-1-

أخبرنا وزير عربي للثقافة ذات يوم أنّه طلب من فخامة رئيس دولته أن يرفع ميزانية وزارة الثقافة لتفعيل الدور الثقافي و الحركة الفكرية و المسرحية و الفنية أسوة بميزانية وزارة الثقافة الفرنسية التي تعّد كبيرة للغاية، فأجابه هذا الرئيس العربي وكان عسكريّا محدود الثقافة بقوله:
أصرف الأموال على المواخير وبيوت الدعارة و لا أصرفها على الثقافة...
تفسّر هذه الحادثة إلى حدّ كبير سبب الكساح الثقافي و الفكري الذي يميزّ الواقع العربي الذي برع محللونا في كشف الإنهيارات السياسية فيه، فيما لحدّ الآن لم تجر أيّة عملية إستقصاء حول خسائرنا الثقافية أو سقوطنا الثقافي ومصاديقه في كل المشاهد العربية...

-2-
واحدة من أهم أسباب التراجع الثقافي في الوطن العربي هو تخصيص الميزانيات العملاقة للجيوش والأجهزة الأمنية و تخصيص الجزء اليسر أو قل الفتات من المال للفعل الثقافي، وربّ دولة عربية تشتري أسلحة بقيمة 10 مليارات دولار، لكنّها تنأى بنفسها وبذلها عندما يتعلق الأمر بدعم قطاع المسرح العام أو تطبيب المثقفين المبدعين الذين أنهكتهم الأمراض و يبحثون عمن يجمع لهم مالا للعلاج..
و لو كان العالم العربي في حالة حرب مع أمريكا أو الكيان الصهيوني لهان الأمر، و نسينا أمر القصيدة وركزناّ على الدبّابة، لكن الألم يتضاعف عندما نكتشف أنّ هذه الأسلحة التي كلفت ميزانية جيلين تقريبا الغرض من شرائها الدفاع عن الحاكم ونظامه السياسي المتهرئ، ولإستخدامها في حروب حدود مع دول مجاورة تدين بالدين الواحد وتتكلم اللغة الواحدة...

-3-
هذا النزوع بإتجاه العسكرة و التسلّح لا ينمّ عن إستراتيجية عسكرية أو سياسية، بقدر ما ينم عن التركيبة الفكرية لصنّاع القرار في العالم العربي الذين تخرجّوا من رحم العسكريتاريا وينظرون إلى الحياة بعيون هاون و دوشكا وليس بعيون الجمال و الرومانسية و العدل، و عدم تلقيّهم للتعليم المدني أوجد جفوة بينهم وبين القيّم الإنسانية و المثل العليا.
فهم إذا خيّروا بين العصا و القصيدة يختارون العصا، و إذا خيروّا بين البندقية و الرواية يختارون البندقية، و إذا خيرّوا بين الثكنة و الحديقة الغنّاء يختارون الثكنة، و إذا خيرّوا بين الظلم و العدل يختارون الظلم، و هذه المسلكية جعلت أحد العلماء يقول لو أنّ الحاكم يحسّ بتلذذنا أثناء غوصنا في قراءة الأفكار والحضارات لقتلونا لأجل تلذذنّا هذا.
وإذا كان التكوين الشخصاني لصانع القرار كما ذكرنا فكيف يتفاعل مع قيّم الجمال والفكر والفن، ففاقد الشيئ لا يعطيه، و الجاهل لا يستشعر لذّة الثقافة، و من أدمن حبّ الحديد والأصفاد والقيود لا يمكن أن يستشعر عظمة الثقافة.

-4-
التركيز على الأمن القومي أو الأمن النظامي إن صحّ التعبير، جعل أمننا الثقافي في خطر، فحصوننا أصبحت مدكدكة ثقافيا وفكريا و باتت فضاءاتنا كل فضاءاتنا مخترقة كما هو واقع جغرافيتنا...
ففي الوقت الذي بذلت فيه فرنسا ملايير اليوروات من أجل تحصين الثقافة واللغة الفرنسيتين من الغارة الأمريكية و الأنجلوسكسونية، فإنّ منظتمنا العربي الرسمي لم يبذل أي جهد في سبيل حماية الثقافة الذاتية والعادات والتقاليد، وكأنّه كان مكلفا بمهمة تعرية واقعنا الثقافي و الفكري ليسهل لاحقا على الدبّابة الأمريكية و الغربية الإيلاج في جغرافيتنا..
وعلى سبيل الذكر لا الحصر، فكثيرا ما أقول و أنا في الخليج أنّ لغتي الإنجليزية تقوى في هذه الجغرافيا، لأني لا أستخدم اللغة العربية مطلقا، فالعامل في الفندق لا يتكلم إلاّ الأنجليزية، و الحلاق هندي لا يجيد إلاّ الأنجليزية، و صاحب الفندق أمريكي، و البائع باكستاني، وحتى أطفال الخليج يتكلمون الإنجليزية بلكنة أمريكية وقد نسوا مع الخادمات ذوات اللسان الإنجليزي لغة الضاد نهائيا...
و إذا عرفنا أنّ اللغة هي الفكر نفسه نستطيع أن نتصوّر أي أنماط فكرية و مسلكية تسود لاحقا...

-5-
عدم إهتمامنا بالأمن الثقافي وتحديدا من قبل المنتظم السياسي الرسمي جعل فضاءاتنا الفكرية و الثقافية عرضة للقصف والنسف وساهم في إنتاج الطفيليات الفكرية والثقافية، و بروز الأقليات الفكرية الشاذة التي تريد أن تربط الأمة بالدبّابة الأمريكية و الأغنية الأمريكية و طريقة الحياة الغربية بسيئاتها، وهذا الرهط من الطفيليين بدل أن يركزّ على محاسن الحضارة الغربية من قبيل إحترام الوقت و إرخاء العنان للإبداع التقني، يركّز على مساوئ الحضارة الغربية و يطالب بأن تلتقي هذه المساوئ بمساوئنا ليتسنى لنا صناعة النهضة،،،
و يصرف هذا النظام الرسمي العربي ملايين الدولارات على الفضائيات أو الغنائيات، التي برعت في الفن والطرب فقط، ويوجد بعض البرامج في بعض الفضائيات أو الغنائيات يكلّف مئات آلاف من الدولارات و يعطى لهذا المطرب أو ذينك المطربة عشرات آلاف الدولارات مقابل المشاركة في البرنامج، و لم نسمع أن نفس القيمة أو أقلها أعطيت لأديب مبدع، وقد سألت مدير فضائية عربية عن سر إحتضان الفنانات و الفنانين وتغييب المثقفين والمبدعين، فقال لي بهمس ndash; وكان يظن أنّ غرفته الفاخرة يتنصت عليها ndash; إنّها توجيهات الجهات العليا..
فقلت له : عجيب الجهات العليا مع الجهل و التجهيل، و ضد الثقافة والمثقفين، و عندما خاف خوفا شديدا أمسكت عن الكلام، لكنّه أقيل بعد فترة من منصبه....

-6 ndash;
إلتزام الجماهير بإيديولوجيا معينة يؤرقنا و الوعي والتنوير مصطلحات تجلب لنا المتاعب، و الجماهير المنقادة وراء فيفي عبدو وهيفاء وهبي ونانسي عجرم هي أسلس و أسهل على نظامنا وأجهزتنا الأمنية، بهذه العبارة يفسّر أحد صناع القرار في العالم العربي سبب إنغماس الجهات العليات في دعم كل ساقط في العالم العربي، ففي ظنه أنّ تغييب الثقافة الجادة يدخل في سياق الحفاظ على الأمن القومي الذي قد تهزّه قصيدة جادة أو رواية أصيلة أو مسرحية شعبية، ويقول لي هذا المسؤول العربي وكان جالسا على كرسي وثير، أنّ الحكم كنسائنا من نظر إليهن بشزر قتلناه..
المعادلة التي تحدثّ عنها المسؤول إياه تفسّر لماذا تراجع المسرح و القصة والرواية و الفن التشكيلي و الأعمال الدرامية الجادة والصحافة الهادفة البناءة و الإعلام المرئي المتألق، و هذا التراجع لم يؤد إلى خرم الأمن الثقافي فحسب، بل أفضى إلى وضع مزري وخطير يعيشها معظم المبدعين الملتزمين، و الرئيس العربي يستأنس عندما يبعث راقصة للعلاج في الخارج ولا يسعف أديبا روائيّا أصيب في كبده المتقطّع بفعل الإنهيارات الكبرى والذي يجمع له أصدقاؤه تبرعات للعلاج من هنا وهناك..

-7-
في كتابه الرائع طبائع الإستبداد، يقول عبد الرحمان الكواكبي أنّ الحاكم عدو التنوير والعلم و الثقافة و الحضارة وصديق الجهل والظلام و العتمة و الإستبداد...
ويمكننا أن نستصحب كلام عبد الرحمان الكواكبي على راهننا العربي الغارق في أناشيد الحكام وسلمّ على الواوا.............