مع فشل سياسات الحماية من المنافسة الخارجية وتدخل الدولة المفرط في الاقتصاد، بدأت الدول النامية، منذ السبعينات من القرن الماضي، إصلاحات هدفها تحرير الاقتصاد الوطني ودمجه في الاقتصاد الدولي. لكن، بالرغم من تشابه الأهداف المعلنة، كانت النتائج مختلفة إلى حد كبير. استطاعت التشيلي تحقيق أعلى نسبة نمواقتصادي في أمريكا الجنوبية، وتحولت بعض الدول الآسيوية الفقيرة - بما فيها ماليزيا - إلى نمور، كما تمكنت تشيكيا ودول البلطيق، خلال سنوات قليلة، من الاندماج السريع في الاقتصاد العالمي. لكن في المقابل، نجد دولا نامية أخرى لم تحقق تقدما كبيرا، رغم إعلان حكوماتها المتكرر عن القيام بإصلاحات اقتصادية.

والحقيقة إن هذه الدول قد فشلت على مستوى التنفيذ بفشلها في إصلاح المؤسسات الضرورية لعمل اقتصاد السوق (الإدارة العمومية، هيئات تطوير الاستثمار والصادرات، المصارف وأسواق راس المال)، والبنية التحتية (إدارة الموانئ والمدن الصناعية...) وقطاع التعليم والتكوين المهني. ومن هنا يأتي السؤال لماذا تفشل بعض الدول في اعتماد الإصلاحات المؤسسية التي يوجد إجماع على أهميتها؟ يركز هذا المقال على الدور الأساسي للنخبة.

لا بد من التأكيد من البداية على أهمية الالتزام السياسي من السلطة العليا. مثل هذا الالتزام ضروري لدعم النخبة التي توكل لها مهمة تنفيذ الإصلاحات ضد معارضة القوى المعادية التي لها مصلحة في الإبقاء على النظام الاقتصادي القديم. حصل هذا في كوريا الجنوبية، حيث قاد الجنرال quot; بارك شونج هي quot; الإصلاحات الاقتصادية بنفسه منذ الستينات من القرن الماضي، وفي التشيلي - بزعامة الديكتاتور بينوشيه - وباقي أعضاء الطغمة العسكرية، وفي دول أوروبا الوسطى بعد انهيار الشيوعية. ويمكن أن نقول نفس الشيء بالنسبة لإصلاحات التحديث الجذرية التي قادها الحبيب بورقيبة في تونس منذ حصول الدولة على الاستقلال عام 1956.

في بعض الحالات، يمكن للنخبة التأثير على القيادة السياسية نفسها، سواء بالتركيز على أهمية الإصلاح والقدرة على تنفيذه وا نجاحه، أوبالتشكيك فيه وتضخيم الصعوبات المرتقبة والانعكاسات الجانبية السلبية - على المدى القصير -.

تقع المسؤولية الأساسية على النخبة في تنفيذ الإصلاحات التي تحظى بموافقة السلطة السياسية العليا. واصغر حلقة على هذا المستوى تتمثل في ما يسمى quot; الفريق الاقتصادي quot; الذي يتكون من الوزراء ذوي العلاقة والمسؤولين الرئيسيين عن المصرف المركزي وأجهزة تطوير الاستثمار وغيرها... وتتوفر افضل احتمالات النجاح عندما يكون هذا الفريق منسجما (نفس الخلفية والأهداف) وعلى مستوى عال من الدراية بالشؤون الاقتصادية الدولية. وهذا ما اقتنعت به الطغمة العسكرية في التشيلي عندما شكلت فريقا اقتصاديا مما سمي آنذاك quot; فتيان شيكاغوquot;، المنسجمين بحكم خلفيتهم التعليمية الموحدة كخريجي أقسام الاقتصاد في كبرى الجامعات الأمريكية. وحصل نفس الشيء في دول أوروبا الوسطى بعد انهيار النظام الشيوعي، كما اقدم الملك السابق لبلغاريا على نفس الخطوة اثر نجاح حركته في الانتخابات، عندما استقدم كفاءات شابة تعمل بكبرى بنوك الاستثمار بلندن واوكل لها اهم الحقائب الوزارية.

في المقابل، تفشل بعض الحكومات في حسن اختيار الفريق الاقتصادي. في تركيا، فشلت الحكومات العسكرية والمدنية المتعاقبة على هذا المستوى، مما انعكس سلبا على وتيرة النموفي هذا البلد. وتدخل صندوق النقد الدولي لتعيين نائب سابق للبنك الدولي quot; كمال درويش quot; وزيرا للاقتصاد في نهاية التسعينات من القرن الماضي. وفي مصر بقي د. يوسف بطرس غالي - خريج معهد ماساشيوستس للتكنولوجيا ووزير التجارة - صوتا وحيدا ومعزولا داخل الحكومة، مما افشل الإصلاحات الاقتصادية لسنوات طويلة في هذا البلد.

إذا كان الفريق الاقتصادي يلعب دور راس الحربة، فالنخبة التي يقوم الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي على كاهلها هي أوسع من ذلك بكثير. وهنا تلعب المؤسسات دورا سواء في جلبها وإعطائها الفرصة للمساهمة، أوبتهميشها وحتى طردها من البلاد. أحد أهم الأطر المؤسسية المشجعة للنخبة تتمثل في توفير القطاع العام رواتب تنافسية - مقارنة بالقطاع الخاص - والشفافية في الترشح للمناصب القيادية. لذلك نجد دولة مثل سنغافورة تعرض على الوزراء رواتب سنوية تفوق 150 ألف دولار أمريكي، ويفوق الراتب السنوي لوزير المالية بهونج كونج المليون دولار، كما يتم الإعلان عن توظيف محافظ البنك المركزي بنيوزيلندة في كبرى الصحف العالمية ولا يشترط في المتشح أن يكون حاصلا على الجنسية. بينما التعيين - من فوق ولاعتبارات غير مهنية - المعمول به في الدول العربية يحكم على النخبة بالتهميش وحتى الطرد، مما يتجلى في هجرة الأدمغة العربية إلى الخارج.

لقد تأخرت الدول العربية في عملية الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، ومن المهم أن تدرك اليوم الدور الذي يمكن أن تلعبه النخبة إذا ما أتيحت لها الفرصة، واعتماد السياسات والمؤسسات المشجعة على ذلك.

كاتب المقال محلل ايلاف الاقتصادي، باحث اكاديمي وخبير سابق بصندوق النقد الدولي.
[email protected]