بسم الله الرحمن الرحيم
1 ـ كان حلم الطالب انور السادات ـ فى ثلاثينيات القرن الماضى ـ أن يكون ممثلا. وجاءته الفرصة الأعظم حين تولى رئاسة مصر، فأدمن الوقوف أمام الكاميرا، وأدمن أن يمثل أمامها كل الأدوار التى تحلو له، دور الرجل الحكيم، وكبير الأسرة، والأب الذى يخاطب ابنته قائلا (يا همت يا بنتى) والسيدة همت فى ذلك الوقت كانت مذيعة تليفزيونية عتيقة تقترب من الستين، ولكن السيناريو جعلها ابنة للسادات. وكان يكشر عن أنيابه (الديمقراطية) متوعدا أولئك الذين أعطاهم الحرية بأن (يفرمهم). وقبل أن يظهر أمام كاميرات كان السادات ـ كأى ممثل عريق ـ يستوثق من كل شىء من الملابس و الاكسسوارات، ويستعد لالقاء الدور الذى رسمه لنفسه حيث كان هو البطل و المؤلف و المخرج، أما المشاهدون فقد كانوا على اتساع العالم.وبطريقته التمثيلية استطاع أن يجذب انتباه العالم ـ بحكم أنه يعيش فى أكبر منطقة ساخنة بالعالم، ويقود فيها أكبر دولة فى الصراع العربى الاسرائيلى.
2 ـ حياة السادات حلقات من المسلسلات الدرامية لعب فيها كل الأدوارالمتناقضة وتفوق على كل نجوم الشاشة المصرية. نجوم الشاشة المصرية تميزوا بالتخصص فكان اسماعيل يس وشكوكو مثلا للكوميديا بينما كان محمود المليجى وعادل أدهم لأدوار الشر، ومحمد توفيق ويونس شلبى لأدوار المتخلف عقليا، وفتيان الشاشة ـ من أنور وجدى الى حسين فهمى ـ فقد كانوا للحب و تقبيل حسناوات السينما. أما السادات فى حياته العملية فقد قام بتمثيل كل الأدوار المتناقضة. قبل الثورة لعب دور الخائن حيث انضم للحرس الحديدى لحماية الملك فاروق، ولعب ايضا دور الضابط الوطنى فانضم لتنظيم الضباط الأحرار.، و لعب دورا من أفلام الجاسوسية مع حكمت فهمى ضد الانجليز لصالح الألمان، ولعب دورا آخر فى خلية سرية قامت باغتيال أمين عثمان أحد كبار المؤيدين لانجلترة، وفى المحاكمة أتيح للمتهم السادات أن يؤدى واحدا من أعظم أدواره الوطنية.
فى رئاسة عبد الناصر لعب السادات دور التابع المسكين الذى يوافق دائما فوثق به عبد الناصر وأبقاه الى جانبه بينما أبعد الاخرين، و بذلك وصل السادات الى الحكم فقام باعظم أدوار حياته ممثلا كل الأدوار التى يحبها، دون رقيب ودون اهتمام بما يريده الجمهور. المهم عنده أن يصبح حديث العالم وفى واجهة الصفحات الأولى للاعلام.
أثناء قيامه بتمثيل دور رئيس مصر حاز السادات لقب (أشيك رئيس فى العالم) لأنه كان يتصرف كممثل و ليس كرئيس مصرى ينتمى لشعب فقير، ومولود فى قرية بائسة اسمها ميت ابو الكوم.
أثناء قيامه بتمثيل دور رئيس مصر اصطنع السادات سياسة جديدة كانت فى الحقيقة اسلوبا معروفا فى صناعة السينما جمع بين التسويق السينمائى والتشويق السينمائى ؛ أسموه فى السياسة اسلوب الصدمة، أى يفاجىء العالم بشىء يذهل صناع السياسة العالمية الذين هم ـ لفرط جهلهم ـ يحسبون السياسة علما له قواعد وأصول فيفاجأون باجتهادات سياسية جديدة تقلب موازين عقولهم، وتختلط فيها الفهلوة المصرية بفن لعب الطاولة وحرفية الأكشن الهابط فى افلام حسام الدين مصطفى ولوعة الميلودراما الزاعقة فى أفلام حسين الامام. ولأن صناع السياسة العالمية لم يدرسوا الفهلوة المصرية ولم يجلسوا على قهوة فى العتبة يلعبون الطاولة و لم يدخلوا سينما دوللى فى شبرا فانهم كانوا لا يجدون تفسيرا للصدمات السياسية الساداتية الدرامية ؛ تهرع لهم أجهزة الاعلام فلا تجد لديهم تفسيرا، فلا مناص من أن يذهبوا الى السادات ـ أبرع حواة القرن العشرين ـ فعنده الخبر اليقين، فيبيع لهم شربة الحاج محمود التى تطرد الدود و تعمى عين الحسود..!!
تحج اليه أجهزة الاعلام العالمية فيعقد المؤتمرات ويوزع الابتسامات و يفرفط الوان الحكم و العظات فاصبح النجم العالمى فى دراما السياسة الدولية.. فاجأ العالم بتصريحات متكررة قبل حرب اكتوبر عن عام الحسم و فتح قناة السويس التى كانت اسرائيل تحتل شاطئها الشرقى، ثم فاجأ العالم بحرب اكتوبر ـ التى وصفوها فيما بعد بانها كانت مجرد تمثيلية بطلها كان الممثل العالمى أنور السادات، و فى مقابل النصر الهزيل الذى حصل عليه أعطوه سيناء بنفس العرض الذى كان معروضا على عبد الناصر ورفضه بعد هزيمة 1967،، ثم جاء السادات و قبل نفس العرض بعد جولات مكثفة من المفاوضات تحت سمع العالم وبصره، و كان فيها السادات البطل الأكبر والفتى الأول فى أفلام كامب ديفيد، وتفوق على كل شركائه الذين كانوا لا يمثلون بل يقومون بمفاوضات حقيقية لخدمة بلادهم مثل كارتر ومناحم بيجن. وعندما أراد بعض وزراء السادات أن يلعبوا دور حقيقيا وليس تمثيليا فى المفاوضات طردهم، فعل هذا مع محمد ابراهيم كامل ـ صديقه القديم، واسماعيل فهمى.
وكوفىء السادات على أدواره المعقدة بأن صار صاحب أكبر شعبية فى امريكا مركز الانتاج العالمى للسينما، و قيل انه لو ترشح لرئاسة أمريكا لفاز فى الانتخابات. و فكر السادات فعلا فى انتاج أفلام على المستوى الأمريكى، لتخليد انتصاره الهزيل فى حرب اكتوبر، وقال انه يريده على مثال فيلم (أطول يوم فى التاريخ)، وكان يأسف أشد الأسف لأنه لم يقم بتصوير عبورقناة السويس ليضاف الى أفلامه الدرامية السابقة..
فى مقابل شهرته الفائقة فى أمريكا والغرب فلم يحظ باعجاب المصريين الذين أدمنوا التندر عليه والتحسر على عبد الناصر وأيامه. ولم يهتم المصريون بأمسياته المذاعة من قريته (ميت أبو الكوم)، ولم تؤد أدواره التمثيلية الا الى صفر كبير.. لقد كان الانفتاح الاقتصادى و الاحزاب و الرخاء كله تمثيل فى تمثيل. وازداد الوضع سوءا، فاضطر الى التكشير عن أنيابه الديمقراطية و قرر أن يمثل دور محمود المليجى فقام بما أسماه ثورة الخامس من سبتمير سنة 81 التى اعتقل فيها عشرات الألوف من المصريين لمجرد معارضتهم لأدواره الفنية ولقيامه بالتمثيل دون أن يعمل رئيسا حقيقيا لأكبر بلد عربى.
وهنا جاء مشهد النهاية فى حياة هذا الممثل العبقرى. أنهى السادات حياته بدور مختلف عن أدواره السابقة، لأنه لم يكتب فيه نهايته. جاءت نهايته فى أخر عرض عسكرى أقامه كفيلم درامى وتسجيلى فى نفس الوقت. جاءت نهايته أمام أعين العالم وهو ينظر متفاخرا وسط الملأ. كان قد أعد السيناريو كالعادة بنفسه، حيث هو البطل الأوحد المحاط بكومبارس داخل المنصة و خارج المنصة، بينما ديكورات العرض (العسكرى)من الدبابات و المدافع و الطائرات تكمل المشهد وتزيد من (واقعيته). وقبل أن يبدأ العرض العسكرى صدرت صحيفة المساء الحكومية تتحدث مقدما وتنشر الخبر المعتاد أو السيناريو المعتاد من حضور الرئيس العرض العسكرى وسط جنوده الأبطال وعودته الى بيته وسط مظاهر الترحيب و الهتافات،،الخ،،الخ. وقت أن كانت صحيفة المساء فى أيدى الباعة كان السادات ينظر فى العرض العسكرى مبتسما مقلدا الممثل الراحل أنور وجدى، وهو لا يعرف أن هناك فيلما آخر يحاك من وراء ظهره، يقوم باخراجه أبناؤه من القوات المسلحة الذين ملّوا من التمثيل و أرادوا أن يقوموا بعمل حقيقى هو اغتيال السادات الذى كان أكبرعمل حقيقى يقومون به، وليس مجرد (دور يلعبونه).
3 ـ كان بامكان السادات أن يصبح رئيسا حقيقيا ـ وليس مجرد شخص يمثل دور الرئيس.
كانت الثورة المصرية قد أدت دورها، وآن للحكم العسكرى أن ينزاح عن كاهل المصريين. وقيل كلام كثير وجميل عن الشرعية الثورية التى انتهى دورها، ومجىء الشرعية القانونية لتحل محلها. أى تهيأ المناخ أمام مصر ـ ومن خلفها بقية الدول فى العالم العربى ـ لتدخل عالم الديمقراطية بخطى ثابتة. وتوقف الأمر على السادات. كان عليه إذا أراد أن يكون رئيسا فعلا أن يختار طريقه و يتصرف على أساسه كرئيس حقيقى مستبد أو ديمقراطى.
إذا أراد أن يكون رئيسا حقيقيا ديمقراطيا فقد كان واجبا عليه أن يقيم أسس التحول الديمقراطى الحقيقى فى التشريع والتعليم والاعلام ليؤسس اصلاحا جذريا وفق خطة زمنية محددة، ولكنه لم يفعل. أختار أن يمثل فقط دور الرئيس الديمقراطى، وأن ينشىء ديكورا للديمقراطية يتكون من مسرحين كبيرين، هما مجلس الشعب ومجلس الشورى، ومهمتهما التصفيق له حين يؤدى أمامهما أحد أدواره و خطبه التى كان يتفنن فى إلقائها، والتى كان يتفوق فيها على الممثل الراحل يوسف وهبى.!!.
كان بامكان السادات أيضا أن يكون رئيسا مستبدا صريح الاستبداد مثل سلفه عبد الناصر. وكان يمكن أن يتحجج بعشرات الحجج فى استمرار الاستبداد، وعندها كان المصريون سيتعاملون معه على أنه رئيس مستبد، أى رئيس حقيقى ولكن مستبد، وهذا ما يحدث الان مع حسنى مبارك الذى يتصرف على طبيعته حاكما عسكريا مستبدا رافضا للديمقراطية برغم كل ما يلقاه من ضغوط وما يلاحقه من لعنات. هو ـ أى حسنى مبارك ـ يتصرف على حقيقته رئيسا مستبدا صريحا وبتلقائيته وبدون تمثيل.
إلا إن السادات لعب دور المستبد حينا ودورالديمقراطى حينا، فكان يحلو له أن يناقش الآخرين ليمثل دور الديمقراطى ثم لا يلبث أن يثور عليهم صارخا : إلزم مكانك، وهنا يقوم بدور المستبد الطاغية؛فعل هذا مع عمر التلمسانى زعيم الاخوان المسلمين، وفعل مثله مع كمال أحمد زعيم الشباب الناصرى.
ثم تفنن فى أداء أدوار أخرى، فكان يحلو له أن يمثل دور كبير العائلة فى الأسرة المصرية فيأمر وينهى، ويرتدى الجلباب البلدى للفلاح المصرى، ثم يخلعه ليرتدى زى القائد الأعلى للقوات المسلحة. و فى النهاية أصابه الملل من هذه الأدوارالعصرية فقال إنه يسيرعلى منهج عمر بن الخطاب، أى يريد أن يمثل دور عمرابن الخطاب.
4 ـ لعب السادات كل الأدوارالمتنوعة و المتناقضة،ونجح فى كل أدواره، وصفق له العالم الخارجى على أدائه الرائع.. ولكن هذا الأداء التمثيلى الرائع كان صفرا فى الانجازات السياسية، فقد صالح أسرائيل وعادى أبناء وطنه الأقباط، وحقق أكبر أمنية لأمريكا بطرد الخبراء السوفيت دون أن يأخذ مقابلا من أمريكا، فى نفس الوقت الذى كان الجيش المصرى يعتمد فى معظم سلاحه على الروس، ويلزمه سنوات وسنوات للتاقلم مع السلاح الأمريكى، إنحاز للأغنياء ونسى الفقراء الذين جاء منهم، وفى النهاية قاطعه العرب جميعا وقاطعه المصريون فقام بآخر فيلم (آكشن) حين اعتقل معظم المعارضين المصريين، فى 5 سبتمبر فقتله الجيش المصرى فى 6 أكتوبر التالى، ولم يحضر جنازته سوى حفنة من الأجانب يتقدمهم الرئيس السودانى السابق جعفر نميرى..وكان هذا هو الصفر الذى حصل عليه السادات رئيسا، مع استحقاقه للأوسكار كأعظم ممثل مصرى..!!
5ـ تفوق السادات فى التمثيل على الرئيس الأمريكى ريجان.
الواقع أنهما كانا على نقيض..
ريجان كان ممثلا فاشلا برغم أدوار البطولة التى قام بها فى هوليوود. حين كان ممثلا فانه كان يقوم بعمل سياسى ـ فى نظره ـ هو التعاون مع الجهات الرسمية فى مطاردة الشيوعيين فى هوليوود أثناء لوثة المكارثية التى أصابت أمريكا. فى ذلك الوقت عبّر الممثل ريجان عن شخصيته الحقيقية سياسيا جمهوريا محافظا صاحب رأى يعبر عن الاتجاهات الحقيقية للأمريكى الانجلوسكسونى الرأسمالى المسيحى. و لم يطق الممثل رونالد ريجان الاستمرار فى مهنة التمثيل، وأحس بغربته عن هذا العمل، فاعتزل التمثيل و دخل فى دنيا السياسة، فنجح وتألق، الى أن صار من أبرز رؤساء أمريكا فى النصف الثانى من القرن العشرين. أى رسب كممثل، ولكن نجح كرئيس.
أما السادات فقد نجح كممثل وفشل كرئيس. نجاحه كممثل كان فريدا لأنه لم يمثل فى السينما أو التليفزيون أو المسرح، قام بالتمثيل علينا و على نفسه فأضاع نفسه وأضاعنا..(الله يرحمه !!).
6 ـ وبالتمثيل حقق السادات أعظم المستحيلات فى حياته وهما إثنان : زواجه بفاتنة عصرها جيهان، ووصوله لرئاسة مصر.
كل المعطيات تقول أنه كان مستحيلا أن يتزوج السادات من جيهان. جيهان كانت فتاة من طبقة مختلفة، مراهقة وصاعقة الجمال (ويقال إنها كانت مخطوبة لضابط ملازم صغير السن وسيم من طبقة أرقى، هو مصطفى كامل مراد، الذى أصبح فيما بعد رئيس حزب الأحرار). هذه المراهقة الصغيرة الحسناء نصف الانجليزية لا يمكن أن تتزوج شخصا مثل أنور السادات الذى تعدى الثلاثين وقتها و كان مطاردا من البوليس، ويعمل بيده ليكسب قوته، وقبل ذلك فهو متزوج من قريته وله عدة بنات. هذا المستحيل قهره السادات بالتمثيل. لعب دور العاشق الولهان على السيندريلا الصغيرة فأحبته وتمسكت به وتحدت أسرتها من أجله فوافقوا على زواجه منها على مضض..
المستحيل الثانى هو وصوله الى رئاسة مصر.وهو يحتاج الى مقال منفرد.
كان يجب عليه بعد وصوله للرئاسة أن يكف عن التمثيل وأن يتصرف كرئيس حقيقى ـ ولكن التمثيل كان قد تمكن منه وأدمنه فظل يمثل علينا و على نفسه حتى صرع نفسه بنفسه.
وانتهى الفيلم يا ولدى..!!
7 ـ وبعد مصرعه تظل إثنتان من أكبر أخطائه تحطمان حياة المصريين حتى الان، وهما :
الأول : أنه أصدر دستور 1971، وهذا الدستور مجرد سيناريو كوميدى هابط من نوع الفارس، يعطى الدور الأكبر للرئيس، فهو الذى يملك كل شىء ويتحكم فى كل شىء، ويظل هكذا طيلة حياته، ثم لا يكون مسئولا أمام أحد. أى أن السادات الممثل هو الذى قام بتفصيل سيناريو الدستور على مقاسه، فأعطى لنفسه كل شىء، ولعب دورالبطل والمخرج والمنتج و المصوروالمؤلف والكومبارس و الجمهور. ولأنه لا يشاهد فى الدنيا سوى نفسه فقد افترض أنه سيظل حيا الى قيام الساعة فجعل مدة حكمه بلا نهاية.
الثانى : أنه اختار الضابط حسنى مبارك نائبا عنه، فأتاح له أن يصبح هو ـ أى حسنى مبارك ـ رئيس مصر بالصدفة المحضة، فحكمها ـ هو أى حسنى مبارك منذ 1981حتى الآن متمتعا ومستبدا بهذا الدستور الالهى،ومسلحا بقوانين الطوارىء. ومع أنه ـ أى حسنى مبارك ـ لا يجيد التمثيل ولا يعرف الفرق بين نعيمة عاكف ومهدىعاكف، إلا أنه أيضا ـ أى حسنى مبارك ـ تعلم من تجربة السادات أن يبتعد عن المنصة وعن سياسة الصدمة وأن يمسك العصا من منتصفها طلبا للسلامة..
ولا يزال هو ـ أى حسنى مبارك ـ يمسك العصا من منتصفها.
ولا يزال هو ـ أى حسنى مبارك ـ يمسك العصا فى وجه المصريين الجوعى..!!
وهذا فيلم آخر..
فيلم هندى..!!
التعليقات