قبل أيام مات في دمشق ودفن في مقبرة الغرباء الصحفي المعروف سعود الناصري، وحين يرحل صديق عن هذه الدنيا، تنفطر قطعة من القلب وتمضي معه،وفي طريقه الطويل إلى المجهول تتلقفها منه الأشباح لمأدبتها الوحشية! حيث تجد لذتها في التهام قلوب الأحياء مع قلوب الموتى! وبينما يكون من مات قد خرج من قانون الألم يكون على الحي أن يكابد رحلة الأشواك والكلمات في أعصابه!
كثر رحيل الأصدقاء في العراق وفي المنافي وانسلاخ قطع من القلب مع أسفارهم الأبدية على طريق الأشباح، ولا أدري كم قطعة واهية من القلب تبقت لأصدقاء سيرحلون قريباً، بينما ليس في قرارة القلب سوى خجل وأسى وتساؤل، لماذا لا يكون هو من رحل؟ مخجل أن يبقى المرء حياً في زمن يموت فيه الطيبون الرائعون،تحت أمواج الشر المتصاعدة كأمجاد للمتغطرسين الأدعياء. من حق الناس أن تشير للقلب مهما تعذب بإصبع الشك والريبة، ماذا فعلت لتبقى حياً؟ مع من تواطأت؟ كيف عقدت صفقة طويلة مع الحياة؟ كيف أقنعت الموت أن موعد لقائكما لم يحن بعد؟
وحين يموت الكاتب لا يمكن القول إنه قد مات وانتهى إلا إذا كانت قضيته قد ماتت وانتهت. من له قضية أو مهمة إبداعية ما تزال حية وعصية على الموت، لا يمكن القول أنه قد مات وانتهى، حتى لو استراح جسده المنهك في جدث مهجور!
لقد كان سعود الناصري يحمل هماً إنسانياً كبيراً, كان يحلم بعراق حر سعيد فارتبط بالحزب الشيوعي العراقي. ولكن ارتباطه لم يكن ضيقاً كما لدى الحزبيين المتزمتين، بل كان جزءاً من نظرته الإنسانية الواسعة، فقد كانت له علاقات متشعبة كثيرة مع الناس, ولم يتعصب لفكرته فيراها كلية القدرة، أو تنظيمه فيراه قفصاً حديدياً، فارتبط بصداقات مع أشخاص من مختلف الاتجاهات والانتماءات: ديمقراطيين وقوميين ومستقلين وبعثيين وحتى إسلاميين! (من البعثيين حافظ على علاقة حميمة مع أصدقاء طفولته في الأعظمية رياض الحاج حسين وزير الصحة الذي أعدمه صدام، ومع الصحفيين المعروفين ضياء حسن، وسعد قاسم حمودي الذي مات معه بنفس العام) ورغم أن الشيوعية هي المستحيل، لكن الشيوعيين العراقيين في عملهم اليومي الآن يقومون بدورهم في مواجهة المد الديني الطائفي الرجعي و في محاولة تحديث العراق وبذا يكون حلمه معهم لم يتبدد، كما إن نظرته الرحيبة للعلاقات والنضال من أجل عراق يكون للجميع، ويستفيد من كل الطاقات والاتجاهات والألوان، ويمتثل لروح العراق الواحدة لا لخرائطه المتقلبة كل يوم حسب الأهواء القومية والطائفية ما يزال قائماً، وهي قضية الساعة اليوم!وكان يحلم بصحافة نقية شفافة دقيقة مكتنزة بالخبر والمعلومة والفن خاصة، وتعتمد الحقيقة فحاولها بإصرار وألم وصبر قرابة الخمسين عامًا،وقد بدأها في جريدة البلاد التي كان يرأس تحريرها الصحفي والناقد السابق لزمانه روفائيل بطي في الخمسينات فتعلم منه الكثير من القيم الفكرية والصحفية واخترق طريقاً طويلاً في الصحافة التقدمية العراقية حتى سفره لموسكو لدراسة الصحافة والإعلام واقترانه بسلوى زكو الصحفية الكبيرة رفيقة دربه الأولى وأم ولديه عمار وزيد، ومن إذاعة موسكو سمعهما الكثير من العراقيين وهما يتصديان بصوتيهما الجميلين ونغمات العود الذي كان سعود يجيد العزف عليه لهجمة الشر على العراق في شباط عام 1963، ويبشران بسلام ورخاء للعراق طال انتظاره حتى اليوم!
وفي الثلاثين عاماً الأخيرة من تشرد المثقفين العراقيين ونفيهم الإجباري والاختياري في شتى أصقاع العالم، آثر سعود الصمت والانزواء، ولم يؤجر قلمه أو يضعه في خدمة أية جهة تناقض أفكاره وأحلامه الإنسانية،رغم المغريات الكثيرة. كانت هذه العزلة القاسية الأليمة أحد أسباب مرضه. وفي محاولة لكسر هذا الحصار الروحي والفكري الرهيب أقدم مع الصحفية الرائدة سلام خياط وزوجته الصحفية ليلي البياتي، على إصدار جريدة (الأبيض ) من بيته في لندن وهي جريدة تكاد تكون بحجم رسالة شخصية، صدرت مرة كل أسبوعين، وقد عاونه في تحريرها أصدقاؤه القدامى بمقالاتهم ورسائلهم وأمنياتهم! وقد حاولت إثارة الراكد في حياتنا الصحفية والسياسية ولكن الواقع المتحجر كان في سواده أقسى من صفحاتها البيضاء, فتوقفت عن الصدور!
لقد كان سعود في هدوئه ورقته وخلو قلبه من أية كراهية أشبه بحلم أطل على الدنيا في زمن الكوابيس, لكنه ظل عنيداً وهو يحاول أن يجعل مما حوله أحلاماً وآمالاً كبيرة! وإنسان مثله يصعب أن يكون مجرد نغمة في أية موسيقى جنائزية تريد تشييعه وطي صفحة آلامه ونسيانه!
كثيرون صفقوا خلفهم أبواب الموت بغضب, ومن حقهم أن يغضبوا فهم لم ينجزا ما كانوا يحلمون به أو يعملون عليه،لكني أرى سعود من بعيد وهو يوارب خلفه كعادته باب الموت بهدوء ورقة، ويجلس وراء منضدته ويحاول أن يكتب أشياء كثيرة فاته قولها، أو أن احتفاءه الكبير بالحياة جعله يؤجل قولها إلى ما بعد الموت!
يصعب علي الآن أن أتقصى رحلة صداقتي مع سعود منذ كان رئيس تحرير الصفحة الأخيرة لجريدة الجمهورية في بغداد،في أوائل السبعينات حيث كان ينشر لي عموداً بين حين وآخر، حتى لقاءاتنا في موسكو مع غائب طعمة فرمان وسلام مسافر وأحمد النعمان وجلال الماشطة وعادل العبيدي وآخرين من الصحبة المبدعة الجميلة!
وفي بغداد كانت لنا لقاءات جميلة كثيرة لا تنسى، بينها رحلتنا الجميلة مع الجواهري الكبير وابنه فرات والفريد سمعان وهاشم الطعان وعلي الحلي و إبراهيم اليتيم إلى هيت في أعالي الفرات،عندما استضافنا الشاعر جاسم محمد أمين في بيته الكبير المطل على الشاطئ, ولقاءات وجلسات أخرى رائعة كثيرة امتدت حتى خروجنا إلى المنافي حيث ظلت حياتنا متوازية متصلة دائماً في زيارات ومكالمات ورسائل!
حقاً يا صديقي سعود لقد كانت لنا أيام، ولكن أية أيام؟ أيام طفحت بالصداقة والود والعطاء الجميل، كما طفحت بالصراعات الحادة القاسية وبالإحباطات والخيبات والهزائم!
أيام كانت ثقيلة كأنها محشوة بكل رصاص الأعداء وأحقادهم, وخفيفة كخفة دم أصدقاء طيبين فارقونا ليستشهدوا, أيام منحها لنا رفاق، وأيام أكلها رفاق، أيام عطرتها أشجار البرتقال وقصائد المحبين ووجوه النساء الطيبات، وأيام أحرقتها الشعارات والاجتماعات الطويلة المملة الفارغة! أيام بحلوها ومرها كانت مليئة بحسن النية، رغم أن أحد أسلافنا الأيدلوجيين قال إن الطريق إلى جهنم معبد بحسن النية! أيام لم تمض سدى على أي حال، فهي قد صنعت عقولنا وضمائرنا بكل ما تحوي من توازن أو خلل! ومن يرحل منا تتولى ذكراه تصحيح أشياء كثيرة بما فيها ضمائرنا التي لا تحظى بما تستحق من مراجعة حتى في لحظات موت الأصدقاء!