بعد إن تمت أحالة القضايا الخاصة بالإبادة الجماعية التي تعرض لها أهل الفرات الأوسط وجنوب العراق، بعد قيام الانتفاضة الشعبية في آذار 1991 التي اجتاحت العراق، وكانت تعبيرا شعبيا وعفويا على ظلم نظام صدام وسياسته الدكتاتورية وحروبه العبثية، وشكلت تلك الانتفاضة تعبيرا اكيدا على رفض النظام وشخوصه وسياسته من قبل تلك الجماهير، ومع إن القليل من المدن العراقية لم تستطع التعبير عن رفضها لأسباب تتعلق بمحاصرة قوات النظام، ولتمركز قوات كبيرة بالقرب منها، بالإضافة الى عدم وجود التنسيق الفعلي بين تلك المدن التي تحررت من قبضة الطاغية وصارت في ايادي الثوار وبين تلك المناطق، وبالرغم من الأنتهاكات والجرائم التي ارتكبها جناة تسللوا وسط تلك المجاميع الثورية لاعلاقة لهم بالانتفاضة، الا إن الانتفاضة بقيت ناصعة ومسيطرة على تلك المدن والقصبات، وتبخرت جحافل القوات الأمنية والعسكرية المدججة بالسلاح، وهرب الحزبيين من اوكارهم يلوذون بالناس تعبيرا عن اخطاؤهم وخطاياهم،، وماعاد للدكتاتور سوى مقولته التي فضحها حسين كامل بعد هروبه حيث قال له (( لقد انتهينا ياحسين ))، وحقا انتهى صدام منذ تلك اللحظة حيث لم يتعظ ولم يستفد، انما كرس كل ما تبقى له من العمر للأنتقام من شعب العراق.
وفي أتفاق لم يزل يكتنفه الغموض والالتباس في موقف مساند لقوات صدام والسماح بتحليق الطائرات السمتية، في موقف تم اعتباره ردا على التخوف الأمريكي من تغلغل أيران في مناطق الجنوب، تمكن صدام توجيه القوات المتجحفلة في العاصمة لتتقدم الى مناطق الفرات الأوسط والجنوب بموافقة امريكا، بعد إن أسلم بتحرير كوردستان حيث ترك امر مقاتلة شعبها وقيادته، وتم تقسيم العمل بين من تبقى له من ذيول ليس لهم الا إن يقفوا معه، وتوجه المتهمين مدنيين أو عسكريين محملين بالتعليمات التي قررها صدام لهم بأن احرقوا الأخضر واليابس، وأنتقموا منهم، فتم اقتياد مئات الالاف من الأبرياء الى المقابر حيث تم دفن مئات الالاف منهم وهم احياء، في حين تم اعدام مئات الاف منهم رميا بالرصاص دون تحقيق أو محاكمة، وتم القبض على مئات الالاف الاخرين منهم وأقتيدوا الى المواقف التي اعدت لهم والتي لم تكن تستوعبهم، ولعجزهم عن اجراء التحقيق وفرز الجناة والمتهمين عن الأبرياء، لجأ المذكورين الى القتل العشوائي.
وأستطاعت تلك القوات إن تسيطر بالقوة والأرهاب على تلك المدن، في حين تمكن الثوار من الأنسحاب تدريجيا الى المدن الحدودية، ومن ثم لجأ العديد منهم الى منطقة رفحاء في المملكة العربية السعودية، ومنهم من لجأ الى ايران، غير إن الأنتقام أنصب على الكثير من الأبرياء المدنيين الذين طالهم القتل العشوائي.
واعلنت الأحكام العرفية، وتم تطبيق خطط الطواريء، وتم تعيين العسكريين قيادات في هذه المدن، مع وجود التوصية بضرورة تعذيب المدنيين فيها، وتم نصب المفارز والسيطرات، وأصبح كل مواطن في تلك المناطق متهما أمام سلطة صدام، وصب الدكتاتور جام غضبه في مقالات كتبها له المتهم ( خليل محسن ) السكرتير الصحفي يتهم فيها اهل الجنوب والفرات الأوسط بأنهم غرباء وجاءوا مع الجاموس من الهند، وانهم لاشرف لهم ولاقيم، وكل ما تمكن الطاغية من كتابته في مسلسل نشرته جريدة الثورة في حينه، وامتلأت تلك المقالات بالأفتراءات والأكاذيب التي عبرت عنها نفسية الطاغية وجلاوزته وزبانيته.
وتعددت المقابر الجماعية التي تم دفن الأبرياء من المدنيين فيها، ضمن كل منطقة ومدينة ومحافظة، وتبعثرت اشلاء الضحايا، وتمكنت السلطة والجهات المختصة بعد تخلص العراق من سلطة الدكتاتور بهذا الشأن إن تسيطر على تحديد تلك المقابر التي تم اكتشافها وتمنع بعثرة تلك الرفات.
غير إن المقابر تعددت ولم تزل يتم اكتشافها يوما بعد يوم، ويتعدد الجناة الذين ارتكبوا جرائم الأبادة الجماعية.
أن جريمة الأبادة الجماعية من الجرائم التي تقع ضمن الفقرة ( ب ) من المادة الأولى من ضمن أختصاص المحكمة الجنائية العراقية العليا، والتي باشرت بالتحقيق في هذه الجرائم تبعا لكل منطقة، حيث تعتبر تلك الجرائم من جرائم الأبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية.
وجريمة الأبادة الجماعية تعني الافعال المرتكبة بقصد اهلاك جماعة قومية أو أثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه أو أهلاكها كليا أو جزئيا.
بما فيها قتل أفراد من الجماعة و الحاق أي ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد تلك الجماعة، وأخضاعهم عمدا الى احوال معيشية يقصد بها اهلاكهم كليا اوجزئيا، ولهذا فقد تم انجاز التحقيق وتوفرت الادلة التي تكفي لأحالة تلك الأسماء المقبوض عليها على المحاكمة.
وقد وجه الادعاء العام في المحكمة الجنائية العراقية العليا 15 تهمة الى 100 متهم بالضلوع في عمليات قتل واعتقال خلال الانتفاضة الشعبية في جنوب العراق وفي كوردستان في اذار عام 1991 والتي اطلق عليها quot;الانتفاضة الشعبانيةquot;، بأعتبار أن شهر آذار في حينه كان يقابله شهر شعبان بالتقويم العربي، حين تحررت 14 محافظة في العراق بيد المنتفضين قبل ان تكتسح قوات الطاغية صدام تلك المحافظات، وتقضي على الانتفاضة التي اندلعت من مدينة البصرة الجنوبية عقب وصول افراد الجيش العراقي المنسحبين من الكويت اليها اثر تحريرها من احتلال نظام صدام.. بينما خرجت محافظات كردستان الشمالية عن سلطة صدام منذ ذلك الوقت.
ومن بين المتهمين الذين ستتم محاكمتهم : علي حسن المجيد عضو قيادة حزب البعث وحاكم الكويت العسكري سابقا وصابر الدوري مدير الاستخبارات العسكرية وحسين رشيد رئيس الاركان السابق وسلطان هاشم معاون رئيس اركان الجيش وعبد الغني عبد الغفور عضو قيادة البعث ومسؤول البصرة وعبد حميد حمود الناصري مدير مكتب صدام حسين وسعدي طعمه عباس وزير الدفاع السابق واياد فتيح الراوي قائد الحرس الجمهوري وسبعاوي ابراهيم الحسن الاخ غير الشقيق لصدام ومدير جهاز الاستخبارات ومسؤول الكويت الامني السابق.
ومن بين المتهمين ايضا ابراهيم عبد الستار رئيس اركان قوات الحرس الجمهوري واللواء محمد مزاحم الدحام واللواء قيس عبد الرزاق قائدي فرقتين في الحرس الجمهوري ولطيف محل حمود قائد فرقة ومحافظ البصرة واياد طه شهاب الدوري ووليد حميد من ضباط الحرس الجمهوري.. اضافة الى لطيف محل حمود محافظ البصرة الأسبق وسفيان ماهر التكريتي قائد الحرس الجمهوري السابق وإياد طه شهاب مدير الأمن في جهاز الاستخبارات.
وقال مصدر مقرب من المحكمة ان التحقيق في القضية قد انتهى مؤخرا واحيلت اوراق القضية اليها حيث ينتظر ان تبلغ هيئة الدفاع فيها خلال ايام قليلة بموعد بدء جلسات المحاكمة. واوضح انه سيتم توزيع القضية على 14 محافظة وتدمج كل محافظتين في جلسة واحدة بسبب ضخامة عدد المتهمين والمحامين. وقال ان المحافظات في هذه المحكمة ستكون محافظتي البصرة وميسان ويحاكم فيها 15 متهما من بينهم كبار القادة العسكريين والاعضاء الكبار في حزب البعث.
كما عدت المحكمة الجنائية المسؤولية الجنائية الشخصية للمتهم تتحقق أذا ارتكب الجريمة بصفته الشخصية بالأشتراك أو بواسطة شخص آخر، بغض النظر عما أذا كان هذا الشخص مسؤولا أو غير مسؤول جنائيا، أو اذا أمر بأرتكاب الجريمة التي وقعت بالفعل أو الشروع فيها أو الحث على ارتكابها، بالأضافة الى التحريض أو الحث والأسهام بأية طريقة بقصد تعزيز النشاط الأجرامي.
علما بانه لايعفى الرئيس المباشر الأعلى من المسؤولية الجنائية عن الجرائم التي يرتكبها الأشخاص الذين يعملون تحت أمرته، بشرط إن يكون الرئيس قد علم أو كان لديه العلم بأرتكاب تلك الأفعال ولم يتخذ الأجراءات الضرورية والمناسبة لمنع وقوع تلك الأفعال.
ولاتشمل تلك الجرائم بالتقادم المسقط للدعوى بأعتبارها من الجرائم التي نص على تجريمها القانون الجنائي الدولي والقانون العراقي ايضا.
- آخر تحديث :
التعليقات