تنقرض لحظات الفرح في عالمنا المليء بالحروب والانكسارات، ففي هذه المرحلة يمرّ لبنان بالإنهاك السياسي ومرحلة quot;الربو الطائفيquot; و جرح العراق ينزف قروحاً وصديداً وتعيش فلسطين مذابح بشرية وجماعية بين بعضهم البعض، في مرحلة كهذه تبحث عن فوهة بحجم الإبرة تخرج من خلالها رأسك لتتنفس قليلاً بعيداً عن إزعاج السياسة وإرهاق الفكر والفلسفة، والنقد والرقابة، وهذا فعلاً ما يحدث للمتابع الذي يقرض الأوراق والصحف، ويلهث وراء الأنباء والتحليلات ويحرق عروق عينه بالقراءة والبحث والتدقيق، يحتاج إلى لحظة ينظر من خلالها إلى مشهدٍ آخر يطمئنه بأن في العالم ملاذاً يمكّنه من التطهّر، وهذه هي ميزة الإعلام وخاصيته أنه ينقل المتناقضات، وهذا فعلاً ما رصدته في الأسبوع المنصرم.
حيث اجتمع مجموعة من الكتاب والفنانين والصحافيين والإعلاميين لافتتاح قناة جديدة أطلق عليها اسم quot;وناسهquot; وهي أحد المشروعات التجارية التي يقيمها راشد الماجد المغني السعودي، وهي قناة تشرف عليها مجموعة quot;إم بي سيquot; وكنت بعد أن أرهقتني المتابعة والكتابة وضعت جسدي على الكرسي وبدأت أقلب في القنوات، فمررت-وكان اليوم الثلاثاء- على أشكال وألوان من المتناحرين فضائياً، ففي الجزيرة تتناطح شخصيتان حول حقيقة quot;الفوضى الخلاقةquot; وفي قناة أخرى شيخ يزعق بالمستمعين ويؤكد لهم أنهم كلهم من الضالين المضلين وأن من لم يتبعه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وفي قناة رابعة أشباه الفنانين يتسولون على الفن بالتخلّع والتميّع، وفي قنوات أخرى تشهد صهيل القوميين/ ولو رأيتهم إذ رأيتهم، كان الواحد منهم قد دلع لسانه قريباً من الطاولة وحرّك كلتا يديه بحركات بهلوانية ومتوزّعة ويمدّ أحدهم بلعومه الناشف ويصرخ على الشاشة محذراً العرب من شر قد اقترب، ويرعد ويزبد بأن معضلات العالم هي من الخليجيين والخليج ومن بندر بن سلطان، كان هذا هو بالتحديد الكاتب اللبناني quot;ناصر قنديلquot; المتسوّل القومي الذي يقتات كالفأر على الوثائق المزورة التي تعطيها له المؤسسات الاستخباراتية من أجل أن تستخدم بلعومه للتشويش والتنويع، لقد كان بلعومه نافراً عن كل أدبيات التحدث وكل أبجديات الإعلام. كان مشهده مخزياً وهو يتحدث بألم وفزع عن أن كل البلاوي والمصائب مصدرها الخليجي والسعودي ومصدر الأمن هي سوريا وإيران. كان مثيراً للشفقة وهو يتحدث بعروقه المتضخمة وأوداجه المتفرعنة معلناً أن الخلل كله في أمريكا وأزلامها من السعوديين، هكذا كان منطقه، ولو رأيته وهو يجرّ ملفاً ضخماً ويرجوا المشاهد أن يقتنع بوثائقه المزعومة لقلبت كفاً بكفّ وأسفت على هذه العقول ثم اتجهت إلى قناة quot;إم بي سيquot;.
لقد كان الهروب من ذلك الصراخ القومي، إلى قناة quot;إم بي سيquot; خروجاً آمناً، ذلك أنك انتقلت من مفهوم إلى مفهوم آخر، من مفهوم الزعق، إلى مفهوم العزف، حيث تجد الخليجيين الذين يتحدث عنهم بسخرية، وهم يمارسون quot;ثقافة الحياةquot; ويتّصلون بالآخرين بوسائلهم الفنية، إنه مشهد جيد، وبكل الأحوال أقل سوءاً من تلك البلاعيم التي تدعي أنها رسل خير ورابطة سلام، في حين يسود التناحر والتنافر المخزي بين الإخوة، تحوّلت الأوطان لدى البعض ndash;مخططات- يعرضونها لمكاتب السماسرة في الداخل والخارج، بينما يسود السلام والتطوّر في بلدان الخليج التي تعتبر أكثر بلدان العرب أمناً وسلاماً. لقد قدم لنا الإعلام في الصورة السالفة مشهداً من التناقض الذي نعيشه عربياً، فبين صراخ عقيم، تجد برنامجاً يتخذ من الفن وسيلة للتقريب بين الشعوب، ومن الصوت والنوتة مجالاً من مجالات الحياة، وتستخدم بكل تؤدة الوسائل التي استبعدتها النخب القومية والإسلامية التي تحارب كافة أِشكال الفن وتعتبره من الترف ومن الهوامش.
يساهم الإعلام في رسم صور متعددة، وإذا كان الإعلام العربي بكافة أشكاله يعيش حالة من الغليان والغثائية، فإن بعض النماذج الأخرى تعيد بعض الأمل، ففي الافتتاح الذي قدمته quot;إم بي سيquot; لتلك القناة الجديدة التي لم اشاهدها قدمت (إم بي سي) مجالاً جديداً من مجالات التعبير، بعيداً عن الخلاعات البائسة، والأصوات العقيمة وبعيداً أيضاً عن نضالات السذّج الذين يزعجون آذاننا بأنهم أهل التغيير والتجديد والتسديد، بينما لا يقدمون إلا الصراخ وإزعاج الأطفال والمسنين في بيوتهم. آن الأوان أن نتخلص من الأبجديات الزاتفة في طرق التعامل مع الإعلام والعالم، وأن نتخفف من سماع البرامج السياسية والإصلاحية المشبعة بالنضالات والأيديولوجيات وأن نبدأ في استحداث طرائق جديدة للتعرف على الفنون والحياة وجمالياتها بعيداً عن أطياف مضت ومراحل أعلنت عقمها، فمع سقوط بغداد 2003 انتهت أكذوبات كثيرة ليس أقلها quot;الوحدةquot; وانهياراتها المتتابعة وأصبح العالم الآن أقل تأثراً بالأفكار أصبح مروهناً بالاقتصاد والتداول والشراكات المتنوعة أصبح التغيير الثقافي منشبكاً بتأثيرات كثيرة من بينها quot;الفنونquot; و quot;الجمالياتquot; و quot;العمرانquot;. متى نؤمن بأهمية تخفيف الظهور الذي يمارس من قبل كافة الأطياف والتيارات، وأن ننصت إلى اللوحات التشكيلية والفنية والنوتات الهادئة بعيداً عن صخب السياسة والفكر وإزعاج العالم بالصراخ والأدواج ورذاذ اللعاب.
كاتب سعودي.
[email protected]
التعليقات