الشعب العراقي خليط مدهش, فهو ترسانة أديان ومذاهب وقوميات, حقا إنه مثال المجتمع المتنوع دينيا وعرقيا ومذهبيا ولغويا وأديولجيا, وكما يقول بعض علماء الاجتماع أن هذه الظاهرة يمكن أن تشكل عامل قوة, فإن التنوع علامة على الحيوية, ويدفع بهذه الحيوية إلى مزيد من التأ لق والتخليق والتاسيس للجديد والمُستحدَث, ولكنه في الوقت ذاته قد ينذر بخطر شديد, حيث يصل الخطر نقطة الذرورة في الاحتراب الداخلي الذي قد يستمر لأجيال للاسف الشديد, ولا نريد هنا أن استعرض تاريخ هذا التنوع وجوهره وما جرى بسببه في العراق, ولكن أريد أن أ سطر بعض مخاوف مكونات هذ التنوع, في سياق الظروف الحالية التي يعيشها العراقيون, لعل ينفعا في تشخيص المشكل العراقي كمقدمة لطرح بعض تصورات العلاج, أو المعالجة, ومن الله التوفيق..

الطائفة الشيعية
يشكل الشيعة أكثر من ستين بالمائة من سكان العراق, وتتمركز في مناطقهم الثروة النفطية, وكان لهم الدور الرئيسي في تأسيس الدولة العراقية الحديثة, وإلى نباهتهم وحساسيتهم وربما الى بنيتهم الفكرية يرجع الفضل في تأسيس الحركات الرايكالية في العراق, ومنذ العصر البويهي ولحد لحظة سقوط صدام حسين يعانون من التهميش والاضطهاد والخوف, رغم أ نهم أبدوا كل بوادر التوحد مع الآخر, وعاشوا بكل جدية الحس النضالي من أجل العراق وشعب العراق, وقد بلغ إضطهادهم الذروة على يد صدام حسين, ولي المجال يتسع هنا لتفصيل هذه النقطة الحساسة. ولكن سقوط نظام صدام حسين جعلهم عل مقربة من بعض الانجازات, بل حدث تحول كبير في أوضاعهم السياسية بالدرجة الاولى, فقد دخلوا في بنية الحكم كطائفة مشاركة, بل ربما حاكمة طبق بعض التصورات, الامر الذي قلب المعادلة العراقية على مستويات عالية من التغيير, فقد بقي العراق محكوما من قبل طائفة واحدة هي السنة العرب لأكثر من ألف سنة تقريبا. ومهما يكن من أمر, لقد دخل شيعة العراق مرحلة جديدة بعد سقوط صدام حسين ،نقلتهم إلى جوهر العمل السياسي القيادي في العراق. ومن هنا يسجل الشيعة بعض المخاوف في سياق ما يجري من صراع في العراق وعلى العراق, إنهم خائفون, ويمكن أن نسجل بعض معالم أو بعض نماذج هذا الخوف.
1: الخوف من ضياع أو تقلص المكتسبات التي حصلوا عليها بعد التغيير, وتتمركز في المشاركة في الحكم على ضوء نسبتهم العددية, وما قد يستتبع ذلك من مكتسبات أخرى تتعلق بالاعمار والوظائف والحصة من ا لثروة النفطية لمحافظاتهم.
2: يتخوف بعض الشيعة من فيدرالية الجنوب والوسط التي أعلنها عبد العزيز بن سيد محسن الحكيم, فيما هناك شبة إتفاق على الفيدرالية الثلاثية, أو فيدرالية كل محافظة بحد ذاتها.
3: عودة الأوضاع في العراق إ لى المربع الاول, أي سيطرة السنة, وتهميش الوجود الشيعي على كل الأصعدة والمستويات.
4: الخوف من تدويل القضية العراقية, فإن الشيعة يتخوفون من التدويل, ويحسبون أن هذا التدويل موجه ضدهم, خاصة بلحاظ العلاقات السيئة والمتوترة والمضطربة بين إيران والعالم الغربي بشكل عام, وأمريكا على وجه الخصوص, بل وحتى العلاقات المشوبة بالحذر مع عموم العرب.
5: يتخوف الشيعة من التقسيم, أو لنقل بعض الشيعة, لأنه يجعلهم تحت طائلة حصار سني عربي.
لهذا وفي ضوء هذه المقتربات تعمل كل القوى الشيعية تقريبا من أجل المحافظة على مكاسبهم التي حازوا عليها بعد سقوط نظام صدام حسين, ويرى الشيعة إن أي عودة للمربع الاول يقضي ليس بتهميشهم وحسب, بل بتعريضهم إلى مجازر تفوق مجازر المقابر الجماعية, هناك خوف عارم يجتاج الذات الشيعية العراقية من هذا المصير فيما عادت السيطرة السنية على دفة الحكم في العراق, يعزز هذا ا لخوف وجود محيط إقليمي سني متخوف من بروز شيعي في العراق, كما أن إيران ليست مستعدة للدخول في مغامرة كبرى من أجل الوقوف إلى جانب الشيعة العراقيين فيما لو تعرضوا لإبادة جماعية أو سلسلة من الإبادات الجماعية.
الشيعة مصابون بالهلع, فهم يرون أنفسهم في محيط معاد, طائفة محشورة في الزاوية الحرجة, في دائرة، وليس على محيط هذه الدائرة يمكن أن يستغلوه كمنفذ للخلاص, بل خارج الدائرة تتربص بهم محطات متخوفة, ولذا لا مجال للشيعة غير التقوي بالذات, والاعتماد على الذات, والالتفاف حول الذات.

الطائفة السنية
السنة حكام العراق, وهم يشعرون بإن ذلك ميزة أشبه بالقدرية, ولذا يشعرون بالخيبة, بل بصدمة جوهرية فيما يرون إلى جانبهم من يشارك في صنع القرار السياسي العراقي, من شيعة وأكراد وتركمان. وعلى كل حال, للسنة تخوفاتهم من مما يجري في العراق, ويمكن أن نجمل بعضها فيما يلي.
1: يتخوف سنة العراق من سيطرة شيعية غالبة على الحكم, بل بعضهم يتخوف أو يخاف من وضع العراق حتى من التساوي في حصص القوة والسلطة والثروة. باعتبار إن ذلك خلا ف صيرورة التاريخ, خلاف ما تمخض عنه التاريخ من تجربة أستمرت لأكثر من ألف سنة, بل قد يكون ذلك خلاف بعض مكونات اللاشعور الدينية.
2: يتخوف السنة من مشروع الفيدرالية في كل أشكاله, هناك تنافي مطلق بين فكرة الفيدرالية والموقف السني العراقي بلا تراجع, فإن الفيدرالية في تصور الفكر السياسي السني يحصر السنة في مناطق جدبة, يحرمهم من الثرووة والقوة, ويجعل منهم طائفة مستضعفة, ولا يقبلون بأي ضمانات من الحكومة المركزية, بل حتى ضمانات دستورية, بل هم يؤكدون على الدولة العراقية الموحدة او العراق الموحد كما هو الوضع الإداري منذ تكون الدولة العراقية.
3: يتخوف سنة العراق من نفوذ إيراني طاغ في العراق, واليوم تطرح الجبهات السنية صراحة هذا التخوف, وترى في التدخل الايراني بشؤون العراق وتغلغله كما تدعي في مؤسسات الدولة خطرا على التواجد السني بشكل عام.
4: يتخوف سنة العراق من التقسيم, لأن التقسيم قد يحرم السنة من الثروة النفطية.
يجازف السنة اليوم بكل ما عندهم من قوى وإمكانات وقدرات للحيلولة دون هذه المخاطر, ويجدون دعما إقليميا متزايدا, ويبدو إن هذ الدعم في طريقه للتصاعد في ظل الصراعات الا قليمية في العراق وعلى العراق. ولكن هناك إنقسامات حادة في الجسم السني العراقي حول الكثير من القضايا, من جملتها كيفية التعامل مع قوات الاحتلال كما يعبرون عن ذلك, ومن جملتها الموقف من العملية السياسية, ومن جملتها الموقف من تنظيم القاعدة, ولكن ما يجمع الكل, هو الحيلولة دون غلبة شيعية على الحكم, وضرورة الحفاظ على الموقع القيادي للسنة وبشكل فاعل, ومن ثم الحيلولة دون الفيدراليات بكل أشكالها وألوانها, ومهمات أ خرى.
ملاحظة: يهدف الشيعة بشكل عام إلى الاحتفاظ بالمكاسب الجوهرية التي حصلوا عليها بعد التغيير, فيما يهدف السنة إلى إعادة الوضع على ما كان عليه سابقا, ولكن يبدو لي أنهم أدركوا بان المعادلة تغيرت, وإن مستجدات حصلت تحول دون هذه الهدف الاستراتيجي الكبيربالنسبة لهم, الامر الذي جعل بعضهم يفكر بتحجيم هذه المكاسب إلى أدنى سقف ممكن وليس إقصائها. إن تخوفات بعض السنة من الوجود الامريكي ربما يتحول إلى رضا في حالات كثيرة، بل إلى طلب جوهري, منها: فيما لو شعروا بخطر التفتت, وبقوة الآخر, ومنها: لوأن الأمريكان تفهموا المطالب السنية ووجد السنة فيهم داعما, وهناك تقارب سني أمريكي في على مستوى الكثير من القوى والشخصيات, وربما يتطور مستقبلا. ولعل تسليح بعض العشائر السنية على يد القوات الامريكية من معالم هذه التقارب. ولذلك من الصعب ألقول أن هناك موقفا أمريكيا نهائيا من سنة العراق, كذلك من الصعب القول بإن هناك موقفا سنيا نهائيا من الوجود الأمريكي, فالمعادلة محكومة بالمصالح أوّلا وألآخرا.

الاكراد
يتخوف الأكراد في سياق هذه الفوضى العارمة في العراق في الدرجة الأولى من تغييب قضية كركوك, قانون 140 يعتبر مصيري بالنسبة لأكراد العراق, وليس هناك تساهل في صدده, فكركوك لب المعركة الكردية في الحاضر والمستقبل , يتخوفون أيضا من أي تقارب سني شيعي عراقي, لان ذلك يخل بموازين القوى داخل ا لعراق, ولا يصب في صالح الأكراد في النتيجة, فيما يحرصون على توطيد أو توكيد التحالف مع الشيعة, وهناك هاجس مهم يجمع الجانبين, فشيعة العراق أقلية مسلمة بين سنة العالم, والاكراد أقلية قومية في العالم العربي. يتخوف الا كراد كذلك من أي تقارب أو تعاون دبلوماسي عميق وفاعل بين دولة العراق الحديثة وتركيا, وفي هذا السياق ينتاب الاكراد خوف شديد من أي قرار تركي يقضي باجتياح الشما ل. أن وضع الاكراد في العراق لا يحسد عليه با لتحليل الاخير, فهم محاطون بدول وأنظمة تنظر إليه بعين الريبة, كما أن عملة التوازن بالنسبة لهم داخل العراق محفوف بالكثير من الصعوبات, وأعتقد سوف لا يفرطون بعلا قتهم الاستراتيجية مع الامريكان, ولا يفرطون بتحالفهم مع شيعة العراق.

التركمان
التركمان أقلية تعاني من إضطهاد مزدوج, من الأخر، سواء كان كرديا أو عربيا, خاصة التركمان الشيعة, وجوهر تخوفهم من أن تتحول كركوك عاصمة كردية, مستقبل التركمان في العراق يكمن في تأمين وجودهم الفاعل إقتصاديا وسياسيا وأمنيا واجتماعيا في كركوك, بطبيعة الحال يتخوفون من أي تقارب كردي عربي, فذلك سيكون على حساب مصالحهم وقوتهم ونفوذهم, يتقوى التركمان بتركيا, ليس لهم داعم سوى تركيا تقريبا, ربما يحصل عملية تفكيك بين التركمانية و المذهبية الدينية بسبب تحالف كردي / شيعي, الأمر الذي يقضي المزيد من الاعتماد على تركيا.

الأقليات الدينية والأثنية الصغيرة
تتخوف هذه الأقليات ( المسيحيون, الصابئة, الأشوريون, الشبك, الأيزيديون... ) من إستمرار التهميش والحذف والتهجير, والتحكم بهم من فوق, كما هو حاصل بالنسبة لكثير من المندائيين والمسحيين على يد القاعدة, وبعض متعصبي الإسلام السياسي في الموصل والبصرة وغيرها من المحافظات, نستطيع القول أ ن هذه الأقليات محرومة من كل داعم خارجي تقريبا.

خاتمة مهمة
تتعزز هذه المخاوف بكثرة من العوامل والاسباب ذات أهمية كبيرة, منها: إنعدام الثقة بين الاطراف, وقد ساهم صدام حسين بقوة في تأسيس هذه الظاهرة المقيتة, ومنها: غياب المشروع الوطني الشامل, ومنها: تجسيد المحاصصة كمبدأ وطريق وتوازن, ومنها: غياب الثقافة الوطنية, ومنها: تسييد المصالح الشخصية والاسرية والحزبية والعشائرية, ومنها: تغييب دور المثقف العراقي من قبل السلطة وقوى التحكم الاجتماعي في المجمتع, ومنها: غياب الحالة النقدية الصريحة.