلام يصدر عن مرجعية دينية متطرفة في رسميتها إلى درجة تلاشي الحدود التي تفصلها عن أجهزة السلطة، العلني منها والسري! فحين يجاهر شخص مثل المفتي حسون المعتبر أعلى مرجعية روحية في مجتمع مسلم كمجتمعنا الذي يستمد تسعة أعشارقوانينه المدنية من الشريعة كما لو أننا في ظل حكم طالباني أو وهابي، و تتلخص وظيفته الأساسية في تقديم الغطاء الديني لسلطة مغرقة في انتهازيتها الأيديولجية والسياسية، بتقديم مفهوم quot; غير مألوف quot; لـ quot; الشرف quot; و quot; الزنى quot; يكاد يلامس فيه الدلالات quot; المدنية ـ الأنواريةquot; لهذا المفهوم، لا يعود الأمر مجرد quot; شقشقة quot; كلام، بل مقال quot; تأسيسي quot; ينبغي البناء عليه بالسرعة القصوى قبل أن تطيحه انتفاضة فقهية مضادة على يد البوطي وحزبه الطالباني كما أطاحت من قبل مشروع إصلاح التعليم الديني الرسمي!
المناسبة غير المباشرة للندوة التي دعت إليها منظمة نسائية شبه مجهولة، كانت عمليات الذبح التي تعرضت وتتعرض لها فتيات ونساء سوريات بسكاكين المطبخ وبنادق صيد الخنازير بتهمة ارتكاب quot; فاحشة الزنى quot;، أو ما يسمى بـ quot; جرائم الشرف quot; ؛ أي الشرف الذي حصرته الأمة وعلماؤها بالأعضاء التناسلية.. أو بتعبير أدق : بالمسالك البولية! أما المناسبة المباشرة فهي المادة 528 من قانون العقوبات التي تعطي ضوءا أخضر للذكر بممارسة القتل quot;.. إذا فاجأ زوجته أو أحد أصوله في فروعه أو أخته في جرم الزنى المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر quot;، وتمنحه أسبابا مخففة للعقوبة على سلوكه الإجرامي إذا أقدم على quot; على قتلهما او ايذائهما او على قتل او إيذاء أحدهما بغير عمدquot; حتى وإن كانت إحداهن quot; في حالة مريبة مع آخرquot;، وليس فقط في حالة الفعل الجنسي السافر! ولا يغير من هذا الأمر شيئا أن النص الشرعي نفسه يقتضي وجود أربعة شهود عدول ( غير مطعون في شهادتهم ) يقرون جميعا بأنهم شاهدوا فعل quot; الزنى quot; مشاهدة تامة. وهذا ما لا يمكن حدوثه، حتى في أفلام الكرتون، إلا إذا وضع الشهود الأربعة ( الذين يمكن أن يكونوا ثماني نساء!) رؤوسهم بين أفخاذ المتضاجعين وصوبوا أعينهم إلى عضويهما التناسليين! وبتعبير آخر : إن فعل quot; الزنى quot; أمر لا يمكن إثباته عمليا حتى وإن وضعت كاميرا فيديو بين أفخاذهما. وحتى في هذه الحالة لا يمكن الاعتداد بالفيلم كقرينة إثبات، لأنه يمكن المحاججة تقنيا بأن الصورة ليست للشخصين المعنيين!
بعيدا عن السخرية السوداء، وبالعودة إلى صلب الموضوع، أشار المفتي حسون في محاضرته إلى أن quot; أكثر أبناء أمتنا ربط الشرف بالأنثى، أي شرف الرجل في زوجته وابنته وأمه وأخته quot;. وفيما يبدو استنكارا سافرا من قبله لهذا المفهوم البدوي للشرف، حدد الانتهاك quot; الأول quot; للشرف بأنه quot; انتهاك كرامة الأمة quot;. ولم يتوقف المفتي عن هذا، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين أشار إلى عبثية القوانين الشرعية ذات الصلة ودعا، وإن بشكل غير مباشر، إلى عدم الأخذ بالحدود التي أقرتها الشريعة في هذا الأحوال quot; لأن من لا تصنه قيمة وأخلاق لا تصنه الأحكام والحدود quot; على حد تعبيره الحرفي! (*)
لكن، ولكي يرفع التهمة عن السلطة ( والدولة ) باعتبارها مسؤولة عن جميع quot; جرائم الشرف quot; التي ارتكبت منذ الاستقلال حتى اليوم ( و دعونا الآن من جرائمها الأخرى!)، حاول المفتي أن يرمي المسؤولية على الاستعمار الفرنسي حين تساءل عما quot; إذا كانت المادة (528 من قانون العقوبات الصادر في العام 1949 ) موافقة للشريعة أو للشرائع، أم هي قانون فرنسي صيغ بأيد عربية ابتعدنا فيها عن الشريعة وسمحنا للعادات بأن تتحول إلى أعراف quot; وقوانين!؟
هنا بيت القصيد، وهنا جوهر المشكلة برمتها. ودون الإشارة إليها وفضحها، يبقى كل كلام في هذا المجال بلا معنى وبلا طائل، ومجرد فعل تضليلي يرقى إلى درجة الضحك على الذقون. صحيح أن السلطات الاستعمارية الفرنسية عمدت إلى تصعيد الكثير من الأعراف والتقاليد الاجتماعية إلى مرتبة quot; القانون quot; حين صيغت أول مسلة قانونية في ظل الإنتداب، ولكن الأصح أن قانون العقوبات الساري المفعول الآن صيغ بعد الاستقلال بثلاث سنوات، وليس في ظل الجنرال غورو أو الجنرال دو مارتيل. وإذا كان quot; العهد الوطني quot; الذي تلا الاستقلال واستمر حتى استيلاء البعث على السلطة في العام 1963، موصوفا بـ quot; الرجعي quot; والـ quot; إقطاعي quot; و quot; المتحلف quot; من قبل البعثيين، فماذا فعل هؤلاء البعثيون quot; الثوار والتقدميون quot; خلال أكثر من أربعة عقود في مجال مسلة قوانين الأحوال الشخصية والقوانين الأخرى ذات الصلة بحقوق المرأة ( كيلا نسألهم عن إنجازاتهم الأخرى في السياسة والاقتصاد والثقافة )!؟ باختصار : لا شيء. أو بتعبير أدق، لقد تقهقر وضع المرأة في ظلهم إلى دون المستوى الذي كان عليه قبلهم، إذا ما أخذنا الأمر بالمعايير النسبية التي ترى في التطور سيرورة تراكمية. بل إن بلدانا عربية و / أو إسلامية عانت ظروفا اجتماعية تاريخية أقسى وأصعب مما عانته سورية، مثل تونس واليمن الجنوبي والصومال ( نعم الصومال وليس غيرها!) حققت للمرأة ما لم يتجرأ دجالو البعث ومنافقوه حتى على التفكير به. في صومال محمد سياد بري واليمن الجنوبي ( قبل الوحدة التخريبية المشؤومة مع ظلاميي اليمن الشمالي بقيادة مفتي الإرهاب عبد المجيد الزنداني )، و تونس بورقيبة ( الذي لا يتذكر البعثيون من إنجازاته إلا ما قاله في أريحا عن الحل السلمي )، ألغي دون تلكؤ أو خوف القانون الإسلامي الوضيع الذي يشرّع الدعارة الجماعية، وأعني قانون quot; تعدد الزوجات quot;. أما في سوريا، وبعد 44 عاما من ثورة البعث المظفرة فما تزال السلطة تتواطأ ـ من خلال قوانينها وأجهزتها القضائية ـ مع أحط أشكال الممارسات الاجتماعية وتقاليدها. وفي مناطق شاسعة من سوريا، لاسيما شرقها وشمالها ووسطها، تكاد المحاكم quot;تختفي من الوجودquot; وتصبح بلا عمل، ليس بفعل فسادها فقط، بل ـ وهو الأخطرـ لأن سلطة أخرى حلت محلها هي سلطة شيخ العشيرة والقبيلة وزعيم الطائفة الذي عاد إلى ممارسة دوره كقاض كما كان عليه الأمر في غابر الأزمان! ويكفي للإشارة إلى عمق الهوة السحيقة التي ارتد إليها وضع المرأة في ظل ثوار البعث أن المطمح الأكبر للمنظمات النسائية ( التي سلمت حتى الآن من سكاكين الوزيرة الغبية ) ليس المطالبة بإلغاء القانون الذي يشرّع الدعارة ( قانون تعدد الزوجات)، وهو ما لم تتجرأ أي منظمة أو حزب في سوريا على الاقتراب منه باستثناء منظمة واحدة، بل مجرد وقف ذبح النساء بسكاكين المطبخ تحت رعاية وإشراف قوانين البعث التقدمي، والسماح لهن بالسفر دون إذن quot; أولياء أمورهن quot;! ولا داع لسرد الأمور الأخرى كقوانين الإرث و حق الجنسية لأبناء النساء المتزوجات من أجانب، والطلاق الذي يمكن للمرأة أن ترى quot; نجوم الظهر quot; قبل أن تراه، وحضانة الأولاد التي كرستها قوانين البعث كـ quot; خدمة سرلنكية quot; تؤديها المرأة مقابل أكلها وشربها!
الأغرب من هذا كله هو أن المعارضة التي تسمي نفسها ديمقراطية وليبرالية وعلمانية وحداثية، وتقدم نفسها بديلا سياسيا وحضاريا لهذه السلطة، لم تتجرأ على قول حرف واحد في قضايا من هذا النوع ؛ بل إن برامجها ( إذا كان لديها برامج ) تخلو من مجرد الإشارة إلى ذلك، في الوقت الذي تتنطح فيها لقضايا لا زالت أغلبية الشعب السوري ترى فيها مجرد سفسطة وثرثرة quot; مثقفين quot; عاطلين عن العمل!
فإذا كان الأمر كذلك، وهو فعلا كذلك، وإذا كانت الأمور نسبية، وهي فعلا على هذا النحو، أليس من حق المفتي علينا، رغم كل ما يقال فيه وعنه، ورغم موقعه كناطق رسمي باسم الشريعة، أن نطلق عليه لقب quot; المفتي الأنواري quot;، وأن نسمي البعث و معظم معارضيه، على حد سواء، بالظلاميين والطالبانيين!؟ وإذا لم يكن من حقنا ذلك، سيكون من حقنا أن نطالب المعترضين بتقديم أدلة تثبت وجود أي فرق بين دولة يحكمها الملا عمر، أو أي شيخ وهابي، تجز فيها رقبة المرأة بسكين مطبخ تنفيذا للحد الشرعي، وبين دولة يحكمها البعث منذ أربعة عقود ويكرس فيها قوانين تشرّع الدعارة باسم تعدد الزوجات، وتجز فيها رقبة المرأة كالنعجة.. بالسكين ذاتها وبتواطؤ من القانون ذاته!؟
www.syriatruth.org

(*) ـ تقرير quot; الحياة quot; وحديث المفتي :
http://syriatruth.org/Al-Hakikah/index.php?option=com_contentamp;task=viewamp;id=375