-1-
لا يفتأ الإعلام العربي بكل وسائله، أن يردد صباحاً ومساءً بضرورة انسحاب القوات الأمريكية من العراق، باعتبارها قوات احتلال عسكري. ويردد هذا النداء أيضاً كل من الإعلام الغربي، وخاصة الإعلام اليساري، والإعلام الأمريكي التابع لماكينة إعلام الحزب الديمقراطي. والقاعدة في هذا النداء أو في هذه الرغبة، هي أن القوات الأمريكية الموجودة الآن في العراق هي قوات احتلال، وليست قوات تحرير. ولو تم اعتبارها على أنها قوات تحرير، لما طالب كل هؤلاء بانسحاب هذه القوات من العراق.
هذا بالنسبة للغرب. أما بالنسبة للعرب فهذه قوات صليبية، ولو كانت قوات عربية كما كانت سوريا في لبنان، أو قوات احتلال اسلامية كما هي ايران في جزر الإمارات العربية الثلاث الآن، أو كما كان العثمانيون طيلة أربعة قرون (1517-1918) في العالم العربي، لما طالب أحد بانسحاب هذه القوات، على النحو الذي يتم الآن.
-2-
لقد سبق وكتبنا عدة مرات، في عدة وسائل اعلامية عربية وأجنبية، بأن العرب في قاموسهم السياسي، لا يفرّقون بين قوات الاحتلال وقوات التحرير. وأنه رغم قرار الأمم المتحدة بأن القوات الأمريكية في العراق هي قوات احتلال، إلآ أننا نزعم ونؤكد زعمنا، بأن هذه القوات هي قوات تحرير، جاءت من أجل تحرير الشعب العراقي من حكم حزب البعث، ومن حكم الطاغية البعثي الأكبر صدام حسين. ولولا هذا السبب لما جاءت القوات الأمريكية، بدعوة صريحة وملحّة من المعارضة العراقية التي طحنها وشردها صدام حسين، وكان يطلق عليه quot;كلاب العراق الضالةquot;. وكان يتعقبها في المنافي وفي دنيا الشتات العراقي، الذي أصبح في عهد الطاغية السابق، أكبر وأشد إيلاماً من الشتات اليهودي المعروف في التاريخ.
ورغم كل هذا، فما زلنا نشاهد ونسمع أدعية الرحمة والوعد بالجنة quot;لإبي الشهداءquot; الطاغية صدام حسين، من رجال الدين المنتفعين بذهب صدام ثم بذهب ابنته رغد وفضّتها، وكذلك كوادر حزب البعث في بلاد الشام واليمن ومصر والمغرب العربي، ممن نعموا بذهب صدام، وينعمون الآن بفضّة ابنته رغد الوصية الوحيدة على معبده البعثي المقدس.
-3-
وسواء كان وجود القوات الأمريكية في العراق الآن احتلالاً أم تحريراً، فهذا لا يمثل فرقاً سياسياً كبيراً، يستدعي المطالبة بالجلاء العسكري الأمريكي السريع في ظل وجود العراق في منطقة الشرق الأوسط، وفي وسط غابة سياسية، فيها وحوش سياسية كاسرة، تحاول كل يوم التهام جزء من الكعكعة العراقية، رغم وجود القوات الأمريكية فيها، فما بالك لو انسحبت هذه القوات وتركت العراق عارياً وجاهزاً لهذه الغيلان السياسية والوحوش الكاسرة، التي تنتظر هذه الفرصة منذ أمد بعيد.
لقد بدأ الوجود العسكري في كل من اليابان (47 الف جندي) وكوريا الجنوبية (37 الف جندي) والمانيا( 2 مليون جندي قبل 1989، ومليون ونصف بعد ذلك) تحريراً ثم تحول الى حماية عسكرية لهذه الدول من اعتداء جيرانها عليها. فالوجود العسكري في اليابان منذ 1945 الى الآن هو لحماية اليابان في السابق من الشيوعية العسكرية في جنوب شرق آسيا والذي يتمثل الآن في التهديد النووي الكوري الشمالي. وكذلك الأمر بالنسبة لكوريا الجنوبية. أما المانيا فقد بقي فيها الوجود العسكري نتيجة للتهديد الذي كان يطال المانيا الغربية من المانيا الشرقية قبل هدم حائط برلين عام 1989 وقبل الوحدة الالمانية عام 1990.
والحال العراقية الآن تشبه حال اليابان وكوريا الجنوبية بالدرجة الأولى. فالعبرة في ضرورة الوجود العسكري الأمريكي ليس نتيجة للفلتان الأمني داخل العراق، ولكنه نتيجة للفلتان الأمني خارج العراق، ووقوع العراق جغرافياً داخل غابة سياسية مليئة بالوحوش المتربصة بالعراق. وهذا ما أدركته قطر، حين فتحت أبوابها لانشاء أكبر قاعدة عسكرية امريكية خارج امريكا. فقطر لا تحتاج هذه الحماية العسكرية الأمريكية نتيجة للفلتان الأمني القطري الداخلي، ولكن لشعورها في السابق والآن بأنها مستهدفة من قبل غيلان سياسية في المنطقة، وكان عهد صدام حسين هو أول هذه الغيلان، وما زال في المنطقة غيلان أخرى تخشاها قطر، لذا فهي تصر على بقاء القوات الأمريكية الضاربة فيها، وكذلك هو موقف العراق الآن تماماً. فعدم الاستقرار السياسي في منطقة الشرق الأوسط عموماً ، هو الذي يبرر وجود هذا العدد الضخم من القوات الأمريكية في المنطقة، وليس المبرر هو الفلتان الأمني الداخلي. فحتى لو استقر العراق مستقبلاً في الداخل أمنياً، فسيبقى وجود القوات الأمريكية فيه ضرورة استراتيجية نتيجة لوجود نظامين معاديين جارين للعراق هما النظام الإيراني الملالي والنظام السوري البعثي. وهما أكبر تهديد لاستقرار العراق داخلياً وخارجياً.
فظلم ذوي القربى، أصبح الآن أشد خطراً ومضاضة من ظلم ذوي البُعدى.
-4-
المناداة بالانسحاب العسكري الأمريكي المبكر من العراق، حق أريد به باطل.
المتربصون بالعراق، والكارهون للعراق، والرافضون للحرية والديمقراطية في العراق، من اسلامويين وبعثيين وقومجية وناصريين وغيرهم هم الذين ينادون بانسحاب القوات الأمريكية المبكر من العراق، قبل أن يطالبوا بانسحابها من أجزاء كثيرة من العالم العربي. ولم يسبق أن طالبوا بانسحاب الاحتلال السوري من لبنان والاحتلال العراقي من الكويت والاحتلال الإيراني من جزر الأمارات العربية الثلاث.
وهؤلاء جميعاً يريدون الانفراد بالعراق. ويريدون إعادة أساليب الحكم الطاغي السابق، ولو بوجوه جديدة. ويريدون تعليق المشانق لرجال العراق الجديد. ومن يقف في وجوههم جميعاً الآن ومن يردعهم داخلياً وخارجياً هو هذه القوات ذات العصا الغليظة.
-5-
إن وجود القوات الأمريكية في العراق، وفي قطر، وفي عُمان، وفي البحرين، وفي أنحاء أخرى من العالم العربي وكذلك في اليابان، وكوريا، والمانيا، وفي أنحاء متفرقة من أوروبا وشرق آسيا وافريقيا، لم يُعق هذه الدول عن النمو والتطور والازدهار، بل ربما ساعد هذه الدول على ذلك باعفائها من نفقات الدفاع الباهظة الى الحد الذي وصل ببعض الدول الى الغاء جيشها كلية كما فعلت كوستاريكا في أمريكا الجنوبية، أو الاحتفاظ بعدد رمزي من الجيش كما فعلت قطر(7500 جندي) والبحرين (8000 جندي) وغيرها من دول الشرق والغرب، والاكتفاء بحماية الجيش الأمريكي لها من شرور جيرانها وعدوانهم.
ولكن بني قومي من أعداء العراق لا يريدون هذه الحماية للعراق. يريدون عراق الغد لحماً أحمر منزوعاًً من العظم. لكي يتم شواؤه على السيخ بكل سهولة، كما هم يحاولون في هذه الأيام.
-6-
إن العراق أصبح اليوم هو الهدف الأول للظلامية العربية من أعداء الحداثة والعصرنة والديمقراطية. فقد كان لبنان في السابق وما زال، هو الهدف للظلامية العربية ولكنه لم يعد الهدف الأول، بعد أن فاق العراق لبنان بديمقراطيته الحديثة، والتي حققها في خلال أربع سنوات فقط. في حين أن لبنان استغرق سنوات طويلة، منذ أن حاز على الاستقلال عام 1943 لكي يحقق ما حققه العراق في هذه المدة الوجيزة، وهو ما جعل العراق الآن مثار حسد وحقد الظلاميين من بني قومي عليه.
فلماذا يصبح وجود القوات الأمريكية فاكهة محرمة على العراق، بينما هذا الوجود فاكهة من فواكه الجنة المباركة، بالنسبة للآخرين من عرب وعجم؟
السلام عليكم.
التعليقات