صحيح أن المجتمع المدنى المصرى ككل لم ينمو بعد بالدرجة التى تمكنه من أن يقدم رصدا كاملا ودعما مؤثراً لحركة المجتمع المصرى فى مجالي التنمية الديموقراطية وحقوق الإنسان، فهو من جانب مازال منحصرا فى صفوة من النشطاء والمثقفين والمفكرين، وإن كانت دائرته تتسع كل يوم، إلا أنها لم تتسع بعد بالدرجة الكافية التى تسمح له بأن يلتحم بالشعب محدثا تجاوبا ملحوظا من الجماهير. ولذلك، لا يتجنى المرء إن قال أن المجتمع المدني المصري لم يحقق فى الواقع إنجازات قومية كبيرة يلمسها المواطن المصرى. ومع ذلك، فما شاهدناه من جدل ونقاش حول التعديلات الدستورية المقترحة، والتي قادها المجتمع المدني المصري، هي بادرة ملفته للنظر، وأحسب إنها لن تتوقف. أفليس quot;أول السيل قطرquot;؟
فمن كان يصدق أن يحدث فى مصر - على شكلها الذى نعرفها عليه منذ بداية السبعينات- ألا يكاد يمر يوما دون أن يكون هناك مقال أو عدة مقالات عن المادة الثانية من الدستور المصرى على صفحات الجرائد بما فيها الصحف الحكومية، و ألا يكاد يمر يوما واحدا إلا و هناك برنامج أو عدة برامج على شبكات التليفزيون و الإذاعة و الفضائيات كلها تستعرض المناظرة بين المطالبين بتعديل المادة الثانية و بين تحالف المُصِرْين على بقائها أو quot;الغير ممانعينquot; لنصها الحالي.
و لما لا نصدق، و لا يكاد يمر يوما إلا و هناك إجتماعات أو ندوات أو مؤتمرات عقدتها و مازالت تعقدها منظمات المجتمع المدنى لمناقشة قضايا المصريين الملحة بما فيها االمادة الثانية و التى تعتبر من أهم الموضوعات التى طرحت على الساحة السياسية و الإجتماعية فى مصر منذ أكثر من نصف قرن، حيث تحدد هذه المادة نظام الدولة الذى تعيش به البلاد و الذى سيعيش عليه أطفالنا و أحفادنا.
لقد أثبت المجتمع المدنى بعد ربع قرن من الكفاح و التضحيات و المثابرة أنه يمتلك القدرة على كسر الحواجز الحديدية التى وضعها النظام بين مؤسسات المجتمع المدني و بين الشعب من خلال قمع حرية التعبير و إعاقة المشاركة الفعالة فى الحياة المدنية و السياسية. لقد كسر المجتمع المدنى الجمود السياسى من أجل طرح القضايا المسكوت عنها على مائدة الحوار من أجل دفع عجلة التقدم فى مصر إلى الأمام. عقود مرت من إستخدام السلطة لأجهزة الأمن و التشريعات الغير دستورية للتنكيل بنشطاء المجتمع المدنى، ومن إستخدام أجهزة الإعلام الحكومية و الغير حكومية لتشويه السمعة و للإغتيال الفكرى لشخصيات مصرية أصيلة و نبيلة إتهمت زورا بتشويه سمعة مصر و بالخيانة و بالعمالة لدول أجنبية.
شكرا للمجتمع المدنى و نشطائه الوطنيين الذين ستتزين ميادين مصر المستقبل بتماثيل لهم تقديرا لإنجازاتهم من أجل مصر. سيذكر التاريخ هؤلاء النشطاء بحروف من نور لإرغامهم الحجر فى مصر على النطق، ولإنتزاعهم من فم الأسد حق المواطن فى الكلمة و حقه فى المشاركة فى الحوار حول مستقبل البلاد.
لا تصدق من يدعى أن كل هذه quot;الضوضاءquot; (على حد تعبير البعض) حول المادة الثانية هى من صنع النظام الحاكم، و أن الأمن هو الذى أعطى الضوء الأخضر للإعلام و أتاح عمدا الفرصة للحوار حول المادة الثانية حتى يشغلنا عن محاولاته القائمة للعبث بالدستور و quot;تمريرquot; تعديلات توهن من الحقوق الدستورية الحالية و تضمن إنفراده بالسلطة و إحتكاره لها بشكل أكبر.
المطالبة بتعديل المادة الثانية تناقش رغما عن أنف و غطرسة النظام الديكتاتورى المستبد بالسلطة، و رغما عن العنف و الإرهاب الفكرى والبدنى الذى يمارسه البلطجية من كل من معسكرى السلطة و أصحاب الحقيقة المطلقة.
و حتى لو كان تشتيت الإنتباه هو خطة النظام فلا عجب. و لكن الحقيقة تبقى أن المجتمع المدنى قد نجح فى إرغام أباطرة النظام على النزول من أبراجهم العاجية لمواجهة المجتمع المدنى على ساحة الفكر. لا يهم أنهم قد نزلوا من تلك الأبراج فقط بعد quot;إذن السلطانquot; و بمساحة محددة من الحرية من أجل المراوغة، و لا يهم أنهم قد نزلوا مدعين بأن كل منهم قد quot;جاءquot; بـ quot;صفة شخصيةquot;، و لا يهم أنهم قد نزلوا مرتديا كل منهم quot;عازل وقائىquot; على رأسه ليحميه من quot;عدوىquot; أى فكر تقدمى مستنير قد يتعرض إليه أثناء المناظرة العلنية مع ممثلى المجتمع المدنى، و لا يهم أنهم قد نزلوا و كل منهم مزود بـ quot;كارت إرهابquot; خاص ضد منظمات المجتمع المدنى مدعين به وجود quot;مؤامرة دوليةquot; و أن quot;مصر مستهدفةquot; و quot;الإسلام مستهدفquot; و quot;المسلمين مستهدفينquot;. لا يهم أنهم نزلوا منددين بعلاقة منظمات حقوق الإنسان المصرية بنظيراتها الدولية و بالأمم المتحدة و كأن مصر لم توقع إتفاقيات حقوق الإنسان بمحض إرادتها. و لا يهم أنهم قد نزلوا محصنين بسلاح ldquo;الحقيقة المطلقةrdquo; و زخائر من كلام لا معنى له عن أن الحوار حول المادة الثانية quot;غير مقبول قانونياquot; أو أن المناظرة ليست أكثر من quot;ترفيهيةquot; أو quot;من باب الرياضة الفكريةquot;. لا يهم كل هذا.
ما يهم هو أنهم قد نزلوا إلى الساحة، بل أنهم أُرغِمُوا أخيرا على النزول ليتحدثوا مع المجتمع المدنى و الإعلام على مرأى و مسمع من الشعب. شكرا للمجتمع المدنى الذى يعبر الآن بشكل عام عن حركة الإصلاح فى مصر.
المجتمع المدنى يقوم بهذه المهمة من خلال عرض القضايا على الشعب من خلال الندوات و المناظرات بين الإصلاحيين من ناحية وبين الحكومة و المعارضة الدينية من جانب آخر. و كم من قضايا أساسية متصلة بروح الدستور تجرى مناقشتها الآن من خلال المناظرة حول المادة الثانية. و كم بدا واضحا لنا ما يريده الإصلاحيون و ما يريده التحالف الغير ديمقراطي لمصر.
الإصلاحيون يطالبون بتعديل المادة الثانية من أجل أن يعبر نصها على نظام حقوقى للدولة تحترم فيه حرية وكرامة كل فرد من أفراد المجتمع بغض النظر عن الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة أو الميول، و يطالبون بإسترجاع مصر التى لم تستطع quot;حكومة الثورةquot; إتنتشالها من الأمية و الفقر و المرض، و التى لا تشأ لها القوى الدينية إلا المزيد من الأصولية و الإنعزال وألا تخرج من بئر الجهل و التعصب و الرفض للآخر الذى أصبح مؤخرا سيمة قميئة للمجتمع المصرى. الإصلاحيون يريدون مصر شامخة لا على الورق فقط، بل على أرض الواقع - شموخ يقاس بشموخ كرامة المواطن المصرى, و من إحترام العالم الذى ستستحقه مصر عن جد عندما تحترم المواثيق الدولية لحقوق الإنسان الملزمة لها ، قانونيا و سياسيا و أخلاقيا.
الإصلاحيون يريدون ما يريده الشعب المصرى المغلوب على أمره و المطحون بمسلميه و مسحييه و يهوده وشيعته و قرأنييه و بهائييه و ملحديه و نوبييه و بدوه و قبل الجميع مرضاه و نسائه و شبابه و أطفاله و كل من لا يستطيع الدفاع عن حقوقه بسبب القهر السياسى و الإجتماعى.
الإصلاحيون يطالبون بتحقيق المواطنة الكاملة الحقيقية الفعالة على أرض الواقع لا على سبيل خرافة quot;الوحدة الوطنيةquot; التى لا وجود لها فى مصر الآن إلا فى قلوب و عقول القلة من عقلاء مصر الذين لم يفلح الإعلام الدينى السياسى الموجه من تكدير إنسانيتهم و مصريتهم.
الإصلاحيون لا يطلبون هبة من النظام أو من أصحاب الحقيقة المطلقة، بل يطالبون بحقوق الشعب المستحَقه ndash; حقوق قانونية شرعية من منطلق المواطنة الكاملة القائمة على المساواة التامة طبقا للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، لا بـquot;حقوقquot; من منطلق quot;الذميةquot; التى تقصى من لا يتبع ديانة الأغلبية و تهمشه و تجعل منه مواطنا من الدرجة الثانية.
الإصلاحيون يطالبون بدولة مدنية حديثة إن لم تكن علمانية تكفل حرية العبادة للجميع بقانون موحد لبناء دور العبادة، و تكفل المساواة فى جميع الأوراق الرسمية و فى شتى مجالات الحياة دون أى تفرقة يحرمها القانون الدولى لحقوق الإنسان، بدلا من أن تتحدث الدولة بإسم إله الأغلبية لتحكم على قدسية الديانات أو العقائد الأخرى.
الإصلاحيون يطالبون بحق الشعب فى المشاركة الحقيقية فى الحياة السياسية و المشاركة الحقيقية فى صنع القرار كجزء أساسى من حق تقرير المصير المعترف به دوليا و الذى أكدته مصر بتوقيعها على عدة إتفاقيات دولية تنص عليه بصراحة.
و الإصلاحيون الآن يواجهون تحالف لجحافل من الأبواق ما بين رافض بشدة لتعديل المادة الثانية، و ما بين من يرغب فى quot;نصف تعديلquot; و ما بين من يتحدث عن التعديل فى الخفاء و ينكر تصريحاته فى الصباح، و ما بين من يستخف بعقولنا و يدعى أنه quot;لا يدرى بالمناظرةquot; و لكنه quot;ضد فكرة التعديل على أى حالquot;.
المجتمع المدنى يطالب الإخوان المسلمين بان يكفوا عن الخداع و إزدواجية الخطاب و أن يعلنوا عن مآربهم الحقيقية تجاه مصر و مستقبلها، فى حال إذا ما وصلوا لكرسى الحكم: هل هم مع الدولة اللادينية والقوانين الوضعية المحلية و القانون الدولى لحقوق الإنسان؟ أم مع الدولة ذات المرجعية الدينية تحت شعار quot;الإسلام هو الحلquot;؟ وهل لهم أن يقولوا لنا إن كان من الممكن أو من المنطق أن تحترم الدولة الدينية (الإسلامية) ما لم تحترمه الدولة القائمة اليوم التى تدعى أنها مدنية؟
و المجتمع المدنى يطالب النظام بألا يزايد على المشاعر الدينية للشعب المسكين الذى لو بيده الآن لإختارت أغلبيته جماعة الإخوان المسلمين حاكمة له ليس لإقتناعهم بإخلاصهم بل من أجل إحداث أى تغيير بعد أن فاض بهم الكيل فى ظل أكثر من نصف قرن من الديكتاتورية العسكرية و الحروب و الهزيمة و الفشل السياسى والإقتصادى و الجوع و العرى و التشرد و قانون الطوارئ و إهدار الحقوق المدنية و السياسية والقمع و التعذيب البدنى و الإرهاب الحكومى على أيد أجهزة الشرطة و الأمن المركزى و مباحث أمن الدولة. الشعب يريد الجديد حتى و لوكان شيطانا يتخفى وراء علم أخضر مزين بشعار quot;الحقيقة المطلقةquot;.
و المناظرة .. حتى و لو صدق إدعاء قاطنو أبراج العاج بإنها quot;ترفيهيةquot; .. فقد كشفت عن ضعف حجة الحكومة و الإخوان، وعن مدى قدرتهما على الكذب و الخداع من أجل الحفاظ على السلطة أو السعى إليها. فلا تمسكت الحكومة بـ quot;الدولة العلمانيةquot; التى طالما تشدقت أبواقها بالحفاظ على مبدأ quot;فصل الدين عن الدولةquot;، و لا تمسك الإخوان المسلمون بمبدأ quot;الدولة الدينيةquot; بعد عقود طويلة من شعار quot;إسلامية...إسلاميةquot;. و كلا الطرفان يلعب الآن على وتر quot;الدولة المدنيةquot; و quot;المرجعية الدينيةquot; ، إلى آخره، و كلاهما يزايد على وجود المادة الثانية التى تهمش كل من لا يؤمن بديانة و إله الدولة و تسمح لأى نظام حاكم بتجاهل المعايير الدولية لحقوق الأنسان بإسم الشريعة و مبادئها.
لقد إستطاع المجتمع المدنى من خلال المناظرة حول المادة الثانية أن يفتح أرضية الحوار لتشمل قضايا أساسية، و أن يعبر عن أن الضمير الإنسانى أرقى من الضمير الطائفى، و أن الحقوق التى أقرتها المواثيق الدولية فى تعبيرها عن الضمير الإنسانى هى أرقى من الإجتهادات الدينية التى ترى هذه الحقوق من المنظور الدينى الضيق و ثوابته quot;المطلقةquot;.
لقد أسقطت المناظرة حول المادة الثانية الأقنعة عن وجوه الحكومة و الإخوان، و أثبتت أن المطالبون بتعديل هذه المادة يقفون على إرضية أخلاقية صلبة، و أن ممثلو التحالف الشمولى الغير ديموقراطي من الحكومة و القوى الدينية السياسية يقفون على أرضية هشة مبدأها الميكيافيلية و حيلتها المراوغة. كما كشفت أن المادة الثانية إذا لم يعدل نصها الحالى ستظل شوكة فى ظهر المجتمع تعوق نموه و تطوره، و أنها ستظل فى يد من يحكَم سيفا مسلطا على رقبة الشعب بعامته ومفكريه و مبدعيه و مصلحيه.
المجتمع المدنى الحقوقى ينمو الآن فى الطريق الصحيح لأن مهمته ليست الإدعاء بالتحدث بإسم الشعب، بل إرساء الثقافة الحقوقية و إتاحة الفرصة لأفراد الشعب ليحصلوا على أكبر قدر من المعلومات تؤهلهم للقيام بإختيارات سياسية و إجتماعية أفضل. و لم يكن إبتعاد الشعب عن المشاركة فى تمثيلية التعديلات الدستورية إلا دليلا على أن شعب مصر يعى أبعاد quot;الفخquot; الذى حاول النظام أن ينصبه له من أجل الحصول على شرعية لا تستحقها التعديلات و من أجل شرف لا يستحقه النظام. و قريبا سيتحقق أكبر إنجاز يمكن أن يقدمه المجتمع المدنى لمصرعندما يفيق الشعب إلى خداع من يتحدث بإسم السلطان و من يتحدث بأسم الإله، و عندما يجد الشعب العريق من ضمن أفراده من يتحث ndash; بحق - بـquot;إسم الشعبquot;.
مدير البحوث بالمنظمة الكندية المصرية لحقوق الإنسان
[email protected]
التعليقات