لم تعد المسألة مرتبطة بتقديم بول ولفويتز رئيس البنك الدولي أستقالته من منصبه أم أمتناعه عن ذلك. تجاوزت المسألة موضوع الأستقالة بعدما صار الرجل معطوباً. لحق ضرر كبير غير قابل للأصلاح بالرجل الآتي ألى البنك الدولي من وزارة الدفاع الأميركية حيث كان يحتل الموقع الثاني بعد الوزير المستقيل دونالد رامسفيلد. لم يعد مهمّاً أن يعتذر ولفويتز من موظفي البنك الدولي بعدما أكتشفوه على حقيقته من خلال الميزات التي استطاع توفيرها لصديقته الأميركية من أصل ليبي وأسمها شاهة علي رضا. نقل ولفويتز الصديقة ألى وزارة الخارجية براتب كبير بحجة أنّه على علاقة بها وأنّ ليس في الأمكان تركها في مؤسسة يشرف بنفسه عليها. من الناحية النظرية، كان موقف ولفويتز سليماً، نظراً الى أن ليس صحّياً أن تكون هناك علاقة عاطفية ين الرئيس والمرؤوس في مؤسسة دولية مثل البنك الدولي. لكن مشكلة الرجل الثاني في وزارة الدفاع الأميركية، سابقاً، تكمن في أنّه استخدم في العام 2005، بعد تعيينه رئيساً للبنك الدولي، ما لديه من نفوذ كي تحصل شاهة على راتب سنوي صافٍ، أي من دون الضرائب، يقترب من مئتي الف دولار. انّه راتب مهم بالقاييس المعتمدة في الأدارة الأميركية. الأكيد أن هذا الراتب ليس شيئاً مقارنة مع ما يدفعه القطاع الخاص لموظفيه، لكنّ ما فعله ولفويتز أدى ألى ثورة عليه داخل البنك الدولي. لم يخفف من حدّة الثورة لدى موظّفي البنك الدولي أعتذاره. لم يخفف منها محاولة شرح الأسباب التي دفعته ألى ممارسة نفوذه كي يوظّف صديقته في وزارة الخارجية براتب يفوق الراتب الصافي، أي الراتب الذي تقبضه بعد دفع الضرائب المتوجّبة، وزيرة الخارجية الدكتورة كوندوليزا رايس.
ما حصل يكشف الشخصية الحقيقية لبول ولفويتز. رجل ينادي بالعفاف وبالسعي ألى وقف الفساد ومكافحته في كلّ أنحاء العالم من جهة، ثم يتبيّن انّه على أستعداد للذهاب بعيداً في أستخدام نفوذه من أجل تأمين منصب مع راتب كبير في وزارة الخارجية الأميركية لصديقته من جهة أخرى. يبدو بكلّ بساطة أن ولفويتز مع مكافحة الفساد حين يروق له ذلك وهو متساهل مع كلّ ما له علاقة بالفساد حين يكون الأمر متعلّقاً به شخصياً أو بأجندته السياسية. لا حاجة للذهاب بعيداً من أجل تأكيد ذلك، خصوصاً أن الحدث العراقي ،الذي تورّط فيه ولفويتز الى ما فوق أذنيه، لم يمرّ عليه الزمن بعد. كان ولفويتز، في حال شاء المرء أن يكون حسن النيّة، العرّاب الحقيقي لشخص أسمه أحمد الجلبي أستطاع أقناع الأميركيين بأنّهم سيُستقبلون بالورود في العراق وأن مجرّد دخولهم العسكري ألى العراق سيؤدي ألى سقوط نظام صدّام حسين وأن العراق سيتحوّل بعد ذلك ألى دولة ديموقراطية تكون نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه دول المنطقة في شرق أوسط جديد!
كان الدخول الأميركي ألى العراق مغامرة سهلة، أقلّه في البداية. سقط نظام صدّام، الذي لا يمكن الدفاع عنه في أي شكل، بأسهل مما يعتقد. ولكن أين مشروع بناء العراق الديموقراطي؟ أين العراق المرشّح لأن يكون نموذجاً لدول المنطقة الأخرى على رأسها تلك التي لديها حدود مشتركة مع العراق. كان الفشل الأميركي كبيراً في العراق ألى حدّ أنّ السوريين العاديين باتوا يشكرون الله على وجود النظام القمعي الطائفي المتخلّف في بلدهم بدل أن يحلّ بهم ما حلّ بالعراق والعراقيين! ألى هذا الحد كان التدخل الأميركي فاشلا!
يبدو ما أرتكبه بول ولفويتز في البنك الدولي مخالفة لا تستحق التوقف عندها مقارنة بفظاعته في العراق. ومع ذلك، أعتذر رئيس البنك الدولي عن تدخلّه من أجل صديقته ولم يعتذر عن الجريمة الكبرى المرتكبة في العراق وكان بين الذين تسبّبوا بها! كان لا بدّ من التخلّص من صدّام حسين ونظامه... ولكن كان لا بد في الوقت ذاته من التفكير في مرحلة ما بعد صدّام وفي ما ستؤول أليه الأوضاع في العراق بعد التخلّص من النظام العائلي- البعثي الذي لعب دوراً أساسياً في تفكيك النسيج الأجتماعي للبلد. كان همه محصوراً في أسقاط النظام العراقي من دون أن يعي أن أيران ستكون المنتصر الأوّل والوحيد من المغامرة الأميركية في العراق. الأكيد ان ولفويتز لم يعتذر الى الآن عن فعلته العراقية التي هي أقرب الى جريمة في حقّ العراقيين والأميركيين وكلّ أهل المنطقة أكثر من أي شيء آخر. اللهم الاّ اذا كان الهدف الأصلي من أحتلال العراق تقسيم البلد على أسس طائفية ومذهبية وقومية تمهيداً لتقسيم المنطقة كلّها وأعادة رسم خريطتها. هل هذا ما أبتغاه ولفويتز وهل هذا السبب الذي يحول دون أعتذاره؟
في الأجتماع الأوّل الذي عقده كبار المسؤولين الأميركيين بعد أحداث الحادي عشر من أيلول- سبتمبر 2001، تفرّد بول ولفويتز في الدعو ألى الرد على أرهاب quot;القاعدةquot; في العراق. أعترض وقتذاك وزير الخارجية كولن باول الذي تساءل عن علاقة العراق بما تعرضت له نيويورك وواشنطن. سكت ولفويتز نظراً ألى أنّ لا رابط حقيقياً بين العراق وبين أحداث الحادي عشر من أيلول- سبتمبر. ولمّا سُئل لا حقاً لماذا اثار هذه المسألة، كان جوابه أنه quot;غرس بذورquot; التدخل الأميركي في العراق. أستطاع الرجل الذي كان نائباً لوزير الدفاع جرّ بلاده ألى حرب العراق... تلك الحرب التي سيتبيّن يوماً أنّها اعادت تشكيل الشرق الأوسط. وبغض النظر عن نتائج الأحتلال الأميركي للعراق في المدى الطويل وما أذا كانت واشنطن ستستفيد من حربها على العراق، يظلّ السؤال الأساسي : من يتحملّ المسؤولية عن مقتل ما يزيد على ثلاثة الاف جندي أميركي في العراق، أقلّه ألى الآن. ولماذا قُتل هؤلاء؟ ألا يستحق الضحايا وذووهم أعتذارا من بول فولفويتز، أم أن الأعتذار عن توظيف صديقته براتب مرتفع في وزارة الخارجية الأميركية يُغني عن أي اعتذار آخر. في كل الأحوال، لن يخرج ولفويتز سليماً من مغامرته ذات الطابع الشخصي. أنتهى الرجل حيث كان يجب ألاّ ينتهي. المكان الذي كان يجب أن ينتهي فيه هو العراق. هناك أرتكب جريمته الكبرى التي أدت ألى مقتل عشرات آلاف العراقيين وتشريد مئات الآلاف منهم، بل أربعة ملايين عراقي هُجَروا من منازلهم داخل العراق أو ألى دول الجوار في ظلّ حرب أهلية أرتدت طابعاً مذهبياً. الباقي تفاهات وتفاصيل ليس ألاّ من نوع أعتذار لولفويتز في غير مكانه ألى موظفي البنك الدولي!