الهدهد أصبح فأرا، والضب صار نسرا، ولم يعد ثمة فرق بين الحبر الأحمر والأزرق. فأين تذهب أيها العربي الفقير؟ وفي كل حيّ غزوة جديدة، وفي كل قرية فتح جديد... وكل مدن الضاد التي اتهمتها زورا كتب التاريخ الوضعية، بالشهامة والتسامح وإغاثة الملهوف والحضارة والعراقة، مفخخة بالكذب وتقاليد الغزو والشاحنات المنهوبة..
كل المقاهي التي كانت تشحذ الخناجر لقتل الوقت، وتبيع البطولات ووصفات رجوع الشيخ، والكسل والنميمة والمبادئ، والمعلقات الثقافية والأخلاقية والأيديولوجية، ملغومة- تقربا للشيطان الأكبر- بالمساحيق التي تطحن الحياة، وتلطخ الجدران بمخلفات الأمعاء، والأصبغة اللزجة.
كل وسائط النقل الشعبية التي يتعمشق الأطفال بأبوابها، ويقفون في ممراتها، مزنرة بأحزمة الخدع الحربية التي تقذف اللحم الطري من النوافذ.
كل مومسات الدرجة الأولى اللواتي كنت تهجع إليهن هربا من قيظ العادة والمألوف، أصبحت أرحامهن مخصّبة بشهوة الرعاع، وزعران دور السينما، ونشالي الباصات وأسواق الخضار الشعبية.
كل العذراوات اللواتي تغلغل عبقهن في إيقاع خطواتك، واستلقى ضياءهن في ذاكرة البصر، وأيقظت غمازات خدودهن الحدقات التائهة، أصبحن جثثا متفحمة في أكياس للنفايات، بعد أن أرخى الليل سدوله عليهن، وامتص أريجهن روث الموتى، وطمس معالمهن شبق الفتية لملاقاة الغانيات الأبكار، ومعانقة الكؤوس المعتقة، واحتضان العناقيد البلورية.
لم تعد الدروب التي سرتها لا مباليا، سالكة.
لم تعد الجسور التي عبرتها ضجرا، قائمة.
لم تعد الحدائق التي ترمى فيها جسدك الخائر، آمنة.
كل الوعود كاذبة
وكل الأنفاق التي ألفتها، أُغلقت نهاياتها
فأين تذهب أيها العربي الفقير؟
وعراق الحَر والقَر والشقاق ينحر أبناءه
يتبرأ من أور
يتغوط في حدائقه
يبول على ألواحه
يستنجد بأبي مسلم والثقفي
ويهتف لصفين
ويندب الأولياء.
أين تذهب أيها المسكين
ولبنان التي اقتطعتها عشتروت من حدائقها وأهدتها للعرب
يتفتت على نار هادئة
يرقص رقصة الموت الأخيرة
ويذخّر سلاحه
استعدادا للانتحار
متسربلا بالمشاريع والتحالفات والأطماع.
أين تذهب أيها المسكين؟
وفلسطين التي تخوض صراعا أزليا على الحدود والوجود، زينت الموت لفتيانها، والهجرة للقلة التي ترغب في العيش.
فلسطين التي تضمر مساحتها ويتناقص عدد سكانها
تقتل الأطفال انتقاما من ذويهم
ويقتتل أبناءها كي لا تصطبغ ساحاتها بأكثر من لون
تنفق أموالها على تسليح المنظمات، وتستجدي من الكفار الذين تستعطفهم في السر وتشتمهم في العلن، الخبز والدفاتر والأدوية.
أين تذهب أيها المسكين؟
والصومال التي يخشى القدوم إليها كل الصحفيين المغامرين، وكل جيوش العالم الذي يدعي التمدن.
تأبى أن تعبّد شوارعها بغير الدم
الصومال التي ظننتَ أنها ما زالت بكرا لا يشغلها سوى تصدير نباتات اللذة.
أضحت مدرسة لتدريب الصبيان على بقر بطون الجوعى.
تسد الجثث طرقاتها الضيقة، وتتعفن في ساحاتها الترابية.
أما بلد اللاءات الثلاث الذي تكفي أرضه ومياهه لإطعام العالم، فإن بطون أطفاله منتفخة وعظامهم بارزة. وغول الجوع يكتسح شماله وجنوبه وشرقه وغربه، والأخوة الأعداء في الدين واللغة والمنافع، هجروا ملايين الفقراء، ودحرجوا عشرات الآلاف من الرؤوس، وبعجوا أرحام مثلهم من النساء، وأرضهم لن تكون في المدى المنظور آمنة.
إلى أين تذهب أيها المسكين؟
واليمن السعيد بفقره وخناجره وquot;قاتهquot; وبداوته. يرفض المستقبل، وهو يضحك من حركات القرود، مصفقا لرؤوس أبناءه التي تتطاير في أعالي الجبال، مفاخرا بإيواء أكبر جالية من الأميين في البلاد اليعربية.
أين تذهب أيها المسكين والأحزمة الناسفة والشاحنات تفجر الأحياء والمقاهي المغربية والجزائرية، وتختطف حياة العزل والأطفال والآمنين.
أين تذهب؟
والفساد يكتسح البلدان الناطقة باسم الله
فساد في التعليم والتربية والمناهج والكتب
فساد في القيم والمفاهيم والتطلعات
فساد في العلاقات والمعاملات
فساد في الوعظ والتوجهات
فساد في التعيينات
فساد في الانتخابات
فساد في الإدارة والسياسة والقضاء.
[email protected]
التعليقات