لا خلاف على أن مأساة العراق طالت وتطال كل مكونات الشعب العراقي دون استثناء. ولو أخذنا عدد ضحايا المسيحيين, الذي بلغ أكثر من اربعة مائة قتيل ومئات الجرح حتى الآن بينهم العديد من رجال الدين آخرهم الأب رغيد عزيز كني وثلاثة من الشمامسة قتلوا في الثاني من حزيران الماضي في مدينة الموصل(نينوى), قد لا يشكل شيئاً بالمقارنة مع العدد الاجمالي للضحايا العراقيين من المدنيين والذي تجاوز الثمانمائة ألف قتيل منذ بدء الغزو الأمريكي للعراق في آذار 2003, لكن يرى الكثير من المهتمين بالوضع العراقي, أن محنة المسيحيين بمضاعفاتها المختلفة على المجتمع المسيحي تفوق محنة باقي العراقيين, ذلك بسبب خصوصيتهم الاجتماعية والدينية والتاريخية. فاستهداف شريحة عراقية آمنة مسالمة, ليس لها ميليشيات مسلحة كغيرها من الطوائف والتشكيلات العراقية, وتكاد تقتصر مطالبها على عودة الأمن المفقود والدولة الغائبة لوطنٍ تتمزقه حروب الأخوة من جهة, وحروب الأعداء من جهة أخرى, أمراً يثير الكثير من التساؤلات والمخاوف حول مستقبل ومصير هذه الشريحة. إذ يبدو جلياً أن الهدف الأساسي للمجموعات الإسلامية المتشددة والتنظيمات الإرهابية, التي تستهدف المسيحيين بشكل منظم وتهجرهم بشكل قسري من مناطقهم وأحيائهم التاريخية, هو اخلاء العراق من هذا المكون العراقي الأصيل وتقويض الوجود المسيحي في المنطقة عامة. قبل اسابيع اصدرت منظمة (حمورابي) لحقوق الانسان العراقية تقريرا خاصا حول الاعمال الاجرامية التي تستهدف الأقليات الغير المسلمة في العراق, كالمسيحيين والصابئة المعمدانيين والإزيديين والشبك. وقد رصدت المنظمة في تقريرها انتهاكات حقوق المسيحيين (الكلدواشوريين السريان والأرمن) مدعوما بالوثائق والاسماء والارقام والاحصائيات التي تكشف فظاعة والحجم الحقيقي لمأساة المسيحيين العراقيين, نتيجة تردي الوضع الأمني والتراجع الكبير في مستوى الحماية التي يتوجب ان تتمتع بها القوميات الصغيرة والاقليات الدينية والاثنية وفق الدستور العراقي. وقالت الامم المتحدة في تقرير لها هذا العام انه كان هناك 1. 5 مليون مسيحي اشوري يعيشون في العراق قبل 2003 نصفهم فر من البلاد في السنوات التالية بعد الغزو. أي بما يشكل نحو 40% من العدد الاجمالي للمهجرين العراقيين خارج بلدهم والمقدر بنحو ملوني شخص بحسب تقارير المفوضية الأوربية للاجئين. وفي هذا السياق تعتقد معظم المرجعيات الدينية والمدنية المسيحية ومعها بعض النخب الثقافية والفكرية العربية والإسلامية, ان اعمال العنف ضد المسيحيين, في العراق وخارج العرق, لا يمكن عزلها أو فصلها عن ظاهرة تنامي الاتجاهات الإسلامية الأصولية التي بدأت تجتاح مجتمعات المنطقة. تجدر الإشارة هنا الى ان الاعلام يتناول اليوم أكثر من عشرين تنظيماً اسلامياً جهادياً متشدداً, بعضها معلوم وبعضها الآخر مجهول, تمارس العنف والإرهاب تحت مسميات مختلفة في المنطقة والعالم وهي مدعومة من جهات إقليمية ودولية. جميعها ترفض الحداثة وقيم المدنية والعلمنة. استراتيجيتها تقوم على إحداث تغيير سياسي وثقافي واقتصادي واجتماعي جذري في دول المنطقة وتطبيق الحكم الإسلامي فيها, وربما في العالم اجمع لا حقاً, وبما يتوافق مع رؤية هذه التنظيمات السلفية للحياة والدين والإنسان والمرأة. وهي تزعم وتدعي تضليلاً بأن هدفها الأساسي هو الدفاع عن قضايا العرب والمسلمين و مواجهة مشاريع الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية والغربية على المنطقة العربية الإسلامية.
محنة المسيحيين العراقيين, فضلاً عن الاعتداءات التي يتعرض لها المسيحيون في العديد من دول المنطقة من حين لآخر على ايدي متشددين اسلاميين والخوف من امكانية أن ينتقل المشهد العراقي الأليم الى هذه الدول, أعادت طرح قضية المسيحيين في الشرق العربي الإسلامي من جديد, بعد عقود طويلة من الأمن و الاستقرار النسبي الذي نعموا به. وقد قدمت الكثير من الأقنية الفضائية حلقات وبرامج خاصة عن واقع المسيحيين العراقيين ومحنتهم, كذلك نشرت الصحف العربية والآشورية والأجنبية العشرات من التقارير و المقالات التحليلية عن القضية ذاتها وألقت مزيد من الضوء عليها. وكان البابا بنديكتيوس قد أعرب عن قلقه في أكثر من مناسبة بسبب الهجرة الجماعية للاقلية المسيحية من العراق ومن أجزاء أخرى في الشرق الاوسط بسبب العنف والاضطهاد. كما أثار البابا خلال لقاءه الاول مع الرئيس الاميركي جورج بوش في الفاتيكان في حزيران الحالي, الوضع الإنساني المأساوي في العراق واعرب له عن قلقه الشديد حيال تردي الوضع الأمني فيه وعلى مصير المسيحيين العراقيين. وبحسب وكالات الأنباء, اكتف الرئيس بوش بالقول: اننا نعمل جاهدين لكي يحترم الناس الدستور العراقي الذي يؤكد على التسامح بين الأديان. بعد لقاء, بوش البابا, نظم مكتب الصدر والكنيسة الكلدانية لقاءاً جمع العديد من المهجرين العراقيين تحت شعارات ((لا اكراه في الدين و تضامنا مع المسيحيين المهجرين)). وردا على سؤال عما اذا كان الرئيس الاميركي جورج بوش قادر على حماية المسيحيين في العراق, قالت بحدية و بمرارة شديدة, جيهان لويس منصور, وهي سيدة مسيحية, من ضحايا التهجير القسري من منطقة الدورة في جنوب بغداد: ((من يجب ان يحمينا, انتم ام بوش؟ عليكم انتم حمايتنا كعراقيين. واضافت جيهان لماذا تخلى الجميع عنا؟ لقد شوهوا الدين, والى متى تتركنا الحكومة؟ هناك منشورات تطالبنا بترك بيوتنا ومنطقتنا. يقولون لنا: لا نريدكم هنا نحن (امارة اسلامية) في الدورة, اما تعتنقون الاسلام او تدفعون جزية او تخرجون من هنا )). كلام السيدة المسيحية جيهان لويس الذي قالته وهي في أقسى الظروف, كذلك الفتور الذي ابداه الرئيس الأمريكي بوش أمام البابا تجاه محنة المسيحيين العراقيين في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق الذي يتحمل هذا الاحتلال مسؤولية أخلاقية وسياسية وقانونية تجاه محنة المسيحيين و العراقيين عامة, يدحضان بقوة مزاعم بعض الإسلاميين وكل من يتهم المسيحيين المشرقيين باللاوطنية وبالولاء لأمريكا و للغرب المسيحي. وكانت وكالة آكي الإيطالية قد أوردت أن شخصيات سياسية ودينية مسيحية حملت الحكومة العراقية والقوات المتعددة الجنسيات, مسؤولية ما تتعرض له العوائل المسيحية في العراق. في سياق هذه القضية يجب أن لا يغيب عن بالنا دور ومسؤولية الفكر الإسلامي التكفيري المنغلق وثقافة رفض الآخر والآيديولوجيات المتعصبة السائدة في المنطقة, في صناعة الموت والقتل في العراق عامة ومحنة المسيحيين المشرقيين تحديداً. وقد زادت مخاطر هذه الآيديولوجيات والفكر التكفيري بانتشار الأقنية والمنابر الفضائية المفتوحة. ففي سياق حلقة خاصة قدمتها (فضائية العربية) بتاريخ 11-12- 2006, حول نظرة الإنسان المسلم للوجود المسيحي في المجتمعات الإسلامية, قال الشيخ, محمد عبد الكريم, من جامعة الإمام سعود بن عبد العزيز في الرياض: ((نحن في السعودية لا نتحسس من الكفار الذين يعيشون بيننا فنتعامل معهم في كل شيء في التجارة والصناعة, حتى في السعودية يفضلون ان يكون الخادم او الخادمة من الكفار))سألته مقدمة البرنامج: من تقصد بالكفار, قال: ((المسيحيين وغير المسلمين عامة))وهنا تساءلت: هل يصح تكفير الناس هكذا فقال: ((أنا لا أكفرهم هذا الوصف الحقيقي لهم)). وسألت شيخاً آخر مصرياً مشاركاً في البرنامج عن رأيه بما سمعه قال: ((هذه كلمة استعمالها دارج في مجتمعات الخليج وبعض المجتمعات الإسلامية الأخرى)). من دون شك, مثل هذه البيئة الثقافية والاجتماعية تشكل أرضية خصبة لنمو كل أشكال التعصب والتطرف الديني وتحرض على القتل وتشجع على اعمال العنف الطائفي والمذهبي والفتن داخل المجتمع الواحد. خوفاً من المضاعفات الخطيرة لمثل هذا الفكر الإسلامي التكفيري, التي بدأت تظهر بقوة اليوم في العراق, والى حد ما في مجتمعات اسلامية أخرى, تفضل مختلف المرجعيات المسيحية المشرقية ومعها شرائح واسعة من المسيحيين بقاء الأنظمة الأمنية اللاديمقراطية الحاكمة لدول المنطقة, بالرغم من فسادها وقمعها لشعوبها واستبدادها لها , على أنظمة أخرى اسلامية أو غير اسلامية ضعيفة, قد تجد التنظيمات الإسلامية المتشددة فيها فرصتها لفرض بعض مبادئها وبالتالي النيل من مكانة المسيحيين وتغيير نمط حياتهم والحد من هامش الحريات الدينية والاجتماعية التي ينعمون بها في ظل الأنظمة النصف علمانية القائمة.
سوريا. . . مهتم بحقوق الأقليات.
shosin@scs-net. org
- آخر تحديث :
التعليقات