لم يعد هناك شك في العلاقة المصيرية بين التعليم وبين أهم قضايا الإنسان المصيرية، التنمية والسلام والازدهار والعدل والحرية والديمقراطية واحترام الرأي الاخر والتعايش البشري ونظافة البيئة، بل وقبل ذلك الحياة بحد ذاتها، فيما إذا كونا تصورا راقيا للحياة، التصور الذي ينحاز بشكل جذري لإثبات الذات، وتحقيق الوجود، وتفجير الطاقة البشرية من أجل الانسان نفسه، عبر تعمير الكون وإحلال السلام، وتوفير الأمن، وتأصيل الكرامة. فلا حياة بلا تعليم، التعليم المستدام بطبيعة الحال، وليس التعليم الذي يقف عند مرحلة معينة من مراحل العمر، كما هو مشاع في تقليدنا العربي والإسلامي للاسف الشديد، حيث تعتبر المرحلة الجامعية نهاية المطاف في بحر التحصيل العلمي والفكري، أو يعتبر طلب المعرفة والانغماس في بحر الفكر بعد مرحلة تعليمية رسمية نوعا من البطر، وزيادة في الزهد بالحياة!

التعليم المستدام، تلك هي رسالة الفكر التربوي الحديث، وتلك هي متطلبات العالم الجديد الذي لا يعرف السكون ولا الهدوء ولا الثبات، كل يوم يطل علينا كم هائل من الفكر والعلم والاكتشاف الذي يقلب مفاهيم الامس، بل بديهيات الامس، فلم يعد هناك - إلى حد ما وفي كثير من الميادين العلمية - مجال لقانون التراكم العلمي الذي يتمخص بعد فترة عن قفزة علمية، لأن منطق القفزة - كما يبدو - صار هو الحاكم دون المرور بمقدمات أو تراكمات تعاقبية، لما تتضمنه حركة العلم اليوم من إنقلابات هائلة تهز المنظومة السابقة بشكل مفاجي ومقلق ومحير، حتى بات من الصعب مواكبة هذه التغيرت المذهلة.

لا يمكن للديمقراطية أ ن تنتعش بل أن تجد لها مكانة في مجتمع تسوده آفة الاميِّة القاتلة، الاميٍّة بمعناها العميق، أي المجتمع الذي لا يقرأ، المجتمع الذي لا يتعلم، بصيغة المضارعة لا بصيغة الفاعلية على ذمة مرحلة زمنية محددة، بل التعليم المستدام.
لا يمكن للسلام أن يسود في مجتمع أحادي القراءة، فالقراءة الأحادية هي الاخرى مصداق من مصاديق الأميّة المتخفية بأثواب العلم السطحي، قراءة فاصلة، تُخرج كل العقول قسرا ورغما من صيرورة تشكلها عبر تراكمات التاريخ وإضافات التجارب وإعتمالات الذات، وتنصبُ من تشكُّلها الخاص بها إلها حاكما، وكأنه تشكًل معصوم من قانون الحياة الكبير، ذلك القانون الذي يؤكد بما لا يدع شك، إن كل تشكل هو وليد زمنه. وليس القراءة الاحادية كما يتصور البعض صيغة واحدة ممهورة بطابع أزلي، بل هي صيغ، تتعدد، وتتنوع، في الدين والعلم والفن والحضارة والثقافة، قراءة جوهرها الإقصاء!

لا يمكن للحرية أن تتحول إلى لذة روحية وفكرية وجسدية في مجتمع تحددت مصادر فكره وتعلمه وثقافته وتربيته وإلهامه وطموحاته في كتاب واحد، يتحكم فيه قانون الكتاب الواحد، مهما كان هذا الكتاب الواحد من قدسية بل ومهما كان من إمكانات حائزة على قوة البيان والمعلومات والحقائق والتصورات.
لا يمكن للتقدم أن يحوز على شرعيته الطبيعية والعادية في مجتمع غير متحرر علميا، متحرر من الخرافات والاساطير والتوكل وقدسية الماضي لانه ماضي، مجتمع يكره التجديد، ويخاف المحدثات لانها من الفتن، ويربط نصوصه المقدسة بتجارب سابقة يعتبرها الإحالة النهائية. أي لا يمكن للتقدم أن يظفر ببيئته بلا قراءة واسعة، ثرية، غنية، متواصلة مع التجارب البشرية المتعددة.
لا يمكن للتنمية أن تحقق طموحها في مجتمع لا يقدر الكلمة، ويستهين بالكتاب، ويتعلق بهوامش العقائد، ويعطي قيمة غيبية لك شي حتى الاشياء التي تدخل في نطاق الحس بكل سهولة وبساطة ويسر.
لا أريد أن أطيل في هذه الاقترانات بين التعليم وهذه النشاطات والطموحات التي أصبحت لغة العصر، والتخلف فيها يؤدي إلى قهر الإنسان، وتدميره. فهي تكاد تدخل خانة البداهة.
ولكن أي تعليم هذا الذي نتكلم عنه ؟
لقد كان الفيلسوف ليبنتز متعلما، بل عبقريا، ولكنه كان يدعو إلى تأسيس جيش أوربي ابيض لغزو بلاد المسلمين من أجل تحضيرهم، وإنقاذهم من الضلال! ونشأ علم الاثروبولجي الغربي ليقيم حضارات الاخرين على ضوء بديهيات لديه تلك هي مسلمات عقله، وإنجازات حضارته، حتى باتت المركزية الا وربية عقدة عالمية، وكانت ثورة هائلة تلك التي أحدثها ليفي شتراوس ومِن بعده أخرون، وهو ينكر الإحالة على نقاط تقييم وتصويب مستلة من حضارة بعينها أو عقلية بعينها لتكون حاكمة مطلقة، فمشروع التقييم يجب أ ن يتأسس من ذات المادة البشرية التي ندرسها ونشرِّحها ونحللها، ومن هنا رفض أحكام الانثروبولجيا الغربية بخصوص ( العقلية ) التي يطلق عليها الغربيون ( البدائية )، فلهم منطقهم الخاص بهم، لا يقل دقة وصرامة وانسجاما مع نفسه من دقة وصرامة وإنسجام العقل الغربي... هذه المركزية الغربية تقابلها مركزية شرقية، وربما بالخصوص مركزية إسلامية، تقوم على تقسيم العالم إلى دار حرب ودار إسلام، وتشطِّر الاجتماع البشري وفق مقاييس الولاء والبراء، وتتحدى العالم كله من أجل أن تكون كلمتها هي العليا.

التعليم الذي نحتاجه اليوم هو الذي يعد أجيال المستقبل لينخرطوا في بناء المجتمع، التعليم الذي يخرج لنا المعلمين الناجحين، والمنهدسين الماهرين، والاطباء الأذكياء، وعلماء النفس المثقفين، والاداريين المبدعين، والحقوقيين الموسوعيين. التعليم الذي يحرر الذات من عقدة الذنب المستمرة، ويشيِّد في الأفق النفسي للطالب الامل، ويشجع على مواصلة العمل والجد والإبداع، التعليم الذي يعلي من شأن النقد، ويربي على الحرية، ويكسب الطالب مزيدا من الخبرة بالحياة، والعالم، التعليم الذي يشجع على ا لا ستنتاج، التعليم الذي من شأنه يركز الثقة بالذات، والثقة بالقيم، ويعزز فينا حب الوطن والشعب، ويجعل الوظيفة في تقيماتنا تكليفا وليس تشريفا، التعليم الذي يرتفع بهممنا إلى طموحات عالية متجددة، التعليم الذي يدمجنا بالعالم، ينقلنا إلى صميم العالم، لا يخلق بيننا وبين الآخر علاقة قائمة على الشك المسبق، والريب المدبر سلفا. التعليم المستل من قر اءات عميقة وجدية ومتجددة للحياة والاجتماع، قراءات تتسم بالاشراق والقوة والحيوية، ا لتعليم الذي لا يستهين بالمعلومة، ولا يقلل من خطر الصغائر، ولا ينهار أمام الكوارث، التعليم الذي يستعين بأهم ما توصلت إليه نظم التعلم والتعليم.

التعليم الديني يعد من أهم مجالات التعليم في عالمنا العربي الإسلامي، ودوره في خلق مجتمع قوي، نشط، متكامل، متقدم، بناء، وذلك لما يشغله الدين من مركزية في حياة هذا المجتمع، سواء على صعيد طريقة التفكير، او على صعيد العلاقات الا جتماعية، أو على صعيد البنية الاخلاقية، بل وعلى صعيد المسالة السياسية، وبالتالي، يشكل التعليم الديني حجر الزاوية في إحداث أي عملية تغيير، ثم بناء، ثم إنطلاق...
فهل نترك التعليم الديني بلا حوار ؟ بلا نقاش ؟ بلا قراءات جديدة ؟ بلا دوائر عمل ؟
لننظر إلى ما يحصل اليوم في العالم العربي والإسلامي، بل العالم كله، حيث يحتل الدين مركزية رهيبة في توجيه الاحداث ا لسياسية، وبناء العلاقات الدولية، وتنظيم الانسقة الاجتماعية، بل وحتى منطق العلوم.
ولأن العراق اليوم على أ عتاب تحولات مذهلة، ربما تكون مدخلا لتحولات هي الاخرى مذهلة في العالم العربي والإسلامي قررت أن أدلو بدلوي عن إشكالية التعليم الديني في العراق.
يتبع