المواجهة الشاملة الجارية الآن بين شعوب الشرق وباقي العالم، وبالتحديد بينها وبين العالم الغربي ومن ينهج على نهجه، ينظر إليها البعض وكأنها مواجهة بين الدين الإسلامي وبين باقي الأديان والحضارات، ويعتبرها آخرون مواجهة بين الشرق بتراثه وقيمه وبين الإنسان الغربي وحضارته، وهناك من يعتبرونها صراعاً بين محبي الحرية الساعين للحداثة أياً كانت دياناتهم، وبين دعاة التخلف والشمولية عموماً، وهناك أخيراً من يذهب بعيداً في تسطيح الأمر، بإسناد دعوات العداء والكراهية والإرهاب إلى إساءة تفسير النصوص الدينية، وإلى معاناة الإنسان الشرقي من الفقر الذي يشمل سائر متطلبات الحياة، ومن نظم حكمه المستبدة، وما تمارسه من يقهر، لا يمكن أن ينتج إلا إرهاباً.
لا نستهدف تقييم وجهات النظر هذه، وبيان ما فيها من خطأ أو صواب، لأننا نزمع أن نتجاوزها، للبحث في جذور الاختلاف بين البشر، فنتفحص علاقة الإنسان بالكون، ونقصد بالكون كل مظاهر الحياة المادية والبيئية والبيولوجية، فهذه المقاربة تزعم أن الخلاف بين طرفي الصراع الدائر حالياً، هو خلاف في موقف كل من الطرفين من حقائق العالم (بمعناه الوجودي).
الموقف الأولي للإنسان من الوجود كان الخوف، وما يترتب عليه حتماً من عداء، إثر مواجهته للحيوانات الضارية، فور نزوله من صحبة القردة على الأشجار، وخوف من مظاهر الطبيعة وبطشها، وحين اكتسب الإنسان بعض الخبرات في التعامل مع الكون، سواء لدرء ما يتعرض له من شرور، أو لتحصيل ما تتطلبه حياته من منافع، لم تكن تلك الخبرات العملية سوى تأقلم وتوافق مع الكون، ويمكن أن نطلق عليها توصيف مصالحة في مقابل العداء، لكنه توافق ومصالحة جزئية، ولأن الخوف والعداء يسببان حالة دائمة من التوتر، كان من المحتم على الإنسان أن يحاول التغلب على توتره هذا، وقد كان التعامل العملي مع حقائق الكون جزءاً من محاولاته هذه، لكن لأن هذا الجزء كان في البداية ضئيلاً في حجمه وفي معدل تطوره، لجأ الإنسان تحت ضغط توتره إلى حيلة أخرى لتخفيض درجة الخوف والتوتر، وتمثلت هذه الحيلة في تجاوز هذا الواقع، وعبوره إلى ما نعرفه بالميتافيزيقا، يستعين بها على مواجهته المريرة مع الكون، يستمد منها الأمان بتخيل كائنات غير مرئية تحميه وتحرسه، كما يستمد منها العون على تطويع ما يعجز عن تطويعه من مظاهر، تأميناً لحياته واحتياجاته.
بدأ الإنسان رحلة تجاوزه للكون الذي يناصبه العداء، بعبادة ما كان يخشى أو يعادي من مظاهر كونية، فعبد قوى الطبيعة والحيوانات التي يخشاها، وكلمة quot;عبادةquot; مشتقة في اللغة العربية من الاستعباد، بمعنى إقرار الإنسان بعبوديته أي خضوعه لتلك القوى، وهي علاقة دافعها الخوف والعداء، وتهدف لاتقاء شر ما يعبد، ومنها صارت كلمة quot;تقوىquot; مرادفة لكلمة quot;إيمانquot; في استخداماتنا حتى الآن، ونستطيع أن نجد ذلك التوجه مستمراً، حتى بعد الانتقال إلى عبادة إله متسام، حين لا نعدم من ينسب ظواهر الطبيعة المدمرة - مثل الزلازل والمد البحري والبراكين ndash; إلى غضب الإله على فجار الناس، ولا تفلح مع من يرون ذلك محاولات توضيح ما في منطقهم من تهافت وتناقض، لأن المصدر الحقيقي لرؤيتهم ليس عقلياً، وإنما هو ناتج عن توجههم نحو الكون، والذي يحدد طبيعة مفهومهم للدين، وعلى هذا النهج أيضاً كان اختراع الإنسان للسحر، الذي به يستطيع أن يحقق ما يريد من تغييرات وتأثيرات فيما حوله من مظاهر تخيفه أو تستعصي على محاولاته لتطويعها.
ليس فقط العنف هو ما يترتب على موقف العداء من العالم، فهناك نتائج أقل حدة، وإن كانت أخطر وأعم تأثيراً، إذ يكون موقف الإنسان من العالم سلبياً، وتقتصر فعالياته الإيجابية على تأمين نفسه من المخاوف التي تسكنه من العالم (هناك حكمة مصرية يقول: دنيا غرورة وزمن كذاب!!)، وذلك بتأمين متطلباته الشخصية، ورغم أن هذا المبدأ وحده كفيل بدفع مسيرة البشرية للأمام، إلا أن الفرق شاسع بين سلوك الإنسان المعادي للعالم وبين سلوك المحب والمتصالح معه، فالأول سيحاول الأخذ من العالم بأي طريقة وبأي أسلوب، ولا يضع في اعتباره ما يترتب على أسلوبه من أضرار للآخرين أو البيئة مثلاً، في حين أن المتصالح مع العالم سوف يسلك في سعيه للحصول على المكاسب ما نسميه بالطرق المشروعة، أو الطرق التي تؤدي لتعمير العالم، وينعكس مردودها إيجابياً على الجميع، لذا نجد المجتمعات التي يسودها توجه العداء للعالم، يكون رجال السلطة والأعمال والصفوة فيها من الانتهازيين والطفيليين، يدمرون الحياة وهم ينتزعون منها ما يريدون، ولا يكون الحال عند القاعدة الجماهيرية أفضل، وإنما مجرد أن قدرة الفرد العادي على التدمير أقل، لكن بالنظر إلى المجموع، يكون التدمير الناتج عن ممارسات القاعدة أكبر.
في حين أن المجتمعات التي يسودها توجه المصالحة تزدهر، فيما كل فرد يسعى لتحقيق صالحة الخاص، وهي بالتحديد المجتمعات التي تطبق الليبرالية والرأسمالية، التي تعتمد الانطلاق بداية من الفرد الحر وليس المجموع، والحادث أن الفرد المحب للكون تتضمن منظومة قيمه واهتماماته قيمة تحسين وتعمير الكون، كجزء عضوي من قيمة تحقيق صالحه الخاص، فيكون سلوكه لتحقيق مصالحه مرتبط ومشروط بقيم المجتمع والحياة عموماً.
من الممارسات التي تنطلق من عداء وجودي أيضاً رغم مظهرها المسالم، الاتجاهات النسكية التي تضطهد الجسد الإنساني وتضعفه، تحت زعم تقوية الروح، وما قد يصاحب تلك الممارسات من أفكار تطهرية، تحط من شأن الجسد واحتياجاته الفسيولوجية والبيولوجية، باعتبارها احتياجات دنيئة، يستحسن التعالي عليها للانطلاق إلى عالم الروح، فهنا العداء للكون يأخذ صورة محاولة التطهر منه، والالتحاق بعالم وكائنات أخرى افتراضية سامية، فهذه النزعات تخاصم العالم والجسد، بزعم مصالحة عالم السماء المتطهر من الجسدانية والمادية، وهي أشبه بفيل يعادي طبيعته وتكوينه، على أمل أن يتحول إلى عصفور، لتكون النتيجة أنه لن يصبح هذا ولا ذاك.
كانت مغامرات الإنسان الميتافيزيقية الأولى إذن مقاربات عدائية الطابع، عدائية للكون المادي والبيولوجي، الذي يسعى للتغلب علية عبر التجاوز، كما هي بذات الوقت عدائية للقوى التي يفرط في إعلان خضوعه لها وانتمائه إليها اتقاء لشرها، واستجلاباً لنفعها ومساعدتها، فاستعان الإنسان بآلهته لتدمير أعدائه من البشر والحيوانات، كما كان يُرضي عدائية تلك الآلهة نحوه (التي هي انعكاس لعدائيته نحوها، ولنلاحظ أن التصورات البدائية عن الآلهة تصورها بصورة رهيبة) بتقديم ترضيات من ذبائح بشرية، تحولت مع الوقت إلى بديل حيواني، ثم صارت الترضية بمجرد أداء مجموعة من الطقوس، مهمتها إرضاء الآلهة، بغض النظر عن معناها أو مناسبتها لواقع الحال، حيث تنتمي إلى ما يمكن تسميته quot;بفلسفة الترضيةquot;، واستخدم القوى السحرية لاستكمال المهمة، واستمر الإنسان كائناً عدائياً بقدر محدودية خبراته العملية، ومحدودية نمو وعيه العقلي العملي، أي العقل القادر على اكتشاف العلاقات الطبيعية المادية بين الظواهر، بما يتيح له التحكم فيها والسيطرة عليها، ثم تسخيرها بعد ذلك لصالحه.
العقل العملي إذن كان قوة الدفع باتجاه مصالحة الإنسان مع الكون، إذ كانت المصالحة هي النتيجة المترتبة على نجاح الإنسان في تطويع الكون بقواه وقدراته الذاتية، فيما بقى الخيال الميتافيزيقي هو الدافع لنهج البقاء عبر التجاوز للكون والعداء معه، وبامتداد مسيرة الحضارة كان العقل ينمو، وتزداد معه قدرة الإنسان على التحكم في مقدرات حياته، فيتضاءل الخوف، ويتضاءل معه النهج العدائي للكون، ومع النمو العقلي تمتد المصالحة إلى الرؤى الميتافيزيقية، ليدخل فيها المنحى العقلاني التصالحي.
لكن معدل نمو الوعي العقلي وبالتالي العقلانية لم يكن متساوياً بين جميع الشعوب، بذات قدر عدم تساويه بين أفراد المجموعة أو الشعب الواحد، وفقاً للاختلافات البيولوجية والبيئية بمختلف أركانها، ما ترتب عليه اختلافات بين موقف الشعوب والأفراد من العالم، ودرجة توظيفهم للعقل في التعامل معه، كذا في مقاربتهم للدين أو العقائد الميتافيزيقية، لينتج عن ذلك انقسام البشر إلى معسكرين رئيسيين: معسكر العداء مع الكون، الذي يوظف الدين والأيديولوجيا بذات النهج، ومعسكر المصالحة المعتمد على العقل، والذي يقارب الدين مقاربة تصالحية، وليس الأمر هنا أمر توعية دينية أو علمية لاكتساب المعسكر الأول (العدائي التوجه) إلى معسكر المصالحة، أو العكس بمحاولة معسكر العداء التبشير برؤاه العدائية بين معسكر المصالحة لاكتساب أفراده، فرغم أن مثل تلك المحاولات ذات تأثير، من قبيل إيقاظ وتنمية القدرات العقلية أو تغييبها، إلا أن الأساس هو في إجمالي موقف ورؤية الإنسان إلى العالم، إن كانت رؤية عدائية أو تصالحية، فالخلاف غير مرتهن باعتماد تفسيرات معينة للنصوص، سواء كانت أيديولوجية أو دينية.
ليس من المتصور بالطبع أن نجد في الواقع العملي من يعادي أو يصالح الكون بنسبة 100%، إذ يتوزع الناس على العديد من النقاط بين النقيضين، ليبقى لدى كل فرد شيء من هذا وشيء من ذاك، ونلاحظ مثلاً أن آلهة مصر القديمة (الممثلة لموقف المصريين من الكون) كانت أغلبها مسالمة ومتصالحة مع البشر، بقدر ما تمكن المصريون من التصالح مع محيطهم الحيوي، وترويض نهر النيل، لتخرج لهم الأرض خيرات، تختلف عن quot;الشوك والحسكquot; الذي حكم على الإنسان به إله للبداوة، ففي الصحارى المقفرة كان البدو وآلهتهم قساة، يعتمدون الغزو والإغارة كموقف من الكون، وليس فقط كموقف من جيرانهم، أو من بعضهم بعضاً، ذلك سعياً لتأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة، لكننا لا نستطيع أن نثق تماماً في قاعدة، أنه حيث الوفرة الطبيعية فهناك التصالح، وحيث الندرة هناك الخصام والعداء، حتى وإن كانت تثبت صلاحيتها في أحيان عديدة.
لا نقول بأن تنمية العقل والاعتماد عليه يؤدي حتماً إلى موقف تصالحي، لكن العكس صحيح، فالموقف التصالحي من العالم لا يتأتى إلا بتنمية مقدرة الإنسان على التعامل مع حقائق الوجود، وهو ما لا يتحقق إلا بإعمال العقل وتنمية قدراته، بمعنى أن العقل شرط ضروري ولكنه غير كاف لضمان توجه المصالحة، فالعقل إذا ما توجه من منطلق وجودي عدائي، فإنه سيعمد إلى ابتكار رؤى نظرية طوباوية، من وجهة نظر متسامية ومفارقة، ليفرضها لتكون بديلاً لهذا العالم الذي يضمر له العداء، هكذا كان العقل وراء الأيديولوجيات الشيوعية والنازية والفاشية، كذا فكرة القومية العربية، وهي بالأساس فكرة عقلانية، تحولت في طبعاتها البعثية والناصرية، إلى أيديولوجية للعداء، لأن معتنقي مبادئها كانوا بالأساس في حالة عداء نحو الوجود، نتيجة لعم توفر الظروف التي تنقلهم إلى حالة المصالحة.
وكما عرفت البشرية العداء والاقتتال انطلاقاً من أيديولوجيات عقلية عدائية التوجه، عرفت كذلك عداوات الحروب الدينية ومحاكم التفتيش في أوروبا والحروب الصليبية، وتعاني الآن من الإرهاب والقتل باسم الدين، لنخلص من هذا بأن حملات التوعية والتنوير ليست كافية للقضاء على شيوع المواقف العدائية، كذا التنمية الاقتصادية والاجتماعية رغم أهميتها ليست هي الأساس، ولا حتى ما يسمى بالإصلاح السياسي.. قد يكون كل ما سبق عوامل مساعدة على تحقيق المصالحة، لكن البوابة الأساسية لينتقل الإنسان من موقف الخوف والعداء للوجود، إلى موقف التوافق والمصالحة، هو تنمية قدراته الذاتية عبر تدريب ملكاته العقلية ومهاراته العملية، ليشعر بجدارته وقوته الذاتية في مواجهة الوجود ومظاهره.. عندها لن يحاول تجاوز العالم بالغرق في الغيبيات واستجلاب المعجزات من السماء، ليحقق عن طريقها ما يعجز عن تحقيقه، أو يسعى لتحطيم العالم على رأس من فيه، أو بتفجير نفسه للانتقال إلى عالم آخر، ينعدم فيه الخوف الذي يسكن جوانحه، ويجد فيه كل ما يتوق إليه ولا سبيل لتحقيقه في العالم المادي.
- آخر تحديث :
التعليقات