quot;هؤلاء الشباب الذين ترونهم أمامكم بسراويلهم الممزقة... بوجوههم التي تتسع للأقراط... وبأحذيتهم المقطعة... لا تحكموا عليهم، لديهم قلوب واسعة و لديهم أدمغة تفكرquot; (مقطع من الكلمة التأبينية التي ألقاها والد: كارلو جولياني quot;أيقونة الحركات المناهضة للعولمةquot; في جنازة ولده).

أولا و قبل الإسهاب في الحديث عما أسميه ب(قصيدة سياتل)، لا بد و رفعا للبس و الغموض أن نعطف قليلا و في نفس الإطار للحديث عن السياق الكبير الذي تمخضت عنه هذه القصيدة، وهو ما يعرف في أبجديات المهتمين بشأن الحركات المناهضة للعولمة ب(جيل سياتل)، هذا الإسم الذي صار لصيقا بهذه الحركات في مختلف وسائط الميديا العالمية، بعد المظاهرة التي شارك فيها ما يقارب من 40 ألف رافض ضد إطلاق جولة تفاوض جديدة لمنظمة التجارة العالمية في نونبر 1999 بمدينة سياتل الأمريكية، المظاهرة التي شكلت بحق انعطافة مفصلية في مسار الحركات المناهضة للعولمة، هذه الحركات البكر و المتكونة في مجملها من شباب هامشي حركهم (بالإضافة إلى أفكارهم التي تمتح في الغالب من الفكرين: الأنارشي و الماركسي) إيمانهم العميق بالمصير المشترك للإنسان و بالعدالة الاجتماعية و الديمقراطية...
و برغم كل ما راج عن عفوية هذه الحركات و افتقادها لمشروع نضالي واضح، إلا أنها و مع استمرار معاركها و نجاحاتها بدأت تعزز صفوفها سنة بعد أخرى بأسماء كبيرة من المثقفين و الداعمين، الذين نذكر منهم على سبيل التمثيل لا الحصر: الفلاح و الفيلسوف الفرنسي (جوزي بوفيه ) و المحامي و السياسي الأمريكي (رالف نادر ) و رئيس تحرير لوموند ديبلوماتيك (إيجينيو رامونييه ) الذي أسس حركة (أطاك ) سنة 1988 و عالم اللسانيات (ناعوم تشومسكي ) و الروائي البرتغالي الحائز على جائزة نوبل (خوسي ساراماغو ) و (إيريك توسان) مؤسس لجنة إلغاء ديون العالم الثالث و الأرجنتيني (أدولفو بيريز أسكفيل ) الحائز على نوبل للسلام و البرازيلي (أوديد غراجوف ) مؤسس المنتدى الإجتماعي العالمي ببورتو أليغري، بالإضافة إلى العديد من المثقفين الشرفاء، الذين يحاولون بلورة سياق تنظيمي للحركة و تشكيل تكتل رفض مكون من الحركات السياسية و الإجتماعية التقدمية بهدف خلق عولمة بديلة و إعادة ترسيخ ثقافة الإحتجاج و تقديم بدائل جديدة عوضا عن البديل النيوليبرالي الزائف.

قصيدة سياتل:
الحديث عن الهموم الجمالية لجيل سياتل هو حديث مركب باعتباره أيضا معالجة في المجمل لانعطافة تاريخية استثنائية، بالإضافة إلى أنه لا يمكن مقاربة هذه الحالة دون ربطها ببعض المنعطفات الإنسانية الأساسية المشابهة و ما كانت تفرزه وقتها من حساسيات جديدة و اقتراحات و أشكال فنية تناسب المرحلة (ثورة جيل 68 مثلا و تأثيراتها الجلية آنذاك على مختلف الميادين)، لذا كان من الطبيعي جدا لمرحلة (سياتل ) أن تفرز أيضا قصيدتها المتفردة (يجب الإشارة هنا أن الأمر لا يتعلق بالشعر فقط، بل يتعداه إلى مختلف الأجناس الفنية كالموسيقى و أفلام الفيديو مثلا و الغير فنية كوسائط الإتصال و شبكة الإنترنيت و بروز ما يسمى بالهاكرز)، هذه القصيدة التي لا تخص فقط (جيل سياتل ) وحده، بل إنها تختزل الأرض كلها بدفاعها عن قيمتي الرفض و الإحتجاج و أيضا بالتقاطها لمظاهر الإفلاس في العالم و إصرارها على أن تكون جملة اعتراضية لا علاقة لها بالتصنيفات النقدية و لا بقوالب النظريات الجامدة و لا بالتهويمات الخارجة من الأبراج العاجية، فالشعر الذي ألقي و يلقى في المظاهرات المتعددة هنا و هناك، يظل لحد الآن شعرا عفويا و متفاوتا من الناحية الفنية، لكنه و مع ذلك يعبر عن مرحلة مفصلية يجتازها العالم، مرحلة تزداد نضجا و اتضاح رؤية معركة بعد أخرى، هذا النضج الذي يطال أيضا هذه القصيدة التي قد تكون في أحد جوانبها (الجانب الغائي و المتعدي ) تتقاطع مع قصيدة مرحلة المد الماركسي، لكنها تتمفصل عنها و بشكل مطلق في كونها لا تنطلق من حزب معين و لا تمدح قادة تاريخيين و ليست بوق دعاية لأية نظرية جامدة، (قصيدة سياتل ) قصيدة خاصة تنطلق من الذات لكنها تجتهد كي تتقاسم الكثير مع الحس المشترك، ببلورتها لذائقة شعرية مقاومة لا تلغي فردية الشاعر و خصوصياته و دون أن تسقط في تقريرية سياسية فجة، إنها بتعبير آخر: قصيدة مكتوبة بوعي سياسي لكنها ليست قصيدة سياسية بالمعنى التقليدي المباشر. شعراءها ليسوا نجوم منابر و أغلفة، بل شباب هامشي تضيع أسماءه و أصواته في صخب مظاهرات سياتل و بورتو أليغري و جنوة... ، قصيدة تعبر عن أحلام كبيرة و توق إلى أفق بديل و انزياح كامل عن اللهجة السائدة: لهجة الفراغ و العدم و النهايات التي كرستها بقوة مرحلة ما بعد الحداثة و عرابها (فرانسوا ليوتار ).
إذن و كتلخيص للكلام السابق يمكن لي القول، أن قصيدة سياتل تبدوا اليوم، كمن تحاول تمثيل مرحلة تاريخية جديدة و ذلك بدفاعها عن مبادئ إنسانية شاملة و شجبها انهيار إرادة الأخلاق في العالم و أيضا بوقوفها في صف الرفض و صف من لا صوت لهم، ضد كل الجهات المتحكمة في خيوط اللعب، مما يجعلني وعلى عكس ما قد يعتقد البعض، لا أقارب هذه القصيدة باعتبارها ظاهرة مناسباتية عابرة أو بديل جمالي رومانسي مؤقت يتحرك وفق برنامج دُورِ الأزياء الفصلية: صرعة تفرغ الركح لصرعة أخرى، قصيدة سياتل صرخة احتجاج تستمد ديناميتها من الإيمان اللاّمتناهي لهؤلاء الشباب بالتغيير و بعالم (يوتوبي) خال من كل أشكال الإستغلال البغيضة للإنسان، هذا الإيمان الذي يتجلى و بشكل واضح في هذا المقطع الإستهلالي من البيان الصادر عن المنتدى الإجتماعي العالمي ببورتو أليغري: (احتشدت القوى الإجتماعية من مختلف أنحاء العالم هنا في بورتو أليغري، المنتدى الإجتماعي العالمي، نقابات و حركات و منظمات غير حكومية، مثقفون و فنانون، نقيم معا تحالفا عريضا لخلق مجتمع جديد، مختلفين عن منطق الهيمنة و السيطرة الذي تعتبر فيه السوق الحرة و الأموال المقياس الوحيد للثروة، إذا كانت ديفوس تمثل تمركز الثروة... الفقر... و تدمير الأرض، فإن بورتو أليغري تمثل الأمل في أن بناء عالم جديد أمر ممكن، يكون فيه الوجود الإنساني و الطبيعة مركز اهتمامنا ).