التحرير، الذي أرادت واشنطن له أن يتحول إلى quot;انعطافة كبرىquot; في تاريخ العرب والعجم، وأن يكون quot;اللبنة الأولىquot; في مشروع (الشرق الأوسط الكبير)، يبدو إنه الآن وبعد مرور 4 سنوات عجاف دامية، قد تحول للعنة حقيقية باتت تلاحق فريق الرئيس جورج بوش، وتصدّع رأس الشعب الأميركي، الذي quot;سئمquot; أخيراً من quot;التكرار الممّلquot; للنشرات الخبرية الدائمة: مقتل عشرات (وأحياناً مئات) العراقيين في تفجيرات إنتحارية أو صدامات مسلحة!.
وفي توصيف ماحدث منذ 9 نيسان 2003 عند دخول بغداد وإسقاط الصنم ذاك، ومروراً بابتعاث بول بريمر الذي أدار العراق كما يدير عزبة صغيرة تخاصم أهلها، إلى تشكيل فرق الموت السنيّة والشيعية، والبدء في quot;قطف الرؤوس اليانعةquot;، ينبغي للمرء أن يتوقف عند أخطاء واشنطن كثيراً، وعند هيستريا الموت المنبعثة من تاريخ وتراث ونصوص الأمة الصفراء تلك، أيضاَ!.
لقد ارتكبت واشنطن أخطاءاً قاتلة في العراق، وتعاملت معه دون دراية، وبسذاجة مدهشة أدت لبروز مانراه اليوم من كوارث. ففي البداية، عينت واشنطن quot;خبير الإرهابquot; لديها بول بريمر، والذي قام بحل الجيش وتحويل مئات الآلاف من الموظفين والمسؤولين البعثيين، والجنود وصف الضباط المتمرسين في الحرب، والذينّ قضى بعضهم نصف عمره في الحروب والمواجهات، للشارع، ليكون مستقبلهم ومستقبل عوائلهم على كف عفريت!. وتزامن ذلك مع تقاطر الآلاف من رجال، ورجال رجالquot;معارضة الخارجquot; والذين أظهروا بذخاً فاضحاً، مستولين على كل المناصب، ومستأثرين بكل الكعكة العراقية( هذا قبل أن تظهر قضية الإختلاسات الملياريّة من ميزانية الدولة الجديدة). بهذا الشكل أسسّ حاكم العراق الأميركي الأرضية المناسبة لإحتضان هؤلاء الضباط وعوائلهم وعشائرهم( وهم في الأغلبية الساحقة من العرب السنّة) لرجال تنظيم (القاعدة) الإرهابي، والذيّ صوّب جل إهتمامه للعراق، معرفاً إياه quot;بساحة المقارعة الحقيقية مع واشنطنquot;، والتي ينبغي فيها quot;حصد رؤوس الأميركانquot; وإفشال مشروعهم التدخلي/التغييّري الأول في المنطقة. وهنا بدا الفريق الذي تضرّر من عملية سقوط صدام وتٌرك على الهامش هائلاً ويشكل الأغلبية الساحقة في محافظات عراقية شاسعة في الوسط. وكان لابد ان يساهم هؤلاء في مقاومة الواقع الجديد، والذيّ أحسّوا( وساعدهم في ذلك الإعلام العربي التحريضي الموجه) بأن البلاد أخٌذت منهم وباتوا أمام واقع حال يقول إنهم أصبحوا من quot;مواطني الدرجة الثانيةquot;، بعد أن كانوا السادة المقدرين في البلاد.
والحال أن هؤلاء قاموا بتشكيل تنظيمات طائفية اصولية، وساهموا في توفير الملاذ الآمن لمسلحي (القاعدة) الذينّ وجهوا مفخخاتهم لصدور العراقيين الشيعة وquot;المحتلين الأميركانquot; على السواء: في مشاهد يومية دامية، لايمكن وصفها سوى بالحرب الأهلية المستعرة.
كما تبين للعيان فشل quot;الخطاب الوطني العراقيquot;، من ذاك الذي كانت المعارضة العراقية تنادي به وتتفق وفق مرجعياته في مؤتمراتها الكبرى في أوروبا واقليم كردستان، على إستقطاب الأصوات والتأييد في الشارع العراقي. وبعد الإنهيار، اضمحلت الأحزاب الوطنية العراقية، وتصدرّت الأحزاب الطائفية المشهد مسيطرة على البرلمان وquot;لجنة سن الدستورquot; والوزارات السيادية، كما استلمت ملف وأسرار النفط أيضاً. ولم نعد، والحال هذه، نسمع الكثيرعن شخصيات مثل الشريف علي بن الحسين، عدنان الباججي، نصير الجادرجي، وأحمد الجلبي، وغيرهم من رجالات quot;المعارضة الوطنيةquot;. بينما تصدرّت أسماء مثل حارث الضاري، صالح المطلك، خلف العلياّن، مقتدى الصدر، وغيرهم من رجالات الأحزاب الطائفية التي لفظها المجتمع العراقي المشحون طائفياً، المشهد السياسي في البلاد، وراحت تلعلع على الفضائيات العربية كل يوم، وهي تبث خطابها الطائفي، التحريضي، المنغلق ذاك.
هذا في الحين الذي كان لتنظيم (القاعدة) أيضاً رجالاته، من الذينّ صار لهم شأن في ضرب المشروع الأميركي في المنطقة من العراق، من أمثال الهالك أبو مصعب الزرقاوي وأبو أيوب الأنصاري وغيرهم...
لقد افلتت الأمور من ايدي الأميركان، وبات من الواضح ان العراق يتجه نحو الهاوية حيث الحرب الأهلية/المذهبية المجنونة مشتعلة، وفرق الموت تجز رقاب الأبرياء على الهوية والمنطقة والحارة. وأصبح الكرد وقادتهم هم من يتدخل بين عرب العراق quot;لإصلاح ذات البينquot; وquot;اقناعهم بالعودة لبغداد واقامة الحكومة المركزية القويةquot;، بعد ان كان الجميع يتوجس منهم ويعتقد انهم سيكونون اول من يبادر في إعلان الطلاق وبالثلاثة مع العراق العربي، الذي لم يروا غير الموت والخراب طيلة فترة الزواج القسري معه.
الولايات المتحدة سئمت من العراق ومن أخباره ذات اللون والرائحة نفسها. ولايمكن أن تتحمل واشنطن الخسائر البشرية والمادية المكلفة إلى مالانهاية. لكن الجانب الآخر في القضية هو نوعية الإستجابة العراقية( والعربية بالتالي..) مع المشروع التغييّري الأميركي في المنطقة. فواشنطن وان كانت قد عمدت للتدخل في العراق وافغانستان من اجل مصالحها والقضاء على الإرهابيين ومموليهم كما قالت، الاّ أنها حررّت الشعبين العراقي والأفغاني من نظامين مجرمين، دمويين، قتلا الملايين من الأبرياء.فكيف تعاملت شعوب هذين البلدين مع هذا التدخل، وهل جيّرت هذه الشعوب السياسة الأميركية الجديدة لخدمة مصالحها؟. الجواب بالطبع لا.. وهذا يظهر حجم الخراب الذي نراه يومياً في بغداد وكابول. لقد رفضت هذه الشعوب الخدمة الأميركية وصدّت الفرصة الذهبية للنهوض وبناء مجتمعات حديثة( كما في حالتي اليابان والمانيا) لأسباب دينية في المقام الأول. رفض المساعدة الأميركية جاء لأنها آتية من بلد غير مسلم، وquot;كافرquot;، حسب المفاهيم العنصرية المستقاة من نصوص التراث الصفراء. وهذا يذكرنا بواقعة تاريخية أخرى، ومن العراق نفسه، وهو مقاومة الشيعة في ثورة العشرين للبريطانيين دفاعاً عن السلطنة العثمانية السنيّة التي أذلت الأكثرية الشيعية في العراق طيلة 400 عام بإسم الإسلام والخلافة الإسلامية.
والآن ثمة واقع جديد يتشكل في المنطقة. لقد ايقظ تدخل واشنطن في العراق الفتنة العربية/ الإسلامية النائمة بين شقوق أرض الشرق بكلامها المعسول عن quot;التغيير الديمقراطيquot; وquot;إعادة رسم الخرائطquot; وما إلى ذلك من كلام جديد ينتهك الرتابة التوتاليتارية الإسلامية. أصبحنا الآن أمام واقع يعود بنا القهقرى الى الطائفة والمذهب والدين والقبيلة. هناك تحفز وحذر يخيمان على معظم التكوينات الدينية والعرقية في الشرق الأوسط، والسبب هو كلام واشنطن عن quot;الحريةquot; وquot;العدالةquot; وquot;توزيع السلطة والثروةquot;. العرب والمسلمون لم يتعودوا سماع مثل هذا الكلام. هم شعوب قضت عمرها في الحروب والصراعات، وكانت عبر تاريخها، الذي هو تاريخ الفتن الكبرى بإمتياز، تخرج من حرب لتقع في أخرى أكثر دماراً ودمويةً. لقد كانت quot;الفتنة الكبرىquot;، ومن ثم مذابح quot;الفتوحات الإسلاميةquot; ضد سكان quot;البلاد المفتوحةquot;، والتي اختتمت بصراع السادة العرب على الحكم والكرسي، وإعمالهم السيف في نحور بعضهم البعض، كما تحدثنا امهات كتب السيّر والأخبار. ومن ثم جاءت مذابح العثمانيين ضد الروم واليونانيين المسيحيين، ومن ثم الجريمة الكبرى في إبادة الأرمن عن بكرة أبيهم، وتقتيل الكرد السنّة الثائرين ضد دولة quot;اتاتوركquot; الجديدة، وذبح الكرد العلويين وإفناء الكرد الإيزيديين في quot;فرماناتquot; مشهورة. والمذابح التي وقعت بحق الآشوريين والسريان، والتي نتجت عنها إفراغ بلاد ميزوبوتاميا منهم بشكل تام. كل هذه الحوادث هي من تاريخنا، هي من ثقافة الفتنة quot;المنبنية شرعاًquot; على النصوص التراثية/الدينية المهلكة تلك. جاءت واشنطن الآن لتدغدغ فتنتنا النائمة وتستنهضها بحديثها عن quot;حقوق الأقلياتquot; وquot;الفيدراليةquot; وquot;الحكم الذاتيquot; وquot;الحماية الدوليةquot; وquot;تغيير الخرائطquot;. وهو الأمر الذي أعاد كل منا إلى عصبيته الأولى، والتخندق خلف القومية والدين والطائفة، والتحفز ضد الشريك/الغريم في الأرض والمصير، بحيث ينقض كل منا على الآخر مع أول كلمة استفزاز. هذا هو تاريخنا بإختصار، وهذه هي فتنتنا التي كانت نائمة، أوهكذا أردنا لها أن تكون في قرارة نفسنا، فجاء الأميركان و جرجوها من بين صفحات كتبنا القديمة، ليوقظوها في 9 نيسان 2004 مع اسقاطهم وركلهم لتمثال صدام حسين!!.
التعليقات