إنها الذكرى الرابعة لسقوط النظام، واحتلال العراق، وانهيار الدولة وضياع هيبتها، وانفلات القيم، والاستئصال المنظم لكل ما هو عراقي، حيث الموت ولاشيء سواه.وبالقدر الذي يحاول العالم اليوم على تعريف الظواهر بغية الوصول إلى قاسم مشتركة وتفاهم معقول يمكن أن يقود إلى نتيجة، فإن العراقي الذي التبست عليه المواقع والرؤى والتصورات، صار قادرا على وضع تعريف للموت ولا شيء سواه، في أعقاب تجربته المريعة مع حالة القتل المجاني التي راحت تستعر بطريقة جهنمية. فقبل التاسع من نيسان 2003، كان العراقي على أقل تقدير يعرف القواعد التي وضعها صدام، والتي لم تكن تخرج عن القاعدة الحجاجية ( من تكلم قتلناه ومن سكت مات كمدا) حتى اختارت الناس الموت الرمزي، حيث الكمد، لكن الناس كانت تعيش! فيما جاءت المابعد من التاسع النيساني ليشيع مبدأ القتل الجديد القائم على قتل كل ما هو حي ومتحرك، حيث القدر الأعمى والعدمية، والخيارات التي لا يتوافر فيها سوى المرارة واجتراع الخسارات.حيث الموت الذي ينتج موتا، ليعقبه الموت.

الاستئصال المنظم
في المقارنة المباشرة التي عقدها المواطن البسيط بين نهب المتحف العراقي والحفاظ على مبنى وزارة النفط، بدأت الحكاية النيسانية، تلك التي لم تعد مجرد لعبة قائمة على احتمالات دلالية، بل أن عملية بناء الحكاية صارت تطال فعاليات التلقي والتداول، تلك التي تم ابتناؤها وفقا لمبدأ ( الفوضى البناءة)، والذي تم تسويقه للتداول السريع في الوسط العراقي، ليتم التغافل عنه، في الوقت الذي راحت الحرائق تلتهم الوزارات و الإدارات، ليتبعه النهب والفرهود، ليتعزز مبدأ البقاء للأصلح،حيث برزت طبقة اللصوص، تلك التي تفاقم دورها، حتى تم تأسيس جهاز خاص لمعالجتها، بعد أن أضحى الفساد الإداري حالة عامة شاملة، بلغت من العتي والقوة، إلى الحد الذي راحت تغتال فيه الكثير من موظفي ذلك الجهاز. كل هذا جاء مترافقا مع تسريح الموظفين والعسكريين، وصدور قانون اجتثاث البعث، تحت دعوى ارتباط تلك الفئات بالنظام السابق. ومن واقع ثقافة الانتقام، تلك التي عززت مسار الالتباس والتداخل، تم تسيير مشروع المابعد.هذا الذي لم ينجم عنه سوى المزيد من العواقب، لا سيما وأن فعالية إنتاج المعنى لم تخرج عن ربط مجمل الفعاليات بمضمون دلالي قوامه الفتك والانتقام والثأر، والذي راح يتراكم ليتشكل في صلب الإدراك، وصولا إلى بروز النسق الدلالي الشامل، ذلك الذي راح يترسم إستراتيجية متساوقة مع معنى الإقصاء والتهميش، لتبرز حالة التقابل في التخندق الطائفي، تلك التي نبذها المجتمع العراقي منذ المواجهات الإقصائية التي كانت تتقمص العلاقة بين العثمانيين والصفويين، بل أن التاريخ الحديث، يكشف عن مدى التعايش القائم بين الطائفتين، إن كان على مستوى العلاقات الاجتماعية في الحواضر الكبرى، أو في الشواهد التاريخية التي كشفت عنها حالة التماهي العراقي في مواجهة القوات البريطانية في معركة الشعيبة، أو حركة الموالد والمآتم التي شهدتها بغداد خلال أحداث ثورة العشرين. وإذا كانت بعض الأحداث الطائفية قد برزت خلال فتنة النصولي بعد نشره كتاب الدولة الأموية، أو عبد الواحد الحصان وكتابه العروبة في الميزان، فإن ردة الفعل لم تخرج عن الطابع الاحتجاجي السلمي.


الاستهلاك الطائفي
ثلاث لحظات تاريخية، لحظة ياسين الهاشمي واعتراضه على بعض الممارسات التي تجري في مواكب العزاء الحسيني، حيث مظاهر الدم النازف جراء التطبير، ولحظة رشيد عالي الكيلاني وحالة العراك الذي تم بين أفراد بعض المواكب، ولحظة صدام حسين ومنعه إظهار معالم الحزن، الذي تحول في زمنه إلى طقس سري.في قصدية الوعي يبرز التفسير الثقافي لموقف الهاشمي والكيلاني باعتبار حضورية الدولة والتي تمثل مستودع القيم.فيما يتجلى موقف صدام باعتبار الانتماء الأيديولوجي واعتبار تلك المظاهر منافية لمنطق التحديث، القصدية لم تكن لتخرج عن إبراز حالة من الفاصل الاجتماعي الساعي نحو تدعيم الشرعية، حيث المسعى نحو القبول الاجتماعي، وفي كل لحظة يمكن لنا تمييز حالة الفصل بين لحظة إنتاج الحدث وفي لحظة الاستهلاك. وباعتبار الموقف القيمي الذي اقترحه رجلا الدولة ( الهاشمي والكيلاني) نجد الخطاب وقد اتخذ قيمته المتماهية مع نسق الدولة، حيث بقيت الممارسة بقوام أضيف عليه التعديل والانسجام، فيما ينكص الخطاب المواجه لمنطق صدام حسين إلى الممارسة السرية، وما يمكن أن ينجم عنها من تأويلات، تندغم في صلب عملية التذوق، وما يمكن أن يضاف عليه حين يتم تداوله في سياق العلاقات الاجتماعية.و في استقراء اللحظات الثلاث تبرز أهمية دور العناصر الفاعلة في العلاقة، حيث الدولة التي تتبدى راعية ومنظمة في لحظة ( الهاشمي والكيلاني) ونابذة في لحظة (صدام)، فيما يبرز دور الجمهور المستهلك متوافقا مع ( الهاشمي والكيلاني) ومتشككا وحذرا مع ( صدام)، أما دور الوسطاء( من شيوخ دين ومشاركين في المواكب) فكان يقوم على الرفض والاعتراض على اللحظات الثلاث.

الحقل الطائفي
في مجال الاستقلال النسبي، يسعى الفاعلون الاجتماعيون نحو محاولة ترسيم معالم إنتاج سلطة الجماعة، حيث المسعى نحو التغلغل في التشكيلات الاجتماعية ثقافيا واقتصاديا وسياسيا، إنه التوظيف للرأسمال الرمزي بغية الحصول على الغاية والهدف حيث الجزاء. من هنا يكون السؤال المركزي، كيف يمكن تعيين الرأسمال الرمزي في الحادث النيساني، ما هو قوامه وتجلياته؟ هل قام على الوطنية، أم الحرية، أم أن الوقائع أبرزت حالة من الزحف الطائفي، والذي برزت تجلياته في المحاصصة الطائفية التي قامت عليها دولة المابعد.
جاءت المحاصصة لتكشف عن حدة النزوع نحو الهيمنة والسيطرة، فيما لم يترك للطرف المقابل سوى خيار التكيف، مع تمثلات خاصة لا ينجم عنها سوى تعزيز مجال التمييز و توسيع الفارق والفاصل، ومن واقع تحليل الممارسة السياسية التي طبعت توجهات حكومة المنطقة الخضراء، تبرز حالة التقاطع للنمط الجاهز، ذلك الذي قام على فعالية شرعنة الحضور، عبر الإصرار على تمرير مشروع الدستور والفيدرالية ومحاكمة رموز النظام السابق.بالمقابل يتم التفريط بالرأسمال الرمزي لفكرة المقاومة، حين يكون التداخل في المواقف الرافضة لوجود قوات الاحتلال، حيث القتل الذي لا يعرف له مصدرا، والأحزمة الناسفة والتفجيرات التي راحت تطال المواطن العراقي من دون اقتصاد، قتل راح يطال الزرع والضرع، الأخضر واليابس، الصغير والكبير، في عبثية لا تحتكم إلى قواعد أو مبررات. إنه الموت، الموت مرة أخرى.