في أوائل القرن التاسع عشر أدرك quot;هيجلquot; Hegel (1770 ndash; 1831) أن حضارة الغرب الصناعية، وسوقه العالمية، سوف تنسف المناخ الذي كانت الحضارات الأخرى ترى فيه نفسها، والذي كان يسبغه عليها إنتاجها الخاص.
هذا القضاء على الاختلافات بين الحضارات، وعلى سماتها المميزة، لن يترك لأمة سبيلاً للشعور بوجودها إلا بالتأكيد المجرد لذاتيتها المستمدة من تاريخها ولغتها، ومن مجموعة التكاليف والنواهي التي يمليها عليها دينها أو معتقداتها كنوع من quot; الحصانة الذاتية quot;. فضلاً عن التصاعد المتنامي للأصولية والعنصرية، والنظر إلى المستقبل باعتباره ماضيًا سوف يتكرر... أي ضياعه ضياعًا مؤكدًا!
لقد كان quot; هيجل quot; سابقا لأوانه بزمن طويل، ولم يكن من السهل قبل أكثر من مئتي سنة، أن يتنبأ أحد بالمأزق الراهن للأصوليات المختلفة في ظل حضارة كوكبية واحدة، وإن كان الحال في عالمنا العربي والإسلامي أشد تأزمًا، حيث الهوس الديني هو السمة الغالبة.
والأصولية تجعل الإنسان أشبه بمن يقطن قطعة من الأرض لا يستطيع أن يتعدى حدودها، ومن ثم لا يملك سبيلاً إلا الدوران في حلقة مفرغة ؛ ومما يعمل على هذا الانحباس وتكريسه، تلك النزعة المطلقية والتطابقية التي ينتحي إليها، إذ يصب كل همه نحو إحالة جميع أفراده إلى ما يشبه الشخص الواحد، وكأنه قد جهز قالبًا واحدًا، يعمل على صب جميع أفراده فيه، هكذا فعلت الأصوليات الدينية المختلفة، حيث قضت على ملامح التباين والتنوع والاختلاف، وتم وأد التفرد والاستقلال الفكري (والإبداع)، طالما وأن جميع الأفراد يدورون في حلقة مفرغة، وينتهون من حيث بدأوا، ثم يدورون دورتهم من جديد لكي ينتهوا المرة تلو المرة إلى نفس النقطة التي بدأوا منها.
ولأن طبيعة المعتقدات هي طبيعة استكاتيكية ساكنة وليست دينامية ثائرة، فإن المهوس دينيا يمارس هذه العادة الوجدانية بغير تجديد في جوهر الاعتقاد ذاته، فقد يتعمق في اعتقاده وقد يحياه بكامل طاقته النفسية، ولكنه لا يستطيع عن طريق الاعتقاد أن ينفتح على العالم الخارجي الموضوعي المحيط به، لا يستطيع أن يأخذ ويعطي، وإنما يصبح كل همه هو أن يترجم الواقع الخارجي بأسره في ضوء معتقده هو. فهو أشبه بمن ينظر إلى الأشياء وقد ارتدى منظارًا ذا لون معين. وكل ما يصل إلى بصره من مرئيات يكون في الواقع مصبوغًا بلون منظاره الذي يضعه أمام عينيه.
معنى ذلك أن الهوس الديني يمنع الفرد من أن يستقبل الخبرات الخارجية، وحتى إذا تسنى له استقبالها، فإنها تظل في قوامه الخبري كما هي بغير أن تخضع للعمليات التفاعلية. إنه فقط يستطيع أن يقوم بإصدار الأحكام في ضوء معتقداته، وينفذ هذه الأحكام بيده وبطريقة عنيفة ومدمرة، فهو يحكم على الأشخاص والأشياء، وكل ما يشاهده أو يقع تحت يديه، بأنه حلال أو حرام، مؤمن أم كافر. ويضع القوانين الإلهية ndash; من وجهة نظره - موضع التنفيذ ويصبح هدفه الأسمي فرض الفضيلة، وبالتالي يقصي ويقوض كل ما هو مختلف أو مغاير، أو قل كل ما هو quot; آخرquot;، ليس فقط من باب انه ينفذ شرع الله وعدله علي الأرض، وإنما أيضا بدافع تحصين ذاته وحمايتها أساسا.

ومصطلح quot;الحصانة الذاتيةquot; هذا، طرحه جاك دريدا عقب زلزال 11 سبتمبر، ليغدو مصطلحًا فلسفيًا يشير إلى الأصولية بصفة عامة والهوس الديني علي وجه الخصوص، ومن ثم فإن المجتمعات التي تمضي إلى تكريس هذا المصطلح، تحاول أن تضمن لنفسها ولأنظمتها تحصين الذات والحفاظ على الخصوصية.
وتبني الحصانة الذاتية يعني ضمنًا أن هناك تهديدًا مستمرا يحدق بالذات ويستهدفها. وهكذا يستحيل الإرهاب quot;سمًا وترياقًاquot;؛ فهو الترياق لأنه سيحقق quot;الحصانة الذاتيةquot;، وهو السم لأنه كفيل بـ quot;تقويضquot; (الآخر) الذي يهدد الوجود، والهوس بفكرة العودة إلى الدين عند الأصولية تنبثق أساسًا من فكرة العودة إلى quot;الأصلquot; - origin، بكل تجلياته... فالأصولية هي العودة إلى نقاء الأصل والتطهير من التلوث الطارئ على الأصل من العالم، ومن تاريخه ودياناته وثقافاته الأخري!


أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]