لعلّ أخطر ما يواجه المنطقة العربية حالياً أنسداد آفاق الحلول على نحو لا سابق له، خصوصاً في لبنان وفلسطين والعراق. يبدو التفسير المنطقي للوضع الذي تعيشه المنطقة أن الشرق الأوسط في حال مخاض لا يمكن مقارنتها ألاّ بتلك التي مرّ فيها في العشرينات من القرن الماضي في مرحلة ما بعد أنتهاء الحرب العالمية الأولى وأنهيار الدولة العثمانية ونشوء الدول القائمة حالياً ومن بينها العراق الذي كان أحدى ركائز المنظومة الأقليمية بالمعنيين السياسي والأمني.
ما يحدث في لبنان وفلسطين والعراق ليس سوى الجانب الظاهر من الأزمة العميقة التي يغرق فيها الشرق الأوسط في أنتظار أعادة رسم خريطته أستناداً ألى التوازنات الجديدة التي ستنجم عن المخاض المستمرّ منذ سنوات عدة والذي يبدو أنّه أنطلق من أزمة كلّ من الأقاليم الثلاثة. بدأ المخاض الفعلي بعد الأجتياح الأميركي للعراق تحت ستار الحرب التي تشنّها الولايات المتحدة على الأرهاب. وأستمرالمخاض مع التطورات في فلسطين حيث أدى فوز quot;حماسquot; في الأنتخابات التشريعية ألى تبديد الآمال في التوصل ألى تسوية معقولة ومقبولة في المدى المنظور. والأكيد أن quot;حماسquot; ليست الطرف الذي يتحمّل مسؤولية الوضع السائد حالياً بمقدار ما أن التطرف الأسرائيلي، الذي مارسه أرييل شارون ثم أيهود أولمرت ورفضهما التعاطي الجدي مع رئيس السلطة الوطنية السيّد محمود عبّاس، وراء أرتماء الفلسطينيين في أحضان حركة لا تتقن سوى لغة سياسية عفا عنها الزمن. أنّها حركة لا تستطيع أخذ الفلسطينيين وقضيّتهم سوى ألى أفق مسدود بما يتلاءم والتطلعات الأسرائيلية. ماذا يضرّ اسرائيل في النهاية أذا كانت quot;حماسquot; واجهة الشعب الفلسطيني وquot;حزب اللهquot; واجهة الشعب اللبناني ومقتدى الصدر واجهة الشعب العراقي؟ أوليست الواجهات الثلاث ربحاً صافياً لها في كلّ المجالات، خصوصاً في الساحات العالمية، في أميركا وأوروبا تحديداً؟
بين التحوّلات التي يمرّ فيها العراق وتلك التي تجتازها فلسطين، كان لبنان هدفاً لزلزال معروف كيف بدأ وليس معروفاً هل ينتهي يوماً أو كيف سينتهي. كانت بداية الزلزال أغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من فبراير- شباط من العام 2005. منذ ذلك اليوم ولبنان يعاني من هزات متلاحقة خلّفها الزلزال. أقلّ ما يمكن قوله أن مستقبل البلد على المحك بعدما بدأ الحديث العلني عن غياب الحلول السياسية. أليس هذا ما أكّده الأمين العام لquot;حزب اللهquot; السيّد حسن نصرالله في خطابه الأخير الذي أعترف فيه بأنّه يقيم دولة داخل الدولة في لبنان وأنّه لن يتخلّى عن دولته ألاّ متى قامت دولة تؤمّن له ولحزبه ما يريدانه؟ منذ متى على الدولة أن تكون على قياس حزب ما لأن هذا الحزب مسلّح، من أيران عبر سوريا بحجة quot;المقاومةquot;، من جهة ولأنّه خطف طائفة كبيرة في البلد وحوّلها رهينة لديه من جهة أخرى؟ أوليس هذا المنطق نقيض لفكرة بناء الدول؟
في العراق ولبنان وفلسطين يواجه العالم العربي أكبر تحدٍ عرفه منذ نحو تسعين عاماً. يتمثّل التحدي في أعادة رسم خريطة المنطقة في ظل التوازنات الجديدة التي ستنشأ أنطلاقاً مما يحدث في الأقاليم الثلاثة. لا يمكن أن يغيب عن البال أنّ أتفاق سايكس- بيكو الذي رسم خريطة المنطقة وقّّع في لندن في العام 1916 وأن وعد بلفور الذي أسس لقيام أسرائيل على أرض فلسطين العربية صدر في العام 1917 وأن العراق الحديث تأسس في مطلع العشرينات. لكنّ خريطة الشرق الأوسط في شكلها الحالي لم تتبلور الاّ في الأربعينات بعد أنسحاب بريطانيا وفرنسا عسكرياً من المشرق العربي وقيام دولة أسرائيل على حساب الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.
هناك حالياً أعادة نظر شاملة في كيانات المنطقة. لم يعد مضموناً في أيّ شكل بقاء العراق موحّداً. كلّما مرّ يوم يتأكد أن لا مجال لأستعادة البلد لوحدته بعدما تبيّن أن الحرب الأهلية دائرة على قدم وساق وأنّ لا سبيل لوقفها في ظلّ أنقسام مذهبي لا سابق له في تاريخ العراق والمنطقة. قبل أيّام حصل أنفجار في المطعم الملحق بمجلس النواب العراقي. في الواقع، لم يكن ذلك الحدث الأهم يومذاك، على الرغم مما يمثّله حصول أختراق أمني لمجموعة أرهابية لأحدى أكثر المناطق أمناً في بغداد، أقلّه نظرياً. كان الحدث الأهمّ تفجير جسر الصرّافية أجمل الجسور في العاصمة العراقية. كان الهدف من التفجير واضحاً وهو الفصل بين منطقتين واحدة ذات أكثرية سنّية والأخرى ذات اكثرية شيعية. مطلوب بكل بساطة وصراحة ألاّ تكون هناك جسور تصل بين حيّين لمجرد أن أحدهما سنّي والآخر شيعي. تلك مأساة بغداد التي كانت أحدى منارات المنطقة قبل أن يغتالها الجهل والتعصّب والتقوقع الذي يمثّله اولئك الذين أنقلبوا على النظام الملكي في الرابع عشر من يوليو- تمّوز 1958 . منذ الأنقلاب الذي سمّي زوراً quot;ثورةquot;، لم تر بغداد ومعها العراق يوماً له علاقة بالحضارة وكلّ ما هو حضاري. كان طبيعياً أن تصل الأوضاع في العراق ألى ما وصلت أليه اليوم بعد سلسلة من الأنقلابات والمغامرات توّجت بالأحتلال الأميركي الذي أطلق العنان لأنفلات الغرائز بشتى أنواعها على رأسها الغرائز المذهبية والطائفية والقومية. كلّ ما يمكن قوله أن الأميركيين فتّتوا العراق ولم يعد في أستطاعتهم أعادة جمعه. من السهل تفكيك الدول، لكنّ من الصعب أعادة تركيبها في حال كان مطلوباً بقاءها موحّدة. في الأمكان أعادة تركيب العراق. لكنّه لن يكون موحّداً. ومن لديه شك في ذلك، يستطيع سؤال قادة الأكراد عن أيّ عراق يتحدّثون هذه الأيام وعن مفهومهم للفيديرالية...
لا حل في الأفق في العراق. بات هذا الأمر مفهوماً على الرغم من كل التعزيزات العسكرية الأميركية التي ترسل ألى بغداد. ولكن لا أفق لتسوية في فلسطين أيضاً ما دامت حكومة أيهود أولمرت تصرّ على تغييب الشريك الفلسطيني رافضة الأعتراف بأنّ quot;حماسquot; تغيرّت بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية وأنّ لا بدّ من مساعدة رئيس السلطة الوطنية السيّد محمود عبّاس (أبو مازن) في سعيه ألى أستعادة المبادرة السياسية. في غياب الطرف الأسرائيلي الراغب في السلام، أفضل ما يمكن التطلع أليه هو هدنة طويلة أمّنها أتفاق مكّة بين quot;حماسquot; وquot;فتحquot;. ماذا سيفعل الفلسطينيون في ظلّ هذه الهدنة؟ هل يقبلون تكريس الأحتلال لأرضهم أو للجزء الذي يريدون أستعادته من أرضهم التاريخية؟ هل يستسلمون للظلم، أم يحصل تدخل خارجي ينصف هذا الشعب الذي كان ضحية عملية رسم خريطة المنطقة في العشرينات من القرن الماضي؟ هل يدفع الفلسطينيون مرّة أخرى ثمن أعادة رسم خريطة المنطقة؟ الأكيد أن عليهم أن يأخذوا في الأعتبار أن هذا الأحتمال ممكن في حال لم يتمكّنوا من تطوير أتفاق مكّة الى ما هو أكثر من هدنة. لن يساعدهم العالم في ذلك، في حال لم يساعدوا أنفسهم أوّلاً.
لا حلّ في الأفق في لبنان أيضاً. أن مستقبل الصيغة اللبنانية مطروح على بساط البحث. هل يمكن تحييد لبنان أم أن المطلوب أن يبقى quot;ساحةquot; للتجاذبات الأقليمية؟ أدى أغتيال رفيق الحريري ألى سقوط المشروع الوحيد الذي كان في أمكانه أعادة الحياة ألى لبنان وألى المنطقة المحيطة به، بما في ذلك سوريا. كان مشروع رفيق الحريري يصبّ في مصلحة لبنان وسوريا. ولكن يبدو أن الخيار السوري في مكان آخر. أنّه رهان على دور أقليمي في أطار محور طهران- دمشق. من الآن، يمكن القول أن هذا المحور غير قابل للحياة على الرغم من التخلص من رفيق الحريري ومشروعه. لا يعني ذلك سوى أن لبنان هو الخاسر الأكبر من تكريسه quot;ساحةquot;، أقلّه في المدى القصير. الواضح أن مستقبل البلد على المحكّ. أي لبنان سيخرج من المواجهات الدائرة على أرضه حالياً؟ الأكيد أن لبنان سيكون مختلفاً حتى لو بقي موحّداً.
العراق وفلسطين ولبنان. ثلاث أزمات ظاهرة في منطقة تختزن كمّية من الأزمات الكامنة التي ستتكشف لدى حصول الأنفجار الكبير. أنّه الأنفجار الناجم عن الخلل في التوازنات الذي أحدثه أنهيار الحدود التاريخية الفاصلة بين حضارتي العرب والفرس نتيجة الأحتلال الأميركي للعراق. الخوف أن يعالج هذا الخلل بخطأ آخر يؤدي ألى زيادة الخلل. مسألة أشهر قليلة ، ولي مجرّد اسابيع كما يتخيّل بعضهم، ونعرف نتيجة الأنفجار الكبير وألى أيّ حدّ سيؤثّر على عملية أعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وعلى تحديد مستقبل العراق وفلسطين ولبنان تحديداً، أي الأقاليم الثلاثة الموجودة حالياً في عين العاصفة...