(قصَّ ) فعلٌ ماض، و(يقصُ) فعلٌ مضارع، و(قـُـصْ) فعل أمرٍ من الأعلى للأدنى . وهذا (الفعل) هو من ألد أعداء الكتاب، ومكمن عللهم، فهو الذي يغتال (كلماتهم) على مرأى من الناس، فيصفقُ له المصفقون، وتشرئبّ له أعناق المحافظين والتقليديين، لتردد أفواههم لعملية اغتيال الكلمة هذه : لله درك من رئيس تحرير نحرير!
ومقص رئيس التحرير يُفرق بين الكتـّـاب في مطبوعته . فهناك كتاب مقالاتهم كشعار شركات الألبان التي لا (تغش) زبائنها: (من البقرة إلى المائدة مباشرة)؛ وآخرون هم دائماً تحت الرقابة والشك والتمحيص، حتى وإن كتبَ أحدهم (يلعن إبليس)، فسوف ينبّش رئيس التحرير ما بين السطور عن سبب اللعن هذا، وهل ثمة تورية، أو تلميح أو تعريض بأحد، سيّما إذا تعود من الكاتب محل الرقابة أنه يُلامس سقف المسموح به، أو أنه في (معايير) البعض يتجاوز الخطوط الحمراء.
ورغم الإنترنت، ورغم الفضائيات، التي جعلت من العالم قرية صغيرة مجازاً، مازال البعض يتحدثون عن (الخصوصية) التي يجب ألا تخدش، و (الجوهرة) التي يجب أن تصان، والعادات والتقاليد والقيم (الأصيلة) التي يجب أن نعض عليها بالنواجذ كي لا نصبح مثل بلاد الكفر والفجور - والعياذ بالله ndash; (أمريكا) العاهرة!؛ وكأن الناس لا يقرؤون إلا وسائلنا الإعلامية المحلية، ولا يتثقفون إلا منها.
صحافتنا المحلية، أو دعني أقول : المتكلسة، لا تساهم في صناعة الرأي العام (المحلي) إلا كما تساهم (الهجن) هذه الأيام في حل مشكلة (المواصلات) في الرياض مثلاً ؛ وبالمناسبة فهناك شبه كبير إلى درجة الاستنساخ بين (الهجن) وصحفنا المحلية، وأرجو ألا يغضب عليّ أحد! ... وصدقوني، ثم صدقوني، أن برنامجاً تلفزيونيا يجري إعداد بمهارة، وإخراجه بمهنية عالية، يؤثر في الناس أكثر آلاف المرات من تأثير (مقال) في جريدة. والأمثلة على ذلك كثيرة لو كانوا يُدركون. ومع ذلك فإن من يتعامل في الكتابة والرأي في صحافتنا المحلية يكاد أن يستلقي من الضحك عندما يرى كيف هي (محاذير) رؤساء التحرير مما ينشر في صحفهم، وكأن ما تنشره الجزيرة والرياض مثلاً سيُحوّل الشارع إلى مظاهرات، وأعمال شغب، تزلزل أمن البلاد بعد أن ينشر هذا المقال أو ذاك.
أتذكر أنني سبق وكتبت قبل سنوات في مطبوعة (ما) قبل الكتابة هنا في إيلاف موضوعاً عن (بوركينا فاسو) التي زرتها في رحلة صيد مع بعض الأصدقاء. رئيس التحرير (الذكي) شك في الموضوع، فكيف لمثلي أن يكتب عن أدب الرحلات (الكلاسيكي) كما قال. فحوّل الموضوع إلى أحد أصدقائه لعله يكتشف ما عجز هو عن اكتشافه. الصديق الصدوق لرئيس تحريرنا (المثقف) بعد أن فتـّـش ومحـّـص ودقق وقلب الموضوع هداه تفكيره أخيراً إلى (القنبلة) التي يقول أنني ضمنتها المقال. قال لصاحبه رئيس التحرير: أراد (الخبيث) ndash; والذي هو محدثكم - أن ينتقد المقالات التي تجيزها أنت في الجريدة، فاعتبرها ضرباً من ضروب (الفساء)، لذلك تحدث عن بوركينا (فاسو)، أو (طاقعوا)، بمعنى أن جريدتكم العتيدة ليست إلا (بركان فساء)!. اتصل بي رئيس التحرير، وبادرني بالقول : كفشتك! ؛ تريد أن تقول أن ما ننشره في جريدتنا هو (فساء) أو (ضراط)؟ . دوّر عن غيري تستطيع أن تمرر عليه مثل هذه (اللعبة)!.. قلت : الحكم على النوايا حيلة العاجز عندما (يشك) وليس لديه برهان.
لم ينشر المقال، كما لم يبقَ رئيس التحرير طويلاً، فقد (دحدر) التوزيع إلى الحضيض، واضطر مُلاك الصحيفة أن (يُمسكوا) رئيس التحرير الذكي الباب!
وتأكد الجميع من قول القائل : ليس (بالمقص) وحده يبقى رئيس التحرير في منصبه !